تقديم:
كثيرا ما تناسلت العديد من التساؤلات حول المؤسسة البرلمانية في المغرب بحكم جملة الاعتلالات والاختلالات التي تعتريها سواء على مستوى البنية أو الوظيفة ،فتعددت الانتقادات وتوسعت دائرة المنادين بضرورة الإصلاح وتفعيل دور البرلمان في النسق السياسي من خلال تعزيز سلطته في التقرير وصنع التشريع والمساهمة في بلورة السياسات العامة ،وطالما شكلت المطالبة بإصلاح المؤسسة البرلمانية مكانة محورية في مطالب الإصلاح السياسي والدستوري لدى مختلف الفعاليات السياسية والمدنية.
وبالنظر إلى متن دستور 2011،نجده يحمل مجموعة من التعديلات تمس العمل البرلماني سواء على المستوى المؤسساتي وحجم ونوعية الاختصاصات التي أضحى يتمتع بها البرلمان في المجالات التشريعية والرقابية والدبلوماسية مع التنصيص التفصيلي على حقوق المعارضة البرلمانية والتدقيق فيها (الفصل 10)،وكلها مقتضيات جاءت على محمل تحقيق الفعالية والمردودية على مستوى الفعل البرلماني والتأسيس لانطلاقة جديدة وجيدة للعمل البرلماني تقطع مع العهد السابق والممارسات البرلمانية المعيبة والسلبية.
ولا شك أن في اعتماد مقاربة نقدية موضوعية قد ينتابها نوع من الشك والريب وغياب الموضوعية بفعل إن برلمان دستور 2011 يوجد في بداياته الأولى إلا أنها يمكن أن تشكل مؤشرات دالة على مدى وجود عناصر الاستمرارية آم إن الأمر يتعلق بقطيعة فعلية تستدل على انطلاقة جديدة تستجيب لمختلف الانتظارات المجتمعية ،إلا أن مكامن الاعتمال البرلماني تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا بصدد اجترار الماضي البرلماني واستدماجه في الحاضر بجل اعتلالاته ومعضلاته، وعلى الرغم من هذه الدفعة الدستورية للبرلمان فان البدايات والمؤشرات للسنة التشريعية الأولى،لا تحمل معها بشائر اليمن، وليست مبعث خير وتكرس عناصر الاستمرارية على أكثر من صعيد والتي يمكن مناقشتها فيما يلي:
أولا:النخبة البرلمانية بين التجديد وانحصار الفعل.
فعلى الرغم من محاولات تشبيب البرلمان ووجود نسبة من التجديد على مستوى النخبة البرلمانية إلا أن هناك النخبة التي تشكل النواة الصلبة للبرلمان وهي المهيمنة والمستمسكة بدواليب العمل البرلماني والمستحكمة والمتحكمة فيه وكرست ثقافة برلمانية خاصة بها تحفظ تسيدها وتصون مصالحها ويتعلق الأمر "بقيادات حزبية " طال بها المقام في البرلمان ،وهي أيضا ليست بالنخبة البرلمانية المحترفة ورغم السنين والتمرس ،فإنها لم تكتسب الخبرة الكافية والتقنيات اللازمة التي تجعلها في موقع الاستفادة منها من طرف البرلمانيين الجدد ،وهي بفعلها تساهم في استمرارية وبقاء العمل البرلماني على حاله،ولم تساهم إلا في تكريس ثقافة برلمانية سلبية.
ومن بين الإرهاصات والمخاضات التي يعيش على إيقاعها برلمان 2011،على مستوى النخب هو ذلك "الصراع الجيلي" بين نخبة برلمانية قديمة وأخرى جديدة تتشكل من الشباب،صراع حول محاولات إثبات الذات من طرف هذه الفئة الجديدة ،التي تجد موانع مختلفة سببها الثقافة البرلمانية السائدة،لدى الجيل القديم حيث يوجد نوع من التجاذبات بين الطرفين في نهاية المطاف تنتصر لهذه الأفكار القائمة والثابتة،مما يؤدي إلى تكون حالة الإحباط وصعوبة التكيف مع طبيعة العمل البرلماني لدى هذا الجيل الجديد،وهذا ما عبر عنه العديد من البرلمانيين من الشباب .
وبالإضافة إلى ذلك نجد استمرارية "نمط التعاطي المختل" للبرلماني مع عمله ،فالبرلماني مازال يتعامل مع مجمل واجباته ومسؤولياته بنوع من الاتكالية ولا يبذل المجهودات الكافية لجمع المعلومات التي تعينه في ممارسة العمل التشريعي والرقابي ويفتقد إلى الحس البرلماني والإرادة الكافية في القيام بأدواره على أحسن وجه ،فالبرلمان المغربي لا يعرف ذلك البرلماني المبدع /المنتج والمثابر في جل المجالات وإنما الغالبية يستهويها الركون وانتظار ما يمكن أن تجود به الحكومة خصوصا في مجال التشريع وهذه الاخيرة مدركة تماما انه حتى مقترحات التعديل التي يتقدم بها البرلمانيون حول مشاريع القوانين غالبا ما تكتسي طابع العمومية وغير ملائمة والنقاشات غالبا ما تكون ذات طابع سياسي ولا تنفذ إلى عمق الإشكالات التي تطرحها هذه التشريعات.
ثانيا:عسر ميلاد الاقتدار التشريعي للبرلمان.
إن الفعالية البرلمانية تقترن بالرفع من مستوى التنافسية التشريعية للبرلمان مقارنة مع الحكومة خصوصا وان الدستور بتعديلاته وسع من مجال الاختصاص البرلماني ،إلا انه تبين من خلال القوانين المصادق عليها أو المحالة على اللجان للدراسة أو التي هي قيد الدراسة والمناقشة استمرار الهيمنة الحكومية على مستوى التقدم بمشاريع القوانين مع ضعف المبادرة التشريعية للبرلمان،وبالتالي يظل الاقتدار التشريعي للبرلمان محل إشكالية كبيرة تستعصي على الحل على الأقل على مستوى المدى القريب.
فالبرلماني لا يرى في الدور التشريعي أهمية بحكم الافتقاد إلى المعارف العلمية والخبرة والقدرات التقنية التي تؤهله لاكتساب أصول الصياغة التشريعية الجيدة والتي تتطلب بذل مجهودات مضنية على عكس القيام بطرح الأسئلة الشفوية والكتابية التي تعد عملية يسيرة ،والملاحظ أن البرلمانيين يفتقدون إلى التنافسية التشريعية حتى على مستوى النقاشات والتقدم بالتعديلات التي يمكن أن تساهم بشكل فعال في تصويب مختلف القوانين التي هي قيد الدرس والمناقشة ،ويعوض هذا الضعف إما بعدم الحضور أو الاكتفاء بالنقاشات السياسية التي تكتسي طابع احتجاجي للتغطية على قدراته المتواضعة.
وإذا كان من بين الشعارات التي رفعت من اجل تأطير طبيعة العلاقة بين الحكومة والفرقاء البرلمانيين أغلبية ومعارضة خلال هذه المرحلة الدستورية الجديدة هي اعتماد المنهجية التشاركية في تدبير العمل البرلماني خصوصا فيما يتعلق بصناعة التشريع ،إلا أن التجربة في بدايتها بينت بان الأمر لا يخرج عن سياق "الشعاراتية" حيث عمليا تم تهميش المعارضة في معظم التشريعات التي تم اعتمادها وتم تكريس منحى الهيمنة والاستئثار الحكومي بمجال التشريع ،وبالتالي الإجهاز على حقها التشريعي الذي تم صونه بمقتضى الدستور،وعليه تبقى بصفة عامة أجرأة حقوق المعارضة تعرف استعصاءات عملية مردها الضعف الذاتي واستقواء الحكومة بقدراتها التشريعية وبفعل الخبرة التي راكمتها في هذا الجانب على مر الولايات التشريعية .
وبالإضافة إلى هذه المعطيات نجد استمرارية الحكومة في تبني النظرة الضيقة حول مختلف المبادرات التشريعية التي يكون مصدرها البرلمان حيث ترى إن البرلمان لم يبلغ بعد "الرشد التشريعي" الذي يؤهله إلى التقدم باقتراحات قوانين محكمة من حيث الصياغة ومنضبطة لأصول التشريع الجيد مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى إقبار هذه المبادرات أو الدفع بالأغلبية البرلمانية المساندة لها إلى التقدم بها والتي دائما ما تعبر وتنسجم مع السياسة التشريعية للحكومة،حيث يتم تمريرها دون عناء وبيسر وسهولة،
إن الحكومة لا تستسيغ مسالة تفويت الاختصاص التشريعي للبرلمان أو تمكينه من أدوات المنافسة التشريعية ذلك أن المسألة تكيف على أنها صراع الوجود والبقاء وميزان القوى ولا تترك المجال للبرلمان لمراكمة الخبرة والتجربة التشريعيتين ما دام أن الآمر قد يشكل تهديدا حقيقيا لمجال ظل حكرا عليها،وهذا يتجلى من خلال ضعف تواصلها مع البرلمان وممارسة التعتيم المعلوماتي عن البرلمان في مختلف مجالات النشاط البرلماني.
والبرلمان مازال يقبع في الانتظارية ولا يمتلك المبادرة والمبادأة بخصوص التشريع ويخضع للأجندة والخطة التشريعية للحكومة وهذا ما يكرس الهيمنة الحكومية في التشريع وهذا المعطى يؤكد على أن البرلمان والبرلمانيين على اقتناع تام بالدور الثانوي والتبعية للحكومة في صناعة التشريع .
وأظن أن الإنتاج التشريعي للبرلمان يعرف نوع من البطء ،ويبقى الرهان على إخراج القوانين التنظيمية إلى حيز التطبيق خلال هذه الولاية التشريعية التاسعة مسألة غير منظورة خصوصا أن السنة الأولى حملت المصادقة على قانون تنظيمي واحد،وبهذا المعدل وطول سنوات هذه الولاية التشريعية سيؤدي إلى تعطيل تنزيل الدستور،خصوصا وإنها تتعلق بمجالات بالغة الأهمية مرتبطة بماهو مؤسساتي وما يتعلق بممارسة الحريات وحقوق الإنسان،الحكامة والشفافية وحماية المال العام.
ومن بين الملاحظات المستقاة من خلال تتبع الممارسة التشريعية لهذه السنة الأولى من الولاية التشريعية التاسعة نجد أن الحكومة تلجأ إلى أغلبيتها البرلمانية للقيام بالمبادرات التشريعية ،وهذا ما يتبين من خلال استقراء الحصيلة التشريعية،وهذا الأمر يساعد كثيرا الحكومة في تنفيذ مخططها التشريعي ،والذي يساعدها أيضا في إحكام قبضتها وهيمنتها في المجال التشريعي ،وهذا الوضع ومختلف المعطيات التي قمنا بسردها تبين بان التوسيع في مجال الاختصاص التشريعي للبرلمان على المستوى الدستوري لم يوازيه ارتفاع في الحصيلة التشريعية ذات المصدر البرلماني على المستوى العملي أي انه لم يكن في مستوى التطلعات والرهانات.حيث أن البرلمان أمامه وقت طويل لإثبات قدرته التشريعية واثبات ذاتييته في ذلك.
ثالثا:في نهج "الفعل الرقابي المهادن".
يعد الفعل الرقابي للبرلمان المجال الخصب الذي ترتفع فيه أسهم أداء البرلمانيين بفعل تواري الدور التشريعي ،وذلك من خلال استعمال الأسئلة الكتابية والشفوية بشكل كبير نظرا لسهولة إجراءاتها المسطرية وعدم إثارتها المسؤولية السياسية للحكومة،ولعل ما طبع الولاية البرلمانية خلال السنة التشريعية الأولى خصوصا طريقة تعاطي البرلمانيين مع هذا الحق الرقابي يمكن استظهارها من خلال ما يلي:
-اللجوء المكثف نحو استعمال الأسئلة الشفوية لأنها تبقى الوسيلة اليسيرة لإحراج الحكومة خصوصا وأنها تحظى بالتغطية الإعلامية.
- طريقة تقديم هذه الأسئلة حيث أضحت عبارة عن إجراء روتيني غير ذي جدوى أو فائدة، نظرا لطبيعة المواضيع والقضايا التي تطرحها وهي في الغالب مكررة وغير مغرية من حيث قيمة القضايا التي تثيرها.
-الكثير من الأسئلة تظهر أن البرلماني غير متتبع للتطورات بخصوص القضايا التي هي محل التساؤل ،وهذا ما يظهر جليا في طريقة أجوبة بعض الوزراء التي يحاول من خلالها إظهار البرلماني بمظهر الجاهل للأمور مما يسبب الكثير من الإحراج للعديد من البرلمانيين خصوصا اللذين لا يبذلون الجهد في تجميع المعلومات المستجدة.
-هيمنة البعد المحلي على مضامين الأسئلة الشفوية مما يكرس تلك الفكرة السائدة حول البرلماني في المغرب وهي انه مجرد "برلماني الخدمات"، فهذه الأسئلة موجهة أكثر نحو كسب ود الناخبين في الدائرة الانتخابية، أي تحركها بالدرجة الأولى "المصلحة الانتخابية".
-لجوء الحكومة في كثير من الأحيان إلى حجب المعلومات عن البرلمانيين فيما يتعلق بقضايا محددة ومعينة ترى في الكشف عنها ما قد يشكل صك اتهام أو إدانة من طرف الرأي العام الوطني وما يساهم في إفراغ الأسئلة من محتواها هو لجوءها إلى فرض سياسة الأمر الواقع بخصوص طريقة تدبير بعض المشاكل وتبرير فشلها بوجود ظروف قاهرة تستعصي على المواجهة ،أو ربط هذا الاستعصاء في إيجاد الحلول في اعتبارها تركة موروثة عن الحكومات السابقة
-اختلال على مستوى بنية الأسئلة الكتابية والشفوية من حيث الشكل والمضمون،حيث تعتمد الطريقة التقليدية في الصياغة ،وما يثير الانتباه بخصوص الأسئلة الشفوية هو تهجي بعض النواب عند تلاوتها أمام أعضاء الحكومة خصوصا عندما يتعلق الأمر بجبر خواطر بعض النواب البرلمانيين الذين تمنح لهم فرصة الظهور في الإعلام مما ينعكس بشكل سلبي على مستوى صورة البرلمان والبرلمانيين.
-استعمال الأغلبية الأسئلة/المدخل،وهي بمثابة المرهم الذي تحاول من خلاله تمكين الحكومة من استعراض منجزاتها والتركيز على الجوانب الايجابية في عملها وأدائها ضدا على توجهات المعارضة التي غالبا ما تكون أسئلتها الغرض منها الإحراج والإيقاع بالحكومة في الأخطاء والارتباك.
-استمرارية استنفاذ الوقت المخصص للأسئلة الشفوية في تبادل الشكر والامتنان بين الوزير والبرلماني،وهي طريقة يجب تجاوزها والدخول في صلب مضمون السؤال مباشرة دون مضيعة الوقت.
أما فيما يتعلق بالأسئلة الشفوية الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة المنصوص عليها في الفصل 100 من الدستور،وكإجراء رقابي جديد فانه بدوره عرف جملة من الاختلالات،حيث خلق خلافات واسعة بين رئيس الحكومة والمعارضة من حيث الوقت المخصص للفرق البرلمانية المتدخلة ،والوقت المخصص لرد رئيس الحكومة ،وأيضا على مستوى طريقة تدبيرها من طرف الفرق البرلمانية، حيث شهدت نوع من الرتابة ،وشكلت صورة طبق الأصل من الجلسات المخصصة للأسئلة الشفوية من حيث التكرار والروتين وانعدام التواصل بين الحكومة والمعارضة البرلمانية،فهذا التدبير الرقابي الجديد كان من الممكن أن يشكل موعدا حقيقيا للنقاش البرلماني الجاد خصوصا وانه يعرف حضور رئيس الحكومة ،إلا أن الأمر لم يكن في مستوى الرهانات وكرس نفس المسار في الفعل الرقابي دون أن يرقى إلى المستوى المطلوب.
والى جانب الاعتماد المكثف للأسئلة الكتابية والشفوية قامت لجنة التشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب بزيارة استطلاعية ل "سجن عكاشة"،حيث تم الوقوف على مجموعة من الاختلالات،ومن جملتها مشكل الاكتظاظ،ضعف البنية التحتية السجنية،اختلالات على مستوى المصحة والرعاية الصحية،التغذية،المراحيض،غياب التنشئة الدينية والأخلاقية،الحرمان من الخلوة الشرعية،الحرمان والعنف،عدم تصنيف السجناء،السجين والتواصل مع المحيط الخارجي،وضعية السجينات،الفسحة،سوء المعاملة،تفشي الرشوة،شبكة ترويج المخدرات وبيع السجائر والتلفون،بالإضافة إلى الاختلالات المتعلقة بالتكوين وإعادة الإدماج...الخ
وارى انه من الضروري تفعيل هذه الآلية الرقابية وتكثيفها على المؤسسات العمومية من اجل تشديد الرقابة عليها والمساهمة في تقويم طريقة تدبيرها في المجال المالي والبشري وترشيد وعقلنة أدائها مما سيساهم بشكل كبير في تحسين خدماتها وسعيها الدائم والدؤوب نحو تجويد الخدمات التي تقدمها للمواطنين، ولعل في هذه المهام الاستطلاعية ايجابية كبيرة تساهم إلى حد كبير في تنوير الرأي العام وهيئات المجتمع المدني وعليه وعليه وجب الأخذ بمجموعة من التدابير لتفعيل هذه الزيارات الاستطلاعية للجان البرلمانية وفق ما تنص عليه المادة 40 من النظام الداخلي:
-ضرورة تمكين البرلمانيين من دورات تدريبية حول آليات القيام بالمهام الاستطلاعية التي تستلزم عنصر الخبرة والحس البحثي/التحقيقي ،والتدريب أيضا على تقنيات تجميع المعلومات وتحرير التقارير لأنه كما هو معلوم التقرير المنجز حول "سجن عكاشة" حمل جملة من الاختلالات على مستوى بنية اللغة وطريقة التحرير ،وحجم التقرير والخلاصات وطبيعة التوصيات المعتمدة.
-تمكين اللجان المعنية بمختلف وسائل الدعم اللوجيستيكي والكوادر البشرية المعاونة لأعضاء البرلمان بما يكفل حسن استخدام هذه المهام الاستطلاعية
-لا يجب التعامل مع المهام الاستطلاعية من منظور أنها غاية في حد ذاتها،وإنما وسيلة تستوجب القيام بها على أحسن وجه دون أي مركب نقص وبمعزل عن كل الضغوطات والاكراهات التي يمكن أن تحول دون ذلك.
-من الأفضل اعتماد عنصر المفاجئة في اعتماد هذه المهام الاستطلاعية للمؤسسات العمومية لان من بين الإشكالات التي وقف عليها التقرير هو أن العديد من الاختلالات تم تصويبها من اجل تمويه اللجنة ،حيث أنها لا تجسد الوضعية الحقيقية للسجن.
إن الحديث عن الفعل الرقابي المهادن هو إيذان باستمرار النهج البرلماني السابق في الرقابة البرلمانية،حيث يتم الاقتصار فقط على الأدوات الرقابية التي لا تثير المسؤولية السياسية للحكومة مما يجعل الحكومة بمنأى عن المساءلة الحقيقية وتعمل دون ضغوطات جادة من شانها المساهمة في تقويم أدائها ودفعها نحو العمل أكثر بما يتلاءم مع انتظارات المواطنين
رابعا:انكفاء الفعل الدبلوماسي للبرلمان
يظل الفعل الدبلوماسي للبرلمان في دائرة ضيقة على الرغم من الرهانات المعقودة عليه ، وعلى الرغم من حجم التواصل مع العديد من البرلمانات وتبادل الزيارات وتنوع في مجموعات الصداقة البرلمانية ،وإبداء مواقف حازمة بخصوص قضايا دولية والتفاعل مع العديد من الأحداث وتشكيل جبهة برلمانية للدفاع عن القضايا الوطنية بما فيها الوحدة الترابية إلا إن الأمر لا يعدو سوى اجترار لمسلكيات دبلوماسية معهودة وغير متجددة وتفتقد إلى حسن التدبير والتخطيط مما يجعل البرلمان المغربي خارج عن مسارات صناعة القرار الدبلوماسي البرلماني الجيد،ويظل دون مستوى الرهان الدبلوماسي بصفة عامة.
ومن الطبيعي عندما يتعلق الأمر بالعمل الدبلوماسي فانه يفرض نوعا من توحيد الصفوف بين الأغلبية والمعارضة والتنسيق والتحرك وفق أجندة دبلوماسية معدة سلفا من اجل منح الدبلوماسية القوة والدافعية في التأثير على المستوى الخارجي وقد يكون الاختلاف فقط في طريقة التدبير والتصريف ولا محل للخلافات السياسية والحزبية الضيقة عندما يتعلق الأمر بقضايا وطنية تتطلب تجميع الجهود لحسن بناء الفعل الدبلوماسي الجيد ولتوسيع دائرة المؤيدين والتضييق على المناوئين .
إن الارتجالية والصراعات الجانبية يشكلان قمة الهدر الدبلوماسي البرلماني ،والرهان على بعثات برلمانية تتشكل من تركيبة بشرية تفتقد إلى عنصر الخبرة وتعوزها الاحترافية في الممارسة الدبلوماسية مسالة يجب إعادة النظر فيها والقطع معها فلا يمكن للبرلمان المغربي أن يرهن عمله الدبلوماسي لترضية نفوس البرلمانيين و اعتماد فكرة مكافأة بعض البرلمانيين من طرف فرقهم بتمكينهم من بعثة برلمانية إلى الخارج،فالبعثات البرلمانية يجب أن تبنى على الاستحقاق والاقتدار الدبلوماسيين بحكم تعقد العمل الدبلوماسي وحاجته إلى قدرات استثنائية (إتقان اللغات الأجنبية، المعرفة الدبلوماسية الواسعة ،امتلاك تقنيات التواصل والتفاوض....الخ)
خامسا:استمرارية "عقم النقاش البرلماني"
استمرارية الرتابة على مستوى تدبير النقاشات البرلمانية سواء خلال العمل داخل اللجان البرلمانية أو الجلسات العامة التي تكون محط البث التلفزيوني ،حيث غالبا ما تتحول الاختلافات حول الأفكار والآراء إلى صراعات حزبية ضيقة أو خلافات شخصية مما يحول البرلمان إلى ساحة للعراك واللغط والكلام دون معنى وفي كثير من الأحيان تضيع الكلمات تحت وابل من التصفيق والضجيج والفوضى مما يمنع من أي إمكانية لتشكل النقاش البرلماني الجيد وينتج عنه بالمقابل "عقم النقاش "وهذا ما يدفع في اتجاه تكريس تلك الصورة النمطية السلبية لدى الرأي العام حول البرلمان
وإذا كانت البرلمانات المقارنة تشكل مدارس حقيقية للتكوين الديمقراطي والتربية على قيم خدمة المصلحة العامة وهي التي تشكل المشترك بين البرلمانيين على الرغم من وجود الفوارق الأيديولوجية والمذهبية ،حيث يظل البرلمان مجالا رحبا للتلقين والتعلم على السجال والنقاشات الجادة وتحظى بمتابعة كبيرة من طرف المواطنين وتظهر قمة النضج السياسي لدى البرلمانيين في طرح الأفكار ومقارعة الفكرة بالفكرة وامتلاك وسائل الإقناع،فان البرلمان المغربي يظهر على طرفي النقيض من ذلك حيث يجسد "مكلمة " للمبارزة الكلامية تصل إلى حد السب والقذف وأضف إلى ذلك رعونة النقاشات والخلافات وتصفية الحسابات السياسية والشخصية، وكلها تزكي اتجاهات النفور لدى المواطن المغربي أكثر فأكثر.
سادسا: مفارقات "الأغلبية البرلمانية المروضة"
إن الأغلبية البرلمانية المساندة للحكومة لم تنفك من السمة التي طبعت فعلها على مدار التجارب البرلمانية السابقة وهي "الأغلبية الآلية" التي يحكمها دائما منطق الاشتغال ببراديغم"انصر آخاك حتى ولو كان ظالما"وهي بمثابة صمام الأمان للحكومة،حيث تنهج المساندة الدائمة للسياسة الحكومية حتى وان كانت على خطأ ،وتقدم الدعم للحكومة عنادا وضدا على المعارضة البرلمانية وليس في سبيل المصلحة العامة،وفي كثير من الأحيان وتحت ذريعة الانضباط للأغلبية البرلمانية الحزبية تضيع فرص مساهمتها في تصويب وتقويم سياسات الحكومة والارتقاء بالعمل البرلماني وبسلوكها هذا يمكن أن تشكل عامل محفز للحكومة في الاستمرار في ارتكاب الأخطاء والاعوجاج أكثر عن المسار الصحيح في تدبير الشأن العمومي ويفقد معه أيضا معنى ودلالة "البرلماني ممثل الأمة".
وأي حديث عن تفعيل دور البرلمان في المجالين التشريعي والرقابي في ظل الدستور الجديد يمكن تعطيله بفعل عامل الأغلبية البرلمانية سواء على مستوى المبادرات التشريعية التي يكون مصدرها المعارضة أو مبادرات تعديل التشريعات أو استعمال أدوات الرقابة البرلمانية المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة أو الأدوات الرقابية الكلاسيكية العادية(الأسئلة الكتابية والشفوية).
وعند تتبع أداء الأغلبية البرلمانية يتبين أنها تتعامل بنوع من الازدواجية السياسية مع الحكومة خصوصا فريق العدالة والتنمية ،فيلجأ إلى المهادنة وتفادي الانتقادات اللاذعة عندما يتعلق الأمر بوزراء العدالة والتنمية، بينما يرتفع سقف النقد والمعارضة عندما يتعلق الأمر بوزراء أحزاب التحالف الأخرى خاصة وزير الداخلية،مما يساهم إلى حد كبير في خلق نوع من الشنآن السياسي بين التحالف الحكومي،لكن سرعان ما تنطفئ جذوته حرصا على الاستقرار الحكومي والرغبة في إنجاح هذه التجربة المنبثقة من الدستور الجديد ،وحرص القيادات الحزبية في التمسك بالمناصب الوزارية.
وأمام ضعف المعارضة تلجا الأغلبية إلى ممارسة دور الرقيب والحلول محلها ليس بدافع انتقاد الحكومة وإنما تبني خطاب تمويهي في ظاهره يحمل نوع من التعارض مع عمل الحكومة وفي باطنه يثوي عناصر استظهار المجهود الحكومي وتمجيده بشكل من الأشكال وهذا يظهر على أكثر من صعيد خاصة التعمد في إثارة بعض القضايا التي اتخذت فيها الحكومة إجراءات متقدمة وبهدف أيضا التغطية على النواقص وأوجه القصور في الأمور التي قد تساهم في تأليب الرأي العام الوطني عليها.
وهنا يمكن الخروج باستنتاج محوري مفاده أن الحكومة تتمتع براحة سياسية فعلية بفعل الأغلبية المساندة لها وضعف المعارضة ،على الرغم من وجود بعض المناوشات والمناورات التي تقوم بها الأغلبية والمعارضة على حد سواء لكن دون أن تقضي مضجعها مما يفسح لها المجال ويعبد لها الطريق للتسيد في العمل البرلماني وفرض مجمل تصوراتها وأجندتها في العمل والتحرك.
سابعا:المعارضة البرلمانية بين الوهن والاغتراب
من الملاحظ على مستوى المعارضة البرلمانية وعلى الرغم من الحقوق التي تتمتع بها نجد أنها تعوزها الفعالية وتكرس نفس المنحى الذي كانت تسلكه المعارضة البرلمانية السابقة ومن خلال تتبع مساراتها وأدائها خلال هذه السنة التشريعية الأولى يتبين أنها مازالت تجسد وتكرس تلك المعارضة المنبرية التي تنتقد من اجل الانتقاد فقط وهمها الوحيد هو إحراج الحكومة أمام الرأي العام الوطني دون اعتماد النقد البناء فهي لا تشكل المعارضة البديل للسياسة الحكومية والتي من شانها أن تطرح بدائل و بناء تصورات واضحة بخصوص تدبير الشأن العام وهذا ما يفقدها في كثير من الأحيان الصوابية والمعقولية وبدل من أن تكون في مستوى التطلعات نجدها في موضع التعرض لسيل من الانتقادات مما يجعلها معارضة تنحو دون امتلاك بوصلة السير الصحيح ولا تملك مخططا واضحا للتحرك والفعل وهذا يظهر كثيرا على مستوى تدخلاتها بخصوص النقاشات حول التشريع وممارسة دورها الرقابي ومناقشة السياسات العامة
ومكمن هذا الضعف والوهن راجع بالأساس إلى ضعف التنسيق بين مختلف مكوناتها وما يجعلها تفتقد إلى "إيديولوجية هوياتية" نظرا لتعدد مشاربها وما يفرقها أكثر مما يجمعها وذلك لانعدام الحد الأدنى من التقاطعات المذهبية ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بأحزاب الفت العمل الحكومي ويكون فعل الانخراط في المعارضة "اختيار الأخر لحظة وعلى مضض"،أو بمثابة "المنفى الاختياري/الإجباري " بعد انسداد أفق الانتماء إلى التحالف الحكومي والملاحظ أن جل الأحزاب المغربية بغض النظر عن قوتها العددية في البرلمان فهي مشدودة أكثر إلى التحالف الحكومي ولا تستهويها المعارضة،فكيف يمكن الرهان على فعالية المعارضة بأحزاب تفتقد لثقافة المعارضة.وترى في المعارضة على أنها مجرد ترف زائد.
والملاحظ أيضا غياب الوعي لدى المعارضة بحقوقها الدستورية ،فما معنى أن نتحدث عن دسترة المعارضة البرلمانية دون العمل على مأسستها ،فنشهد على مستوى هذه السنة التشريعية غياب التنظيم والتنسيق والتعبئة بين مكوناتها وغياب ما يسمى بقائد المعارضة إذا كنا بالفعل نتحدث عن معارضة فاعلة وفعالة وبالمفهوم المعمول به في النظم البرلمانية المقارنة ،كما إن التركيبة البشرية لهذه المعارضة ظلت لردح من الزمن في حالة من المراوحة بين الأغلبية والمعارضة ،وشهدت الترحال السياسي بين مجموعة من الأحزاب مما اثر بشكل سلبي على أدائها وهي نخبة تشكلت لديها ميولات حكومية أكثر من العمل في المعارضة،مع وجود خليط جديد من النخبة البرلمانية يفتقد إلى عامل الخبرة والتمرس على العمل البرلماني بصفة عامة وعلى المعارضة بصفة خاصة.
وبالإضافة إلى هذه العوامل نجد مسألة القوة العددية للمعارضة البرلمانية .وهذا التجلي يظهر من خلال المقارنة بين المعارضة داخل المجلسين حيث يلاحظ هناك فارق في السرعات والدينامية بينهما بحكم أن المعارضة في مجلس المستشارين لها قوة عددية تؤهلها لان تكون أكثر صدامية مع الحكومة وأكثر فعالية على الرغم من وجود خلل على مستوى طريقة تدبير فعلها المعارضاتي،الذي يفتقد في أحايين كثيرة للموضوعية والعقلانية حيث تنطبق عليها خصيصة "المعارضة من أجل المعارضة".
وتجليات الضعف والوهن بادية على مستوى الفعل التشريعي حيث نجد هيمنة التشريعات ذات المصدر الحكومي و الأغلبية البرلمانية سواء فيما يتعلق بالإحالات الجديدة أو النصوص الجاهزة والتي هي قيد الدرس داخل اللجان أو النصوص المصادق عليها وهذا يؤشر على مسالة قياس مدى استعصاء تنزيل مقتضيات الفصل 10 من الدستور فيما يتعلق بتطبيقات حقوق المعارضة وفي الشق المتعلق بالمبادرة التشريعية.
ثامنا:البرلمان و"سياسة الكراسي الفارغة"
من بين آفات العمل البرلماني ظاهرة الغياب حيث غالبا ما يؤثث البرلمان مشهد "الكراسي الفارغة" كما أن الموجود من البرلمانيين منشغل في التفكير وغير مبال بما يدور في رحى البرلمان ولا يفيق من سباته إلا تحت وقع الصخب البرلماني حالة حدوثه والغريب في الأمر وعلى الرغم من الزيادة العددية في المقاعد والإجراءات العقابية المتخذة في حق البرلمانيين المتغيبين .فإن المشكل ظل دون حل ولازال يراوح مكانه وظلت جل التدابير المتخذة دون جدوى حيث أن العمل داخل اللجان والجلسات العامة يعرف حضورا باهتا مقارنة بالعدد الإجمالي للبرلمانيين (395 برلماني في مجلس النواب)،ونفس الصورة مكرسة على مستوى مجلس المستشارين.
ففعل الغياب هنا يخضع لعنصر التعمد في ارتكابه وان كان البرلماني يعزوه إلى نقص الموارد المالية التي يمكنها تغطية مصاريف التنقل من مقر البرلمان بالعاصمة(الرباط) إلى الدائرة الانتخابية للعضو ،بالإضافة إلى صعوبة التنقل من والى بعض المناطق البعيدة والتي تفتقد إلى البنيات الطرقية والمواصلات بكل أنواعها.
ومن الطبيعي جدا أن ترتفع حناجر البرلمانيين من اجل الرفع من مستوى التعويضات على التنقل واعتماد معيار البعد عن العاصمة مقر البرلمان ومقياس مدى توفر المواصلات وحجم البنيات التحتية مع العلم أن المشكل لا ينحصر في المجال المالي بقدر ما يمتد إلى عوامل أخرى تتعلق بالبرلماني في حد ذاته ومدى التزامه وتوفره على إرادة القطع مع آفة الغياب .
وبالنظر الى هوية الغياب نجده يتخذ أشكالا مختلفة وان كان تحليل الظاهرة ينصب على الغياب بالمفهوم الوجودي للبرلماني ،وعكس ذلك تذهب اتجاهات في إصباغ تصنيفات مختلفة على الغياب ،فهناك الغياب وفق المنظور المادي حيث يغيب البرلماني عن أشغال المجلس ولا يحضر للقيام بمسؤولياته وعمله وهنا يمكن أن نميز بين "الغياب المبرر" نظرا لظروف قاهرة حالت دون حضور البرلماني إلى البرلمان قد تكون ظروف شخصية صحية آو عائلية،آو صعوبة التنقل من بعض المناطق الوعرة التي تعرف ظروف مناخية صعبة للتنقل.إلا أنها تبقى ظرفية ومؤقتة،وسرعان ما يعود البرلماني المعني إلى المواظبة على الحضور.وهناك "الغياب غير المبرر" الذي يعبر عن حالة التعمد ومع سبق الإصرار والترصد،حيث يشكل قمة الاستهتار بالعمل البرلماني وهو الغياب الذي يحضر بقوة في الممارسة البرلمانية بالمغرب.
واستكمالا لهذه التصنيفات نجد هناك "الغياب كرد فعل احتجاجي" من طرف البرلماني على ظروف العمل داخل البرلمان والذي يتولد عن حالة إحباط نفسي يتم تصريفه في الغياب وقلة الدافعية نحو العمل واللامبالاة ،وهي حالة يتقاسمها النذر اليسير من البرلمانيين إلا انه أمام هذه الحالة من الانسداد في الأفق البرلماني لا يعقبها فعل تقديم الاستقالة الذي يمكن أن يشكل كسابقة برلمانية يمكن أن يحذو حذوها العديد من البرلمانيين مما قد يشكل ضغطا في اتجاه الرقي بالعمل البرلماني.
هناك "الغياب الذهني للبرلماني "،حيث يحضر البرلماني بجسده دون عقله وتفكيره حيث يكون شارد الذهن وغير متتبع لما يقع في البرلمان ،وقد يكون تفكيره منشغل بأمور أخرى،قد تكون شخصية آو عائلية أو حزبية،وهناك أيضا "الحضور بطعم الغياب" أو "الحضور من اجل الحضور" ،وفي هذه الحالة لا يبذل البرلماني أي مجهود يذكر في النقاش البرلماني حيث يفتقد إلى عنصر الاستعداد الذهني والبدني وأيضا الاستعداد القبلي ،وهناك "الحضور المصلحي الضيق" ،حيث يكون الحضور هنا من اجل الالتقاء بوزير من اجل قضاء مصالح الدائرة الانتخابية أو بعض البرلمانيين الذين يملكون وساطات نافذة داخل الحكومة للاستفادة منها أيضا.
وبين هذا وذاك نجد عنصر التغييب القسري/الاجباري للمجهود الذي يقوم به البرلماني داخل عمل اللجان،نتيجة القصور الإعلامي في إظهار وتقدير مجهود مجموعة من البرلمانيين اللذين يقومون بأعمال مضنية وجبارة ،بينما لا يولون أهمية كبيرة لحضور الجلسات العامة التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
على سبيل الختم:
إن إنتاج برلمان يشتغل بثنائية الفعالية والعقلانية مسألة غير مرتبطة فقط بما هو دستوري وإنما بتوافر معطيات كثيرة تشكل لوازم ضرورية لا محيد عنها في أي إصلاح منشود من قبيل الاستثمار في تأهيل البنية المؤسساتية للبرلمان ووجود نخبة برلمانية مسئولة تحترف العمل البرلماني ،-لأن عامل الخبرة يطرح نفسه بشدة في ظل تعقد صناعة التشريع وتدبير السياسات العمومية -،وتمكين البرلمان من موارد بشرية كفئة، مع تشكل الإرادة الفعلية بتفعيل مختلف المقتضيات الدستورية الخاصة بالمؤسسة البرلمانية وهي عملية منوطة بمختلف الفاعلين في المجالين السياسي والبرلماني على المستوى الأفقي والعمودي،فالبرلمان وفق المعايير الجيدة هو من يملك السلطة الفعلية التقريرية في السياسات العمومية والاستقلالية في اتخاذ القرارات وليس ذلك البرلمان الذي يشكل امتدادا للسلطة التنفيذية حيث يقوم فقط بإضفاء" الشرعنة "على العمل الحكومي .
فتوالي ضياع الفرص وتفويت التأسيس للبرلمانية المغربية بالمفهوم الذي يستحضر اعتماد معايير الحكامة الجيدة ،مسالة لم تعد مقبولة ومستساغة خصوصا في ظل المخاضات التي تعيشها العديد من الدول المجاورة والانتظارية لم تعد تجدي نفعا في ظل زمن الاحتجاجات والانتفاضات وأظن أن نجاح الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي الحقيقي يمر عبر بوابة الإصلاح البرلماني، لان البرلمان هو المعبر عن نبض الشعوب وأمالها، وهو الذي يرعى مصالح المواطنين ومطالبهم،كما انه من غير المستحب وجوبا أن يقبع البرلمان المغربي في الدرك الأسفل في الوقت الذي تبلورت فيه العديد من المفاهيم الحديثة التي أضحت تؤطر البرلمانية المقارنة فأصبحنا نتحدث عن "البرلمان الالكتروني" و"البرلمان التشاركي" و"الشفافية البرلمانية" ،و"الحكامة البرلمانية" ....الخ،في الوقت الذي مازال فيه البرلمان المغربي يبحث عن هويته بين باقي المؤسسات الأخرى، مع استمرارية الإشكالات العالقة في علاقته بالسلطات الأخرى ،والنقاش حول حجم اختصاصاته ومدى امتلاك أعضائه لعنصر الخبرة والتقنية في الوقت الذي تظل هذه الأمور محسومة في النماذج المقارنة ،فالأمر يسترعي ملاحقة الركب والتكيف مع مختلف هذه المتغيرات القائمة واستثمارها للرقي بالعمل البرلماني إلى ألمصاف الأولى.
---------------------------
المراجع المعتمدة:
+للإشارة فقط،فقد تم التركيز من خلال انجاز هذا التقييم على مجلس النواب ،بدافع انه منبثق عن الانتخابات الأولى التي أجريت في ظل دستور 2011.
-تم الحصول على مجموعة من المعلومات من خلال استقراء أراء عبر عنها مجموعة من البرلمانيين الجدد خصوصا الشباب منهم.
-تتبع العديد من جلسات البرلمان التي يتم بثها بشكل مباشر على أمواج الإذاعة و التلفزة،خصوصا جلسات الأسئلة الشفوية.
-محاضر الجلسات العامة ومحاضر جلسات اللجان.
-النظام الداخلي لمجلس النواب كما صادق عليه المجلس بتاريخ16/02/2012.
-الوثيقة الدستورية ل2011.
-الحصيلة التشريعية لمجلس النواب خلال السنة الأولى من الولاية التشريعية التاسعة(2011/2016)
-الموقع الالكتروني لمجلس النواب المغربي :
www.parlement.ma
-تقرير لجنة العدل والتشريع حول الزيارة الاستطلاعية "للسجن المركزي عكاشة" بالدار البيضاء،دورة ابريل،2011/2012.
كثيرا ما تناسلت العديد من التساؤلات حول المؤسسة البرلمانية في المغرب بحكم جملة الاعتلالات والاختلالات التي تعتريها سواء على مستوى البنية أو الوظيفة ،فتعددت الانتقادات وتوسعت دائرة المنادين بضرورة الإصلاح وتفعيل دور البرلمان في النسق السياسي من خلال تعزيز سلطته في التقرير وصنع التشريع والمساهمة في بلورة السياسات العامة ،وطالما شكلت المطالبة بإصلاح المؤسسة البرلمانية مكانة محورية في مطالب الإصلاح السياسي والدستوري لدى مختلف الفعاليات السياسية والمدنية.
وبالنظر إلى متن دستور 2011،نجده يحمل مجموعة من التعديلات تمس العمل البرلماني سواء على المستوى المؤسساتي وحجم ونوعية الاختصاصات التي أضحى يتمتع بها البرلمان في المجالات التشريعية والرقابية والدبلوماسية مع التنصيص التفصيلي على حقوق المعارضة البرلمانية والتدقيق فيها (الفصل 10)،وكلها مقتضيات جاءت على محمل تحقيق الفعالية والمردودية على مستوى الفعل البرلماني والتأسيس لانطلاقة جديدة وجيدة للعمل البرلماني تقطع مع العهد السابق والممارسات البرلمانية المعيبة والسلبية.
ولا شك أن في اعتماد مقاربة نقدية موضوعية قد ينتابها نوع من الشك والريب وغياب الموضوعية بفعل إن برلمان دستور 2011 يوجد في بداياته الأولى إلا أنها يمكن أن تشكل مؤشرات دالة على مدى وجود عناصر الاستمرارية آم إن الأمر يتعلق بقطيعة فعلية تستدل على انطلاقة جديدة تستجيب لمختلف الانتظارات المجتمعية ،إلا أن مكامن الاعتمال البرلماني تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا بصدد اجترار الماضي البرلماني واستدماجه في الحاضر بجل اعتلالاته ومعضلاته، وعلى الرغم من هذه الدفعة الدستورية للبرلمان فان البدايات والمؤشرات للسنة التشريعية الأولى،لا تحمل معها بشائر اليمن، وليست مبعث خير وتكرس عناصر الاستمرارية على أكثر من صعيد والتي يمكن مناقشتها فيما يلي:
أولا:النخبة البرلمانية بين التجديد وانحصار الفعل.
فعلى الرغم من محاولات تشبيب البرلمان ووجود نسبة من التجديد على مستوى النخبة البرلمانية إلا أن هناك النخبة التي تشكل النواة الصلبة للبرلمان وهي المهيمنة والمستمسكة بدواليب العمل البرلماني والمستحكمة والمتحكمة فيه وكرست ثقافة برلمانية خاصة بها تحفظ تسيدها وتصون مصالحها ويتعلق الأمر "بقيادات حزبية " طال بها المقام في البرلمان ،وهي أيضا ليست بالنخبة البرلمانية المحترفة ورغم السنين والتمرس ،فإنها لم تكتسب الخبرة الكافية والتقنيات اللازمة التي تجعلها في موقع الاستفادة منها من طرف البرلمانيين الجدد ،وهي بفعلها تساهم في استمرارية وبقاء العمل البرلماني على حاله،ولم تساهم إلا في تكريس ثقافة برلمانية سلبية.
ومن بين الإرهاصات والمخاضات التي يعيش على إيقاعها برلمان 2011،على مستوى النخب هو ذلك "الصراع الجيلي" بين نخبة برلمانية قديمة وأخرى جديدة تتشكل من الشباب،صراع حول محاولات إثبات الذات من طرف هذه الفئة الجديدة ،التي تجد موانع مختلفة سببها الثقافة البرلمانية السائدة،لدى الجيل القديم حيث يوجد نوع من التجاذبات بين الطرفين في نهاية المطاف تنتصر لهذه الأفكار القائمة والثابتة،مما يؤدي إلى تكون حالة الإحباط وصعوبة التكيف مع طبيعة العمل البرلماني لدى هذا الجيل الجديد،وهذا ما عبر عنه العديد من البرلمانيين من الشباب .
وبالإضافة إلى ذلك نجد استمرارية "نمط التعاطي المختل" للبرلماني مع عمله ،فالبرلماني مازال يتعامل مع مجمل واجباته ومسؤولياته بنوع من الاتكالية ولا يبذل المجهودات الكافية لجمع المعلومات التي تعينه في ممارسة العمل التشريعي والرقابي ويفتقد إلى الحس البرلماني والإرادة الكافية في القيام بأدواره على أحسن وجه ،فالبرلمان المغربي لا يعرف ذلك البرلماني المبدع /المنتج والمثابر في جل المجالات وإنما الغالبية يستهويها الركون وانتظار ما يمكن أن تجود به الحكومة خصوصا في مجال التشريع وهذه الاخيرة مدركة تماما انه حتى مقترحات التعديل التي يتقدم بها البرلمانيون حول مشاريع القوانين غالبا ما تكتسي طابع العمومية وغير ملائمة والنقاشات غالبا ما تكون ذات طابع سياسي ولا تنفذ إلى عمق الإشكالات التي تطرحها هذه التشريعات.
ثانيا:عسر ميلاد الاقتدار التشريعي للبرلمان.
إن الفعالية البرلمانية تقترن بالرفع من مستوى التنافسية التشريعية للبرلمان مقارنة مع الحكومة خصوصا وان الدستور بتعديلاته وسع من مجال الاختصاص البرلماني ،إلا انه تبين من خلال القوانين المصادق عليها أو المحالة على اللجان للدراسة أو التي هي قيد الدراسة والمناقشة استمرار الهيمنة الحكومية على مستوى التقدم بمشاريع القوانين مع ضعف المبادرة التشريعية للبرلمان،وبالتالي يظل الاقتدار التشريعي للبرلمان محل إشكالية كبيرة تستعصي على الحل على الأقل على مستوى المدى القريب.
فالبرلماني لا يرى في الدور التشريعي أهمية بحكم الافتقاد إلى المعارف العلمية والخبرة والقدرات التقنية التي تؤهله لاكتساب أصول الصياغة التشريعية الجيدة والتي تتطلب بذل مجهودات مضنية على عكس القيام بطرح الأسئلة الشفوية والكتابية التي تعد عملية يسيرة ،والملاحظ أن البرلمانيين يفتقدون إلى التنافسية التشريعية حتى على مستوى النقاشات والتقدم بالتعديلات التي يمكن أن تساهم بشكل فعال في تصويب مختلف القوانين التي هي قيد الدرس والمناقشة ،ويعوض هذا الضعف إما بعدم الحضور أو الاكتفاء بالنقاشات السياسية التي تكتسي طابع احتجاجي للتغطية على قدراته المتواضعة.
وإذا كان من بين الشعارات التي رفعت من اجل تأطير طبيعة العلاقة بين الحكومة والفرقاء البرلمانيين أغلبية ومعارضة خلال هذه المرحلة الدستورية الجديدة هي اعتماد المنهجية التشاركية في تدبير العمل البرلماني خصوصا فيما يتعلق بصناعة التشريع ،إلا أن التجربة في بدايتها بينت بان الأمر لا يخرج عن سياق "الشعاراتية" حيث عمليا تم تهميش المعارضة في معظم التشريعات التي تم اعتمادها وتم تكريس منحى الهيمنة والاستئثار الحكومي بمجال التشريع ،وبالتالي الإجهاز على حقها التشريعي الذي تم صونه بمقتضى الدستور،وعليه تبقى بصفة عامة أجرأة حقوق المعارضة تعرف استعصاءات عملية مردها الضعف الذاتي واستقواء الحكومة بقدراتها التشريعية وبفعل الخبرة التي راكمتها في هذا الجانب على مر الولايات التشريعية .
وبالإضافة إلى هذه المعطيات نجد استمرارية الحكومة في تبني النظرة الضيقة حول مختلف المبادرات التشريعية التي يكون مصدرها البرلمان حيث ترى إن البرلمان لم يبلغ بعد "الرشد التشريعي" الذي يؤهله إلى التقدم باقتراحات قوانين محكمة من حيث الصياغة ومنضبطة لأصول التشريع الجيد مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى إقبار هذه المبادرات أو الدفع بالأغلبية البرلمانية المساندة لها إلى التقدم بها والتي دائما ما تعبر وتنسجم مع السياسة التشريعية للحكومة،حيث يتم تمريرها دون عناء وبيسر وسهولة،
إن الحكومة لا تستسيغ مسالة تفويت الاختصاص التشريعي للبرلمان أو تمكينه من أدوات المنافسة التشريعية ذلك أن المسألة تكيف على أنها صراع الوجود والبقاء وميزان القوى ولا تترك المجال للبرلمان لمراكمة الخبرة والتجربة التشريعيتين ما دام أن الآمر قد يشكل تهديدا حقيقيا لمجال ظل حكرا عليها،وهذا يتجلى من خلال ضعف تواصلها مع البرلمان وممارسة التعتيم المعلوماتي عن البرلمان في مختلف مجالات النشاط البرلماني.
والبرلمان مازال يقبع في الانتظارية ولا يمتلك المبادرة والمبادأة بخصوص التشريع ويخضع للأجندة والخطة التشريعية للحكومة وهذا ما يكرس الهيمنة الحكومية في التشريع وهذا المعطى يؤكد على أن البرلمان والبرلمانيين على اقتناع تام بالدور الثانوي والتبعية للحكومة في صناعة التشريع .
وأظن أن الإنتاج التشريعي للبرلمان يعرف نوع من البطء ،ويبقى الرهان على إخراج القوانين التنظيمية إلى حيز التطبيق خلال هذه الولاية التشريعية التاسعة مسألة غير منظورة خصوصا أن السنة الأولى حملت المصادقة على قانون تنظيمي واحد،وبهذا المعدل وطول سنوات هذه الولاية التشريعية سيؤدي إلى تعطيل تنزيل الدستور،خصوصا وإنها تتعلق بمجالات بالغة الأهمية مرتبطة بماهو مؤسساتي وما يتعلق بممارسة الحريات وحقوق الإنسان،الحكامة والشفافية وحماية المال العام.
ومن بين الملاحظات المستقاة من خلال تتبع الممارسة التشريعية لهذه السنة الأولى من الولاية التشريعية التاسعة نجد أن الحكومة تلجأ إلى أغلبيتها البرلمانية للقيام بالمبادرات التشريعية ،وهذا ما يتبين من خلال استقراء الحصيلة التشريعية،وهذا الأمر يساعد كثيرا الحكومة في تنفيذ مخططها التشريعي ،والذي يساعدها أيضا في إحكام قبضتها وهيمنتها في المجال التشريعي ،وهذا الوضع ومختلف المعطيات التي قمنا بسردها تبين بان التوسيع في مجال الاختصاص التشريعي للبرلمان على المستوى الدستوري لم يوازيه ارتفاع في الحصيلة التشريعية ذات المصدر البرلماني على المستوى العملي أي انه لم يكن في مستوى التطلعات والرهانات.حيث أن البرلمان أمامه وقت طويل لإثبات قدرته التشريعية واثبات ذاتييته في ذلك.
ثالثا:في نهج "الفعل الرقابي المهادن".
يعد الفعل الرقابي للبرلمان المجال الخصب الذي ترتفع فيه أسهم أداء البرلمانيين بفعل تواري الدور التشريعي ،وذلك من خلال استعمال الأسئلة الكتابية والشفوية بشكل كبير نظرا لسهولة إجراءاتها المسطرية وعدم إثارتها المسؤولية السياسية للحكومة،ولعل ما طبع الولاية البرلمانية خلال السنة التشريعية الأولى خصوصا طريقة تعاطي البرلمانيين مع هذا الحق الرقابي يمكن استظهارها من خلال ما يلي:
-اللجوء المكثف نحو استعمال الأسئلة الشفوية لأنها تبقى الوسيلة اليسيرة لإحراج الحكومة خصوصا وأنها تحظى بالتغطية الإعلامية.
- طريقة تقديم هذه الأسئلة حيث أضحت عبارة عن إجراء روتيني غير ذي جدوى أو فائدة، نظرا لطبيعة المواضيع والقضايا التي تطرحها وهي في الغالب مكررة وغير مغرية من حيث قيمة القضايا التي تثيرها.
-الكثير من الأسئلة تظهر أن البرلماني غير متتبع للتطورات بخصوص القضايا التي هي محل التساؤل ،وهذا ما يظهر جليا في طريقة أجوبة بعض الوزراء التي يحاول من خلالها إظهار البرلماني بمظهر الجاهل للأمور مما يسبب الكثير من الإحراج للعديد من البرلمانيين خصوصا اللذين لا يبذلون الجهد في تجميع المعلومات المستجدة.
-هيمنة البعد المحلي على مضامين الأسئلة الشفوية مما يكرس تلك الفكرة السائدة حول البرلماني في المغرب وهي انه مجرد "برلماني الخدمات"، فهذه الأسئلة موجهة أكثر نحو كسب ود الناخبين في الدائرة الانتخابية، أي تحركها بالدرجة الأولى "المصلحة الانتخابية".
-لجوء الحكومة في كثير من الأحيان إلى حجب المعلومات عن البرلمانيين فيما يتعلق بقضايا محددة ومعينة ترى في الكشف عنها ما قد يشكل صك اتهام أو إدانة من طرف الرأي العام الوطني وما يساهم في إفراغ الأسئلة من محتواها هو لجوءها إلى فرض سياسة الأمر الواقع بخصوص طريقة تدبير بعض المشاكل وتبرير فشلها بوجود ظروف قاهرة تستعصي على المواجهة ،أو ربط هذا الاستعصاء في إيجاد الحلول في اعتبارها تركة موروثة عن الحكومات السابقة
-اختلال على مستوى بنية الأسئلة الكتابية والشفوية من حيث الشكل والمضمون،حيث تعتمد الطريقة التقليدية في الصياغة ،وما يثير الانتباه بخصوص الأسئلة الشفوية هو تهجي بعض النواب عند تلاوتها أمام أعضاء الحكومة خصوصا عندما يتعلق الأمر بجبر خواطر بعض النواب البرلمانيين الذين تمنح لهم فرصة الظهور في الإعلام مما ينعكس بشكل سلبي على مستوى صورة البرلمان والبرلمانيين.
-استعمال الأغلبية الأسئلة/المدخل،وهي بمثابة المرهم الذي تحاول من خلاله تمكين الحكومة من استعراض منجزاتها والتركيز على الجوانب الايجابية في عملها وأدائها ضدا على توجهات المعارضة التي غالبا ما تكون أسئلتها الغرض منها الإحراج والإيقاع بالحكومة في الأخطاء والارتباك.
-استمرارية استنفاذ الوقت المخصص للأسئلة الشفوية في تبادل الشكر والامتنان بين الوزير والبرلماني،وهي طريقة يجب تجاوزها والدخول في صلب مضمون السؤال مباشرة دون مضيعة الوقت.
أما فيما يتعلق بالأسئلة الشفوية الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة المنصوص عليها في الفصل 100 من الدستور،وكإجراء رقابي جديد فانه بدوره عرف جملة من الاختلالات،حيث خلق خلافات واسعة بين رئيس الحكومة والمعارضة من حيث الوقت المخصص للفرق البرلمانية المتدخلة ،والوقت المخصص لرد رئيس الحكومة ،وأيضا على مستوى طريقة تدبيرها من طرف الفرق البرلمانية، حيث شهدت نوع من الرتابة ،وشكلت صورة طبق الأصل من الجلسات المخصصة للأسئلة الشفوية من حيث التكرار والروتين وانعدام التواصل بين الحكومة والمعارضة البرلمانية،فهذا التدبير الرقابي الجديد كان من الممكن أن يشكل موعدا حقيقيا للنقاش البرلماني الجاد خصوصا وانه يعرف حضور رئيس الحكومة ،إلا أن الأمر لم يكن في مستوى الرهانات وكرس نفس المسار في الفعل الرقابي دون أن يرقى إلى المستوى المطلوب.
والى جانب الاعتماد المكثف للأسئلة الكتابية والشفوية قامت لجنة التشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب بزيارة استطلاعية ل "سجن عكاشة"،حيث تم الوقوف على مجموعة من الاختلالات،ومن جملتها مشكل الاكتظاظ،ضعف البنية التحتية السجنية،اختلالات على مستوى المصحة والرعاية الصحية،التغذية،المراحيض،غياب التنشئة الدينية والأخلاقية،الحرمان من الخلوة الشرعية،الحرمان والعنف،عدم تصنيف السجناء،السجين والتواصل مع المحيط الخارجي،وضعية السجينات،الفسحة،سوء المعاملة،تفشي الرشوة،شبكة ترويج المخدرات وبيع السجائر والتلفون،بالإضافة إلى الاختلالات المتعلقة بالتكوين وإعادة الإدماج...الخ
وارى انه من الضروري تفعيل هذه الآلية الرقابية وتكثيفها على المؤسسات العمومية من اجل تشديد الرقابة عليها والمساهمة في تقويم طريقة تدبيرها في المجال المالي والبشري وترشيد وعقلنة أدائها مما سيساهم بشكل كبير في تحسين خدماتها وسعيها الدائم والدؤوب نحو تجويد الخدمات التي تقدمها للمواطنين، ولعل في هذه المهام الاستطلاعية ايجابية كبيرة تساهم إلى حد كبير في تنوير الرأي العام وهيئات المجتمع المدني وعليه وعليه وجب الأخذ بمجموعة من التدابير لتفعيل هذه الزيارات الاستطلاعية للجان البرلمانية وفق ما تنص عليه المادة 40 من النظام الداخلي:
-ضرورة تمكين البرلمانيين من دورات تدريبية حول آليات القيام بالمهام الاستطلاعية التي تستلزم عنصر الخبرة والحس البحثي/التحقيقي ،والتدريب أيضا على تقنيات تجميع المعلومات وتحرير التقارير لأنه كما هو معلوم التقرير المنجز حول "سجن عكاشة" حمل جملة من الاختلالات على مستوى بنية اللغة وطريقة التحرير ،وحجم التقرير والخلاصات وطبيعة التوصيات المعتمدة.
-تمكين اللجان المعنية بمختلف وسائل الدعم اللوجيستيكي والكوادر البشرية المعاونة لأعضاء البرلمان بما يكفل حسن استخدام هذه المهام الاستطلاعية
-لا يجب التعامل مع المهام الاستطلاعية من منظور أنها غاية في حد ذاتها،وإنما وسيلة تستوجب القيام بها على أحسن وجه دون أي مركب نقص وبمعزل عن كل الضغوطات والاكراهات التي يمكن أن تحول دون ذلك.
-من الأفضل اعتماد عنصر المفاجئة في اعتماد هذه المهام الاستطلاعية للمؤسسات العمومية لان من بين الإشكالات التي وقف عليها التقرير هو أن العديد من الاختلالات تم تصويبها من اجل تمويه اللجنة ،حيث أنها لا تجسد الوضعية الحقيقية للسجن.
إن الحديث عن الفعل الرقابي المهادن هو إيذان باستمرار النهج البرلماني السابق في الرقابة البرلمانية،حيث يتم الاقتصار فقط على الأدوات الرقابية التي لا تثير المسؤولية السياسية للحكومة مما يجعل الحكومة بمنأى عن المساءلة الحقيقية وتعمل دون ضغوطات جادة من شانها المساهمة في تقويم أدائها ودفعها نحو العمل أكثر بما يتلاءم مع انتظارات المواطنين
رابعا:انكفاء الفعل الدبلوماسي للبرلمان
يظل الفعل الدبلوماسي للبرلمان في دائرة ضيقة على الرغم من الرهانات المعقودة عليه ، وعلى الرغم من حجم التواصل مع العديد من البرلمانات وتبادل الزيارات وتنوع في مجموعات الصداقة البرلمانية ،وإبداء مواقف حازمة بخصوص قضايا دولية والتفاعل مع العديد من الأحداث وتشكيل جبهة برلمانية للدفاع عن القضايا الوطنية بما فيها الوحدة الترابية إلا إن الأمر لا يعدو سوى اجترار لمسلكيات دبلوماسية معهودة وغير متجددة وتفتقد إلى حسن التدبير والتخطيط مما يجعل البرلمان المغربي خارج عن مسارات صناعة القرار الدبلوماسي البرلماني الجيد،ويظل دون مستوى الرهان الدبلوماسي بصفة عامة.
ومن الطبيعي عندما يتعلق الأمر بالعمل الدبلوماسي فانه يفرض نوعا من توحيد الصفوف بين الأغلبية والمعارضة والتنسيق والتحرك وفق أجندة دبلوماسية معدة سلفا من اجل منح الدبلوماسية القوة والدافعية في التأثير على المستوى الخارجي وقد يكون الاختلاف فقط في طريقة التدبير والتصريف ولا محل للخلافات السياسية والحزبية الضيقة عندما يتعلق الأمر بقضايا وطنية تتطلب تجميع الجهود لحسن بناء الفعل الدبلوماسي الجيد ولتوسيع دائرة المؤيدين والتضييق على المناوئين .
إن الارتجالية والصراعات الجانبية يشكلان قمة الهدر الدبلوماسي البرلماني ،والرهان على بعثات برلمانية تتشكل من تركيبة بشرية تفتقد إلى عنصر الخبرة وتعوزها الاحترافية في الممارسة الدبلوماسية مسالة يجب إعادة النظر فيها والقطع معها فلا يمكن للبرلمان المغربي أن يرهن عمله الدبلوماسي لترضية نفوس البرلمانيين و اعتماد فكرة مكافأة بعض البرلمانيين من طرف فرقهم بتمكينهم من بعثة برلمانية إلى الخارج،فالبعثات البرلمانية يجب أن تبنى على الاستحقاق والاقتدار الدبلوماسيين بحكم تعقد العمل الدبلوماسي وحاجته إلى قدرات استثنائية (إتقان اللغات الأجنبية، المعرفة الدبلوماسية الواسعة ،امتلاك تقنيات التواصل والتفاوض....الخ)
خامسا:استمرارية "عقم النقاش البرلماني"
استمرارية الرتابة على مستوى تدبير النقاشات البرلمانية سواء خلال العمل داخل اللجان البرلمانية أو الجلسات العامة التي تكون محط البث التلفزيوني ،حيث غالبا ما تتحول الاختلافات حول الأفكار والآراء إلى صراعات حزبية ضيقة أو خلافات شخصية مما يحول البرلمان إلى ساحة للعراك واللغط والكلام دون معنى وفي كثير من الأحيان تضيع الكلمات تحت وابل من التصفيق والضجيج والفوضى مما يمنع من أي إمكانية لتشكل النقاش البرلماني الجيد وينتج عنه بالمقابل "عقم النقاش "وهذا ما يدفع في اتجاه تكريس تلك الصورة النمطية السلبية لدى الرأي العام حول البرلمان
وإذا كانت البرلمانات المقارنة تشكل مدارس حقيقية للتكوين الديمقراطي والتربية على قيم خدمة المصلحة العامة وهي التي تشكل المشترك بين البرلمانيين على الرغم من وجود الفوارق الأيديولوجية والمذهبية ،حيث يظل البرلمان مجالا رحبا للتلقين والتعلم على السجال والنقاشات الجادة وتحظى بمتابعة كبيرة من طرف المواطنين وتظهر قمة النضج السياسي لدى البرلمانيين في طرح الأفكار ومقارعة الفكرة بالفكرة وامتلاك وسائل الإقناع،فان البرلمان المغربي يظهر على طرفي النقيض من ذلك حيث يجسد "مكلمة " للمبارزة الكلامية تصل إلى حد السب والقذف وأضف إلى ذلك رعونة النقاشات والخلافات وتصفية الحسابات السياسية والشخصية، وكلها تزكي اتجاهات النفور لدى المواطن المغربي أكثر فأكثر.
سادسا: مفارقات "الأغلبية البرلمانية المروضة"
إن الأغلبية البرلمانية المساندة للحكومة لم تنفك من السمة التي طبعت فعلها على مدار التجارب البرلمانية السابقة وهي "الأغلبية الآلية" التي يحكمها دائما منطق الاشتغال ببراديغم"انصر آخاك حتى ولو كان ظالما"وهي بمثابة صمام الأمان للحكومة،حيث تنهج المساندة الدائمة للسياسة الحكومية حتى وان كانت على خطأ ،وتقدم الدعم للحكومة عنادا وضدا على المعارضة البرلمانية وليس في سبيل المصلحة العامة،وفي كثير من الأحيان وتحت ذريعة الانضباط للأغلبية البرلمانية الحزبية تضيع فرص مساهمتها في تصويب وتقويم سياسات الحكومة والارتقاء بالعمل البرلماني وبسلوكها هذا يمكن أن تشكل عامل محفز للحكومة في الاستمرار في ارتكاب الأخطاء والاعوجاج أكثر عن المسار الصحيح في تدبير الشأن العمومي ويفقد معه أيضا معنى ودلالة "البرلماني ممثل الأمة".
وأي حديث عن تفعيل دور البرلمان في المجالين التشريعي والرقابي في ظل الدستور الجديد يمكن تعطيله بفعل عامل الأغلبية البرلمانية سواء على مستوى المبادرات التشريعية التي يكون مصدرها المعارضة أو مبادرات تعديل التشريعات أو استعمال أدوات الرقابة البرلمانية المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة أو الأدوات الرقابية الكلاسيكية العادية(الأسئلة الكتابية والشفوية).
وعند تتبع أداء الأغلبية البرلمانية يتبين أنها تتعامل بنوع من الازدواجية السياسية مع الحكومة خصوصا فريق العدالة والتنمية ،فيلجأ إلى المهادنة وتفادي الانتقادات اللاذعة عندما يتعلق الأمر بوزراء العدالة والتنمية، بينما يرتفع سقف النقد والمعارضة عندما يتعلق الأمر بوزراء أحزاب التحالف الأخرى خاصة وزير الداخلية،مما يساهم إلى حد كبير في خلق نوع من الشنآن السياسي بين التحالف الحكومي،لكن سرعان ما تنطفئ جذوته حرصا على الاستقرار الحكومي والرغبة في إنجاح هذه التجربة المنبثقة من الدستور الجديد ،وحرص القيادات الحزبية في التمسك بالمناصب الوزارية.
وأمام ضعف المعارضة تلجا الأغلبية إلى ممارسة دور الرقيب والحلول محلها ليس بدافع انتقاد الحكومة وإنما تبني خطاب تمويهي في ظاهره يحمل نوع من التعارض مع عمل الحكومة وفي باطنه يثوي عناصر استظهار المجهود الحكومي وتمجيده بشكل من الأشكال وهذا يظهر على أكثر من صعيد خاصة التعمد في إثارة بعض القضايا التي اتخذت فيها الحكومة إجراءات متقدمة وبهدف أيضا التغطية على النواقص وأوجه القصور في الأمور التي قد تساهم في تأليب الرأي العام الوطني عليها.
وهنا يمكن الخروج باستنتاج محوري مفاده أن الحكومة تتمتع براحة سياسية فعلية بفعل الأغلبية المساندة لها وضعف المعارضة ،على الرغم من وجود بعض المناوشات والمناورات التي تقوم بها الأغلبية والمعارضة على حد سواء لكن دون أن تقضي مضجعها مما يفسح لها المجال ويعبد لها الطريق للتسيد في العمل البرلماني وفرض مجمل تصوراتها وأجندتها في العمل والتحرك.
سابعا:المعارضة البرلمانية بين الوهن والاغتراب
من الملاحظ على مستوى المعارضة البرلمانية وعلى الرغم من الحقوق التي تتمتع بها نجد أنها تعوزها الفعالية وتكرس نفس المنحى الذي كانت تسلكه المعارضة البرلمانية السابقة ومن خلال تتبع مساراتها وأدائها خلال هذه السنة التشريعية الأولى يتبين أنها مازالت تجسد وتكرس تلك المعارضة المنبرية التي تنتقد من اجل الانتقاد فقط وهمها الوحيد هو إحراج الحكومة أمام الرأي العام الوطني دون اعتماد النقد البناء فهي لا تشكل المعارضة البديل للسياسة الحكومية والتي من شانها أن تطرح بدائل و بناء تصورات واضحة بخصوص تدبير الشأن العام وهذا ما يفقدها في كثير من الأحيان الصوابية والمعقولية وبدل من أن تكون في مستوى التطلعات نجدها في موضع التعرض لسيل من الانتقادات مما يجعلها معارضة تنحو دون امتلاك بوصلة السير الصحيح ولا تملك مخططا واضحا للتحرك والفعل وهذا يظهر كثيرا على مستوى تدخلاتها بخصوص النقاشات حول التشريع وممارسة دورها الرقابي ومناقشة السياسات العامة
ومكمن هذا الضعف والوهن راجع بالأساس إلى ضعف التنسيق بين مختلف مكوناتها وما يجعلها تفتقد إلى "إيديولوجية هوياتية" نظرا لتعدد مشاربها وما يفرقها أكثر مما يجمعها وذلك لانعدام الحد الأدنى من التقاطعات المذهبية ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بأحزاب الفت العمل الحكومي ويكون فعل الانخراط في المعارضة "اختيار الأخر لحظة وعلى مضض"،أو بمثابة "المنفى الاختياري/الإجباري " بعد انسداد أفق الانتماء إلى التحالف الحكومي والملاحظ أن جل الأحزاب المغربية بغض النظر عن قوتها العددية في البرلمان فهي مشدودة أكثر إلى التحالف الحكومي ولا تستهويها المعارضة،فكيف يمكن الرهان على فعالية المعارضة بأحزاب تفتقد لثقافة المعارضة.وترى في المعارضة على أنها مجرد ترف زائد.
والملاحظ أيضا غياب الوعي لدى المعارضة بحقوقها الدستورية ،فما معنى أن نتحدث عن دسترة المعارضة البرلمانية دون العمل على مأسستها ،فنشهد على مستوى هذه السنة التشريعية غياب التنظيم والتنسيق والتعبئة بين مكوناتها وغياب ما يسمى بقائد المعارضة إذا كنا بالفعل نتحدث عن معارضة فاعلة وفعالة وبالمفهوم المعمول به في النظم البرلمانية المقارنة ،كما إن التركيبة البشرية لهذه المعارضة ظلت لردح من الزمن في حالة من المراوحة بين الأغلبية والمعارضة ،وشهدت الترحال السياسي بين مجموعة من الأحزاب مما اثر بشكل سلبي على أدائها وهي نخبة تشكلت لديها ميولات حكومية أكثر من العمل في المعارضة،مع وجود خليط جديد من النخبة البرلمانية يفتقد إلى عامل الخبرة والتمرس على العمل البرلماني بصفة عامة وعلى المعارضة بصفة خاصة.
وبالإضافة إلى هذه العوامل نجد مسألة القوة العددية للمعارضة البرلمانية .وهذا التجلي يظهر من خلال المقارنة بين المعارضة داخل المجلسين حيث يلاحظ هناك فارق في السرعات والدينامية بينهما بحكم أن المعارضة في مجلس المستشارين لها قوة عددية تؤهلها لان تكون أكثر صدامية مع الحكومة وأكثر فعالية على الرغم من وجود خلل على مستوى طريقة تدبير فعلها المعارضاتي،الذي يفتقد في أحايين كثيرة للموضوعية والعقلانية حيث تنطبق عليها خصيصة "المعارضة من أجل المعارضة".
وتجليات الضعف والوهن بادية على مستوى الفعل التشريعي حيث نجد هيمنة التشريعات ذات المصدر الحكومي و الأغلبية البرلمانية سواء فيما يتعلق بالإحالات الجديدة أو النصوص الجاهزة والتي هي قيد الدرس داخل اللجان أو النصوص المصادق عليها وهذا يؤشر على مسالة قياس مدى استعصاء تنزيل مقتضيات الفصل 10 من الدستور فيما يتعلق بتطبيقات حقوق المعارضة وفي الشق المتعلق بالمبادرة التشريعية.
ثامنا:البرلمان و"سياسة الكراسي الفارغة"
من بين آفات العمل البرلماني ظاهرة الغياب حيث غالبا ما يؤثث البرلمان مشهد "الكراسي الفارغة" كما أن الموجود من البرلمانيين منشغل في التفكير وغير مبال بما يدور في رحى البرلمان ولا يفيق من سباته إلا تحت وقع الصخب البرلماني حالة حدوثه والغريب في الأمر وعلى الرغم من الزيادة العددية في المقاعد والإجراءات العقابية المتخذة في حق البرلمانيين المتغيبين .فإن المشكل ظل دون حل ولازال يراوح مكانه وظلت جل التدابير المتخذة دون جدوى حيث أن العمل داخل اللجان والجلسات العامة يعرف حضورا باهتا مقارنة بالعدد الإجمالي للبرلمانيين (395 برلماني في مجلس النواب)،ونفس الصورة مكرسة على مستوى مجلس المستشارين.
ففعل الغياب هنا يخضع لعنصر التعمد في ارتكابه وان كان البرلماني يعزوه إلى نقص الموارد المالية التي يمكنها تغطية مصاريف التنقل من مقر البرلمان بالعاصمة(الرباط) إلى الدائرة الانتخابية للعضو ،بالإضافة إلى صعوبة التنقل من والى بعض المناطق البعيدة والتي تفتقد إلى البنيات الطرقية والمواصلات بكل أنواعها.
ومن الطبيعي جدا أن ترتفع حناجر البرلمانيين من اجل الرفع من مستوى التعويضات على التنقل واعتماد معيار البعد عن العاصمة مقر البرلمان ومقياس مدى توفر المواصلات وحجم البنيات التحتية مع العلم أن المشكل لا ينحصر في المجال المالي بقدر ما يمتد إلى عوامل أخرى تتعلق بالبرلماني في حد ذاته ومدى التزامه وتوفره على إرادة القطع مع آفة الغياب .
وبالنظر الى هوية الغياب نجده يتخذ أشكالا مختلفة وان كان تحليل الظاهرة ينصب على الغياب بالمفهوم الوجودي للبرلماني ،وعكس ذلك تذهب اتجاهات في إصباغ تصنيفات مختلفة على الغياب ،فهناك الغياب وفق المنظور المادي حيث يغيب البرلماني عن أشغال المجلس ولا يحضر للقيام بمسؤولياته وعمله وهنا يمكن أن نميز بين "الغياب المبرر" نظرا لظروف قاهرة حالت دون حضور البرلماني إلى البرلمان قد تكون ظروف شخصية صحية آو عائلية،آو صعوبة التنقل من بعض المناطق الوعرة التي تعرف ظروف مناخية صعبة للتنقل.إلا أنها تبقى ظرفية ومؤقتة،وسرعان ما يعود البرلماني المعني إلى المواظبة على الحضور.وهناك "الغياب غير المبرر" الذي يعبر عن حالة التعمد ومع سبق الإصرار والترصد،حيث يشكل قمة الاستهتار بالعمل البرلماني وهو الغياب الذي يحضر بقوة في الممارسة البرلمانية بالمغرب.
واستكمالا لهذه التصنيفات نجد هناك "الغياب كرد فعل احتجاجي" من طرف البرلماني على ظروف العمل داخل البرلمان والذي يتولد عن حالة إحباط نفسي يتم تصريفه في الغياب وقلة الدافعية نحو العمل واللامبالاة ،وهي حالة يتقاسمها النذر اليسير من البرلمانيين إلا انه أمام هذه الحالة من الانسداد في الأفق البرلماني لا يعقبها فعل تقديم الاستقالة الذي يمكن أن يشكل كسابقة برلمانية يمكن أن يحذو حذوها العديد من البرلمانيين مما قد يشكل ضغطا في اتجاه الرقي بالعمل البرلماني.
هناك "الغياب الذهني للبرلماني "،حيث يحضر البرلماني بجسده دون عقله وتفكيره حيث يكون شارد الذهن وغير متتبع لما يقع في البرلمان ،وقد يكون تفكيره منشغل بأمور أخرى،قد تكون شخصية آو عائلية أو حزبية،وهناك أيضا "الحضور بطعم الغياب" أو "الحضور من اجل الحضور" ،وفي هذه الحالة لا يبذل البرلماني أي مجهود يذكر في النقاش البرلماني حيث يفتقد إلى عنصر الاستعداد الذهني والبدني وأيضا الاستعداد القبلي ،وهناك "الحضور المصلحي الضيق" ،حيث يكون الحضور هنا من اجل الالتقاء بوزير من اجل قضاء مصالح الدائرة الانتخابية أو بعض البرلمانيين الذين يملكون وساطات نافذة داخل الحكومة للاستفادة منها أيضا.
وبين هذا وذاك نجد عنصر التغييب القسري/الاجباري للمجهود الذي يقوم به البرلماني داخل عمل اللجان،نتيجة القصور الإعلامي في إظهار وتقدير مجهود مجموعة من البرلمانيين اللذين يقومون بأعمال مضنية وجبارة ،بينما لا يولون أهمية كبيرة لحضور الجلسات العامة التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
على سبيل الختم:
إن إنتاج برلمان يشتغل بثنائية الفعالية والعقلانية مسألة غير مرتبطة فقط بما هو دستوري وإنما بتوافر معطيات كثيرة تشكل لوازم ضرورية لا محيد عنها في أي إصلاح منشود من قبيل الاستثمار في تأهيل البنية المؤسساتية للبرلمان ووجود نخبة برلمانية مسئولة تحترف العمل البرلماني ،-لأن عامل الخبرة يطرح نفسه بشدة في ظل تعقد صناعة التشريع وتدبير السياسات العمومية -،وتمكين البرلمان من موارد بشرية كفئة، مع تشكل الإرادة الفعلية بتفعيل مختلف المقتضيات الدستورية الخاصة بالمؤسسة البرلمانية وهي عملية منوطة بمختلف الفاعلين في المجالين السياسي والبرلماني على المستوى الأفقي والعمودي،فالبرلمان وفق المعايير الجيدة هو من يملك السلطة الفعلية التقريرية في السياسات العمومية والاستقلالية في اتخاذ القرارات وليس ذلك البرلمان الذي يشكل امتدادا للسلطة التنفيذية حيث يقوم فقط بإضفاء" الشرعنة "على العمل الحكومي .
فتوالي ضياع الفرص وتفويت التأسيس للبرلمانية المغربية بالمفهوم الذي يستحضر اعتماد معايير الحكامة الجيدة ،مسالة لم تعد مقبولة ومستساغة خصوصا في ظل المخاضات التي تعيشها العديد من الدول المجاورة والانتظارية لم تعد تجدي نفعا في ظل زمن الاحتجاجات والانتفاضات وأظن أن نجاح الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي الحقيقي يمر عبر بوابة الإصلاح البرلماني، لان البرلمان هو المعبر عن نبض الشعوب وأمالها، وهو الذي يرعى مصالح المواطنين ومطالبهم،كما انه من غير المستحب وجوبا أن يقبع البرلمان المغربي في الدرك الأسفل في الوقت الذي تبلورت فيه العديد من المفاهيم الحديثة التي أضحت تؤطر البرلمانية المقارنة فأصبحنا نتحدث عن "البرلمان الالكتروني" و"البرلمان التشاركي" و"الشفافية البرلمانية" ،و"الحكامة البرلمانية" ....الخ،في الوقت الذي مازال فيه البرلمان المغربي يبحث عن هويته بين باقي المؤسسات الأخرى، مع استمرارية الإشكالات العالقة في علاقته بالسلطات الأخرى ،والنقاش حول حجم اختصاصاته ومدى امتلاك أعضائه لعنصر الخبرة والتقنية في الوقت الذي تظل هذه الأمور محسومة في النماذج المقارنة ،فالأمر يسترعي ملاحقة الركب والتكيف مع مختلف هذه المتغيرات القائمة واستثمارها للرقي بالعمل البرلماني إلى ألمصاف الأولى.
---------------------------
المراجع المعتمدة:
+للإشارة فقط،فقد تم التركيز من خلال انجاز هذا التقييم على مجلس النواب ،بدافع انه منبثق عن الانتخابات الأولى التي أجريت في ظل دستور 2011.
-تم الحصول على مجموعة من المعلومات من خلال استقراء أراء عبر عنها مجموعة من البرلمانيين الجدد خصوصا الشباب منهم.
-تتبع العديد من جلسات البرلمان التي يتم بثها بشكل مباشر على أمواج الإذاعة و التلفزة،خصوصا جلسات الأسئلة الشفوية.
-محاضر الجلسات العامة ومحاضر جلسات اللجان.
-النظام الداخلي لمجلس النواب كما صادق عليه المجلس بتاريخ16/02/2012.
-الوثيقة الدستورية ل2011.
-الحصيلة التشريعية لمجلس النواب خلال السنة الأولى من الولاية التشريعية التاسعة(2011/2016)
-الموقع الالكتروني لمجلس النواب المغربي :
www.parlement.ma
-تقرير لجنة العدل والتشريع حول الزيارة الاستطلاعية "للسجن المركزي عكاشة" بالدار البيضاء،دورة ابريل،2011/2012.