مقدمة
يعتبر علم الاجتماع السياسي، علم حديث حيث لم يدرس كعلم مستقل وكمادة مستقلة إلا منذ الستينات، ويعتقد الأستاذ إبراهيم أبراش أن بروز علم الاجتماع السياسي
جاء نظرا للأزمة الحقيقية التي تكمن في تزايد القناعة لدى علماء السياسة بصعوبة فهم الظواهر السياسية والإحاطة بأولوياتها دون الرجوع إلى البنى الاجتماعية التي تتفاعل فيها ومعها هذه الظواهر، فكان لزاما على علماء السياسة العودة مجددا إلى المجتمع والبحث عن أولويات (السياسي) في (الاجتماعي)، ودراسة الظواهر السياسية ضمن أبعادها الاجتماعية. ويمكن تعريف علم الاجتماع السياسي :"أنه العلم الذي يدرس الظواهر السياسية ليس اعتمادا على مقولات نظرية مسبقة وليس انطلاقا من التمظهرات القانونية والمؤسساتية بل يدرسها انطلاقا من إطارها الاجتماعي الذي انبثقت منه وتتصدى لمواجهته تطويرا وتغييرا، وانطلاقا من علاقات القوة التي تحكم الفئات الاجتماعية في سعيها نحو السلطة حفاظا عليها أو وصولا لها أو تحررا من سطوتها"([1]). فعلم الاجتماع السياسي مجالات اهتمامه هي النظم والنخب السياسية، البيروقراطية، العنف الاجتماعي والأحزاب. أما علم السياسة فأصبح ينحو ليصبح العلم الذي يهتم بعلاقات القوة داخل المجتمع وبالسلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمع، حيث لا يمكن أن تكون سياسة دون مجتمع، فقد اعتبر بعض علماء السياسة ان علم الاجتماع السياسي جزء من تخصصهم وفرع من علمهم، كما أن "موريس دوفرجيه" يرى أن لا تعارض بين علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، فالتعبيران مترادفان في نظره([2]). أما تحليل السياسات العمومية فهي معرفة ماذا تفعل الحكومة، ولماذا تفعل ذلك؟ وما هي الفروق والتغيرات التي تحدثها أفعالها؟، أما ويليام دان فهو يحدد سمتين هامتين في تحليل السياسة العمومية، يتمثل في المدخل المتحدد وفي الميل نحو الرشادة في القرار، كما أن تحليل السياسات العمومية يسمح بالولوج في حقل السياسة العامة ولوجا نقديا وموضوعيا، في جميع مراحلها (قبلية ومواكبة وبعدية)([3]). فتحليل السياسات العمومية من الوجهة الاجتماعية تتطلب الإحاطة بالصراعات والتحالفات، بالقيم والثقافة السائدة وبأصحاب النفوذ والقوة داخل المجتمع.
وأهمية الموضوع تتجلى في الكشف عن دور علم الاجتماع السياسي في صنع وتقييم السياسات العمومية. لهذا نطرح الإشكالية التالية: إلى أي حد استطاع علم الاجتماع السياسي من تحليل السياسات العمومية بموضوعية وشمولية؟ لهذا ارتأينا في هذه الورقة البحثية إلى تقسيم الموضوع إلى قسمين: علم الاجتماع ودوره في صنع السياسات العمومية، وسوسيولوجيا تقويم السياسات العامة والحدود التي تواجهها مستعينا بالمنهج الوصفي التحليلي.
المبحث الأول: علم الاجتماع السياسي وصنع السياسات العمومية
ومنه فإن سوسيولوجيا صنع السياسات العمومية، تتمركز حول النقطتين التاليتين:
المطلب الأول: دور الثقافة السياسية
يقصد بالثقافة السياسية بصورة عامة، الجوانب السياسية للثقافة، معتبرين أنها تشكل هي نفسها مجموعة منتظمة، ويرى دوفرجيه أن هناك ثلاث أنواع من الثقافات السياسية، فنجد الثقافة السياسية رعائية، وثقافة الخضوع وثقافة المشاركة.وعلى الصعيد الوطني ليست الثقافة السياسية من النمط الرعائي سوى تجميع للثقافات السياسية المحلية المستندة إلى القرية والعشيرة والعرف والدين الأمر الذي يعني عدم وجود ثقافة سياسية بالمعنى الصحيح للكلمة، خاصة في الدول التي تضم جماعات غير متجانسة.
أما ثقافة الخضوع والثقافة المشاركة فهما على العكس شكلان للثقافة وطنية حقة. ففي ثقافة الخضوع يعرف الأفراد أعضاء النظام، إلا أنهم يبقون خارجه، فهم ينتظرون منه الخدمات أو يخافون من التجاوزات، لكن دون أن يعتقدوا بإمكانية تغيير النظام، فكلما سادت هذه الثقافة وإلا قلت مشاركة المواطنين في صنع السياسة العمومية، أما الثقافة المشاركة فعلى العكس يعتقد المواطنون بقدرتهم على تحويل مسار النظام بوسائل متعددة كالانتخابات، المظاهرات، العرائض فصنع السياسة العمومية في إطار هذه الثقافة السياسية يكون كبيرا، خصوصا داخل بنية ديمقراطية، تعتبر المشاركة عنصر جوهري للمواطنية([5]).
المطلب الثاني: دور النخب
لقد كانت نظريات النخبة من أولى النظريات التي ظهرت في علم الاجتماع السياسي، حيث ظهرت دراسات تهتم بتشكيل جماعات النخبة على النطاق الوطني، وأخرى على النطاق المحلي وثالثة تهتم بمقارنة طبيعة الصفوة في مجتمعات مختلفة([6]).ويعتبر "باريتو" أول من بدأ بالتنظيم للتنشئة وتوظيفها في الدراسات السياسية، وقد تأثرت مقاربته لنظرية النخبة بعاملين: أولا خليفته كعالم اجتماع، وثانيا غلبت التحليلات النفسية ويرى أن كل المجتمعات تنقسم إلى نخبة وعامة الناس، وتسعى النخبة لتوظيف تفوقها لممارسة التسيد على اللانخبة وقيادتها وفي سعيها هذا يصل جزء منها للحكم([7])، ومن هذه الزاوية فإن النخبة التي تتميز بالتفوق هي التي تصنع السياسة العمومية وتفرضها على عامة الشعب.
أما "موسكا" فينطلق من حقائق يؤكدها الواقع والشواهد التاريخية، وهي أنه في كل المجتمعات السياسية كانت دوما ما قلة تحكم وأكثرية تخضع للحكم، وهي ظاهرة تشمل جميع المجتمعات ويرجع تفوق الطبقة الحاكمة على المحكومة إلى قلة عددها وتنظيمها الدقيق في مقابل كثرة الثانية وعدم تنظيمها، ويرى موسكا أنه كلما كبر المجتمع السياسي قلت نسبة الأقلية الحاكمة بالنسبة للأغلبية المحكومة، ومنه ضعفت فرص هذه الأخيرة في القيام بنشاط معاد للأولى([8]).
ومن وجهة نظر موسكا فصنع السياسات العمومية يكون من طرف النخبة الحاكمة، فإنه يسلم بأن الجماهير تستطيع ممارسة الضغوط على الحكام، وتنشأ هذه الضغوط نتيجة لاستياء الجماهير من بعض السياسات التي ينفذها الحكام. وقد يؤدي هذا الموقف إلى الإطاحة بالطبقة الحاكمة، وفي هذه الحالة تظهر إلى حيز الوجود طبقة حاكمة من بين الجماهير تتبنى سياسة جديدة أكثر تلائما مع مصالح الشعب([9]). أما ميشلز فتحدث عن الأوليجاركية، أي حكم الأقلية من خلال دراسته للحزب الديمقراطي الألماني في بداية القرن 20 م، ويتفق مع الآخرين بوجود حقيقة لا مراء فيها، وهي حكم الأقلية للأغلبية، ومن خلال مقارنته للحزب الديمقراطي الألماني مع باقي الأحزاب المحافظة، فإنه يستنتج أنه حتى في الأحزاب التي تقول أنها تمثل الشعب وتدافع عن مصالحه، فإنه هي الأخرى تحكم بأقلية عوض الأكثرية، حيث أطلق عليه القانون الحديدي للأوليجاركية.
ويبرر ميشلز ذلك بسلبية الجماهير، التي لا تواظب على حضور الاجتماعات السياسية ، بالإضافة إلى ظهور القادة بمظهر الأبطال القادرين على صنع أشياء خارقة. كما أن الجماهير تميل دائما لتفويض من يتولى نيابة عنها المهام السياسية([10])، مما يجعل صنع السياسة العمومية حسب ميشلز محكوما بالأقلية الحاكمة دون الأكثرية المحكومة.
تقترح النخبة رؤيتها في أن الناس غير مشمولين ولا عارفين بالسياسة العمومية، وأن النخبة هي التي تشكل رأي الجمهور حول السياسة العمومية، وهي التي تؤثر في الجمهور بأكثر مما تتأثر هي به، وهذا يعني أن السياسة العمومية تأخذ حالة الإنسياب الرأسي الذي ينزل من النخبة إلى الجمهور([11]).
المبحث الثاني: سوسيولوجيا تحليل السياسات العمومية وحدودها
يعتبر تحليل السياسات العمومية حديثا، حيث لم يظهر إلا في الثلاثنيات من القرن 20 م في الولايات المتحدة الأمريكية بمناسبة تطبيق السياسة الجديدة([12])، حيث ظهرت أولى الدراسات في تحليل السياسات العمومية حيث كان هدفها مساعدة رجال الدولة على اتخاذ القرارات السياسية الجيدة([13]). فما هي المناهج الحديثة التي يستعملها علم الاجتماع السياسي في تحليل السياسات العمومية وما هي حدودها؟المطلب الأول: المناهج
سنركز على منهجين حديثين هما المنهج البنيوي والوظيفي، يتعامل التحليل البنيوي مع الشيء باعتبار له بنية، ويشكل منظومة ونسقا له نظامه الخاص من حيث تركيبة ووحدة انسجامه الداخلي والخارجي والقوانين التي تضبطه وتسمح باستمراريته، والتعامل مع الأشياء من منظور التحرر من الإيديولوجيا وكل المؤثرات الخارجية([14]).ويعد ليفي ستراوس من أهم البنيويين الذين أعطوا للبنيوية موقعها كتيار يزعم العلمية في دراسة وفهم الواقع الاجتماعي، ويستعمل النماذج لمعرفة البنى الاجتماعية([15]).
ومنه فإن تحليل السياسات العمومية يعتمد على تكامل وتناسق جميع الأدوار الاجتماعية، حيث أن المحلل يدرس تشكيل الكل الاجتماعي، ويحدد الأشخاص والجماعات وما ينتج عنها من علاقات وفقا لأدوارها الاجتماعية وعلاقة ذلك بصنع وتنفيذ وتقويم السياسات العمومية.
أما الاتجاه الوظيفي فقد ظهر مع تأثر علماء الاجتماع بالبيولوجيا حيث نظر للمجتمع كعنصر الإنسان الحي، الذي يبحث عن التوازن حتى في إطار التطور المستمر([16])، ويعتمد محلل السياسة العمومية على هذا المنهج بمعرفة المحيط الذي تصنع فيه ، والوظائف التي تقوم بما باقي الأنساق وعلاقتها بصنع السياسة العمومية، وتنفيذها وتقويمهاـ ويعتمد المحلل على الأنشطة والنماذج المتكررة، ويكون هدفه الأساس الكشف عن كيفية إسهام السياسة العمومية في تحقيق استمرارية النسق أو الإضرار به([17]).
المطلب الثاني: حدود منهج علم الاجتماع السياسي
رغم اعتماد علم الاجتماع السياسي على مناهج حديثة في تحليل السياسات العمومية، فإن هناك حدود يمكن ملاحظتها من خلال تحيز المحلل حيث سيجد نفسه يعبر عن موقف ما ليؤيده أو يعارضه وحتى وإن اتخذ موقفا محايدا في قضية مختلف بشأنها، فإن حياده يعد موقفا بحد ذاته، وغياب الموضوعية تفرض نفسها أحيانا خلال كل مراحل البحث، فالتحيز المنافي للموضوعية ناتج عن فعل إرادي يقوم به الباحث قصد تشويه الحقيقة ابتغاء مصلحة خاصة، او تلبيه لميول إيديولوجية خاصة([18]).الخاتمة:
وفي الأخير فإن دراسة تحليل السياسات العمومية بالاعتماد على علم الاجتماع السياسي، قد حاول الإجابة عن تأثير المجتمع على الدولة عوض الاقتصار على تأثير الدولة على المجتمع التي ظلت من اختصاص علم السياسةـ فزاوية التحليل المجتمعية للظاهرة السياسية وتحليل السياسات العمومية التي تؤثر على المجتمع وكيف يتفاعل مع هذه السياسات بدءا بالصناعة والتنفيذ والتقويم، وتأثير البيئة الاجتماعية من خلال الثقافة السياسية.وتفاعل جميع الأنساق لرسم هذه السياسة، جعلت من دور الاجتماع السياسي يركز على بعدين بعد سياسي وآخر اجتماعي لفهم السياسة العمومية التي تستهدف المجتمع ، وأيضا كيف يؤثر هذا الأخير على رسم وتنفيذ هذه السياسات، رغم المحدودية التي يصادفها بل تصادف جميع العلوم الاجتماعية.
لائحة المراجع:
إبراهيم أبراش، علم الاجتماع السياسي، دار الشروق، عمان، 1988.موريس دوفرجيه، سوسيولوجيا السياسة، ترجمة هشام ذياب، دمشق، 1980.
فهمي خليفة الفهداوي، السياسة العامة منظور كلي في البنية والتحليل، دار المسيرة، عمان، 2001.
مولود زايد الطبيب، علم الاجتماع السياسي، منشورات السابع من أبريل، الزاوية، ليبيا.
موريس دوفرجيه، علم الاجتماع السياسي، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2001.
أحمد زايد، مقدمة في علم الاجتماع السياسي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2001.
السيد الحسني، علم الاجتماع السياسي، المفاهيم والقضايا، دار المعارف، القاهرة، 1981.
نيقولا تيماشيف، نظرية علم الاجتماع، طبيعتها وتطورها، ترجمه محمود عودة وآخرون، القاهرة، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، 1983.
أحمد القصير، منهجية علم الاجتماع بين الوظيفة والماركسية والبنيوية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1985.
Mosca, G. The ruling class, translated by kahn, New york, MC Graw- Hill Book company, 1996, p. 239.
Thomas, R. Dye, Understanding public plicy, 7éme ED, New Jensey, Prentice Hall, Englewood Cliffs, 1992.
Daniel Kubler et Jacques Maillard, Analyser les politiques publiques, collection politique en plus, presses universitaires de Grenoble, 2éme édition, 2016.
Levis –Strauss, the Elementry structure of Kinship, EYRE and Spottis- woode, London, 1969.
[1] إبراهيم أبراش، علم الاجتماع السياسي، دار الشروق، عمان، 1988، ص.ص. 13-15.
[2] موريس دوفرجيه، سوسيولوجيا السياسة، ترجمة هشام ذياب، دمشق، 1980، ص. 22.
[3] فهمي خليفة الفهداوي، السياسة العامة منظور كلي في البنية والتحليل، دار المسيرة، عمان، 2001، ص.ص. 91- 95.
[4]مولود زايد الطبيب، علم الاجتماع السياسي، منشورات السابع من أبريل، الزاوية، ليبيا، ص. 29.
[5] موريس دوفرجيه، علم الاجتماع السياسي، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2001، ص. 92-94.
[6] أحمد زايد، مقدمة في علم الاجتماع السياسي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2001، ص ص. 26- 27.
[7] إبراهيم أبراش، مرجع سابق،ص ص. 124- 125.
[8]Mosca, G. The ruling class, translated by kahn, New york, MC Graw- Hill Book company, 1996, p. 239.
[9] السيد الحسني، علم الاجتماع السياسي، المفاهيم والقضايا، دار المعارف، القاهرة، 1981، ص ص. 93-94.
[10] السيد حسني، م. س، ص. 104.
[11]Thomas, R. Dye, Understanding public policy, 7th ED, New Jersey, Prentice Hall, Englewood Cliffs, 1992, pp. 2- 3.
[13]Daniel Kubler et Jacques Maillard, Analyser les politiques publiques, collection politique en plus, presses universitaires de Grenoble, 2éme édition, 2016, p. 9
[14]أحمد القصير، منهجية علم الاجتماع بين الوظيفية والماركسية والبنيوية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 147
[15] في كتابه Levis –Strauss, the Elementary structure of Kinship, EYRE and Spottis- woode, London, 1969
[16] نيقولا تيماشيف، نظرية علم الاجتماع، طبيعتها وتطورها، ترجمه محمود عودة وآخرون، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر،القاهرة، 1983 ، ص 320