إن الاتجار بالبشر ظاهرة قديمة قدم التاريخ، وأخذت هذه الظاهرة أشكالاً مختلفة وأساليب متعددة ومورست لغايات متباينة، فكانت تجارة البشر في السابق تمارس لأغراض العبودية والاسترقاق، إلا أنها كانت تُمارس بحرية ودون قيود حتى ظهور الديانات السماوية والنظم والقوانين الحديثة التي حاربتها وعدتها جرائم يعاقب عليها القانون.
شهد المجتمع الدولي، في الآونة الأخيرة، ظواهر وجرائم خطيرة لم تعرف لها الإنسانية مثيلاً وتنوعت هذه الظواهر من حيث الطرق والأساليب، وتعد هذه الجريمة شكلاً حديثاً من أشكال الرق، فإذا كانت الصورة المألوفة في السابق هي استرقاق العبيد وتقييدهم بسلاسل حديدية هي الصورة التقليدية المأخوذة عن الاتجار في الماضي، فإن عصرنا الحالي يكشف لنا عن أن المجتمعات قد نجحت في الثورة على ما سبق من أفعال، وذلك بتجاوز الشكل التقليدي المتمثل بالرق والاستعباد، فزالت بذلك الصورة القديمة، إلا أن هذا الفعل ما زال قائما حتى يومنا هذا، لكن بصور وأشكال أكثر تطوراً وأساليب متنوعة ومستحدثة تتضمن كافة صور الاستغلال والقسوة والاستعباد وامتهان سائر الحقوق لضحايا الاتجار بالبشر من أجل تحقيق مكاسب مادية من خلال استغلال الضحايا.
ورغم أن مختلف التشريعات السماوية والوضعية أكدت على مبدأ تكريم الإنسان وحرمة جسده وفي مقدمتها الشريعة الإسلامية كما أتت به في هذا المجال مصداقا لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً ﴾، وكذا ما جاءت به المواثيق الدولية العالمية والإقليمية، وما أقرته دساتير الدول وقوانينها الداخلية التي أكّدت على ذات المبدأ،ومن ذلك ما ورد في نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أنه: "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص ويحظر الاستعباد والاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها".
يدخل هذا النوع من الإجرام ضمن الجريمة المنظمة، والتي تقوم بها عصابات إجرامية احترفت الإجرام، وجعلته محور ومجال نشاطها، ومصدر دخلها بهدف الحصول على المال مستخدمة لأجل ذلك، وسائل متعددة ومختلفة بعضها قديم، والبعض الآخر حديث ومبتكر، بما يتناسب مع الوسائل الحديثة التي تستخدم في ارتكابها لهذه الجرائم، وبذلك تكون جرائم الاتجار بالبشر ذات طبيعة خاصة، موضوعها فئة خاصة من بني البشر، وهم الذين يعانون الفقر والحاجة والبطالة، وينعدم لديهم الأمن الاجتماعي، وهذا النوع من الإجرام لا يرتكب داخل إقليم الدول فحسب، بل إنه يتعدى الحدود الإقليمية لها؛ أي أنه عابر للحدود الوطنية.
إن ما زاد من حدة هذا النوع من الإجرام غياب الإجراءات القانونية لمكافحة هذه المشكلة أو عدم تفعيل القوانين القائمة وفقا للاتفاقيات الدولية في هذا المجال، وكذا الاختلافات حول القواعد الدينية والقيم الأخلاقية بين الدول، وهو ما جعل من هذه العبودية المعاصرة المتمثلة في الاتجار بالبشر أشد خطرا من العبودية القديمة.
لذلك، كان لابد من مكافحة هذه الجريمة والقضاء عليها للحفاظ على إنسانتهم وحقوقهم التي كفلتها لهم الاتفاقيات الدولية وكافة القوانين الوطنية.
بناء على ما سبق تضافرت الجهود الدولية والوطنية لمكافحة هذه الجريمة من خلال الاتفاقيات الدولية التي جرمت الأفعال والوسائل التي تعد اتجارا بالبشر، وتكفل حقوق ضحايا الاتجار، وتلزم هذه الاتفاقيات الدول الموقعة عليها بتبني قوانين وطنية لمكافحة هذه الجريمة، لذلك نجد أن كافة الدول تقريبا أصدرت قوانين لمكافحة ومنع الاتجار بالبشر، وحاولت أن تكون هذه القوانين صارمة قدر الإمكان ومناسبة لمكافحة هذه الجريمة.
انضم المغرب مؤخرا إلى لائحة البلدان التي أصدرت تشريعات لمكافحة جريمة الاتجار بالبشر، فأمام توالي الكشف عن تفكيك الشبكات المتورطة في الاتجار بالبشر في إطار الهجرة السرية، وهي شبكات تعرف نموا مطردا نظرا للموقع الجغرافي للمغرب، فإنه يعد بلدا مستهدف من طرف شبكات الاتجار بالبشر، لذا انخرط المغرب في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان ذات صلة بمكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر، وصادق على العديد من الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات في هذا المجال.
في شتنبر من عام 2016، دخل قانون جديد متعلق بمكافحة الاتجار بالبشر حيز التنفيذ بالمغرب، بناءً على انضمام المملكة إلى البرتوكول الملحق بالاتفاقية الدولية لمنع الجريمة عبر الوطنية المتعلق بالاتجار بالبشر، خاصة النساء والأطفال، وفي وقت كانت هذه الجريمة قد استأثرت بالاهتمام الأممي. وجاء اعتماد هذا القانون، رقم 27.14، على اعتبار أن المغرب لم يعد في مأمن من هذه الجريمة وتداعياتها المختلفة، سواء تعلق الأمر بالاستغلال في العمل أو الاستغلال الجنسي؛ وهي المعطيات التي سبق أن أكدتها دراسات من بينها تلك التي أعدتها وزارة العدل بتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للمرأة.
يزداد الوضع سوءاً مع تكاثر أفواج المهاجرين الراغبين في العبور إلى أوروبا، وتفشي وكالات الوساطة في الخدمة في المنازل التي تستورد الخدم، ليس فقط من الدول الإفريقية، بل كذلك من الدول الأسيوية، كما هو الأمر أيضاً بالنسبة لوضعية المغربيات المتجهات إلى دول الخليج، واللواتي يسقطن ضحايا شبكات الاتجار بالبشر.
تكمن أهمية هذا الموضوع في مدى خطورة ظاهرة الاتجار بالبشر، وما تثيره من مخاوف عدة بسبب سرعة انتشارها، وصعوبة إحكام مرتكبيها وكذا عدم حصانة أي دولة في مواجهتها، خاصة مع غياب أية معلومات رسمية، وإن وجدت فإنها لا تعكس الواقع الحقيقي للجرائم المرتكبة، كما لا يجب أن نغفل تنامي وتكاثر دور عصابات الجريمة المنظمة الداعمة وبقوة لجرائم الاتجار بالبشر. والغريب أنه مقابل هذا الاتساع والتنامي، نسجل قلة الأبحاث العلمية والقانونية بشأن هذا الموضوع على اعتبار حداثة التشريعات الصادرة بشأنه؛ فالمشرع الفرنسي، مثلا، أصدر القانون المتعلق بالاتجار بالبشر سنة 2003، والمشرع الإماراتي أصدره سنة 2006 –والذي يعد الأول من نوعه على مستوى الوطن العربي-، بينما انتظر المشرع حتى سنة 2016 المغربي لإصدار القانون رقم 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر.
إن اختيارنا لهذا الموضوع، وإن كان بتحفيز من طرف الأستاذ المشرف، لم ينشأ تلقائيا، وإنما جاء تعبيرا عن إيمان عميق بما تشكله هذه الجريمة البشعة في حق الإنسانية من خطر كبير خصوصا أنها تستهدف فئات من المجتمع كالنساء والأطفال، وأيضا إيجاد حل لمعضلة واقعية تهدد بخطر كل من جعلته الظروف يقع ضحية لها، من خلال التعريف بها، بيان صورها وكشف وسائلها للتوصل للسبل المثلى لمنع زحفها وتتبع عصابات الإجرام القائمة عليها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من خلال إيمان كل واحد منا بان التّصدي لها دفاع عن الإنسان وحفظا لحقوقه وحرياته التي ما وجدت التشريعات السماوية ولا الوضعية إلا لصيانتها والذود عنها.
وعلى هذا الأساس، وبعد كل الذي قلناه بصدد هذا الموضوع، ومادام الهدف الرئيسي من هذا البحث هو الكشف عن أهم الآليات القانونية لمكافحة جرائم الاتجار بالبشر سواء على المستوى الوطني أو الدولي، والنظر في مدى إمكانية نجاحها في التصدي لهذه الظاهرة، في أفق البحث عن السبل الكفيلة بالحد من خطورتها أو على الأقل التخفيف من حدتها، تثار إشكالية محورية نصوغها على النحو الآتي:
إلى أي حد توفق التشريع الوطني والدولي في مكافحة جرائم الاتجار بالبشر؟
وإذا كانت طبيعة الموضوع تحدد المنهج المتبع في مقاربته، فإن هذا الموضوع والمتضمن لجرائم الاتجار بالبشر وآليات مكافحتها وفقالتشريع المغربي والدولي، نظرا لاتساعه وتشعبه، حتم علينا الاستعانة بمناهج عدة؛ انسجاما مع طبيعة الموضوع، تمت الاستعانة بالمنهج الوصفي والمنهج التحليلي من أجل التطرق إلى الجهود الدولية من خلال الاتفاقيات الدولية وكذلك الاتفاقيات الإقليمية لمكافحة جرائم الاتجار بالبشر بكافة صورها المتعددة، بالإضافة إلى الجهود الوطنية من خلال مقتضيات القانون رقم 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر، فضلا عن المنهج المقارن لإبراز التشابه والاختلاف بين النصوص القانونية الوطنية والتشريعات الدولية.
لبلوغ ذلك، ارتأينا تقسيم هذا العمل إلى فصلين متداخلين: خصص الأول لجريمة الاتجار بالبشر وآليات مكافحتها وفق التشريع الدولي،وذلك من خلال بيان ماهية جريمة الاتجار بالبشر من حيث مفهومها، وخصائصها وأسبابها، وكذلك التطرق إلى الآليات الدولية لمكافحة جريمة الاتجار بالبشر، على المستوى الدولي و الإقليمي، بينما سلط الفصل الثاني الضوء على التشريع المغربي من خلال القانون رقم 27.14، وذلك من خلال الحديث عن أركان جريمة الاتجار بالبشر من حيث محل جرائم الاتجار بالبشر و صورها، وركنها المادي والمعنوي، والعقوبات المقررة لردع مرتكبيها، وكذا ظروف التشديد والتخفيف، دون إغفال الإشارة إلى أسباب الإعفاء منها، وذلك كآلاتي:
الفصل الأول: جريمة الاتجار بالبشر وآليات مكافحتها وفق التشريع الدولي
الفصل الثاني: مكافحة جريمة الاتجار بالبشر في ظل القانون رقم 27.14
أرشيف وجهة نظر
نحو رؤية مندمجة للجالية المغربية
|
نسخة كاملة من بحث تحت عنوان: جريمة الاتجار بالبشر في ضو...الاثنين 2 سبتمبر 2019
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"
عناوين أخرى
تعليق جديد
|
أرشيف الدراسات و الأبحاث
باحثة تخلص إلى ضرورة تطوير آليات قانونية تسمح بالتفاعل المنظم بين البرلمان والفاعلين من القطاع الخاص
|
|||||||||
|