يمكنكم تحميل النسخة المتضمنة للهوامش أسفل هذه المادة
تـــقديم.
بالموازاة مع التحولات التي شهدها التنظيم المجتمعي عبر التطور الطبيعي خلال الزمن، شهد مفهوم الدولة، باعتبارها كيان منظم لكل مجتمع على حدة، تحولات أدت إلى إزدواجية أدوراها،
وتبعا لذلك إرتبط مجال تطبيق القانون العام بمدى إتساع و إمتداد أدوار الدولة، ففي ظل الدولة –الحارسة- ( Etat Gendarme) هيمن النشاط الفردي فإقتصر دور الدولة على ضمان الأمن والعدالة، لكن مع تغير الظروف المجتمعية وبروز معالم الدولة-العناية- (Etat Providence) ظهرت الحاجة إلى المزيد من تدخل الدولة، فشرع مجال القانون الإداري في التوسع بدوره
وهكذا أصبحت الإدارة تمارس وظائف ونشاطات أخرى متعددة منها ما يهدف مباشرة إلى تحقيق الصالح العام، ومنها ما يشبه الأنشطة العادية التي يزاولها الأفراد، وليس غريبا أن يشكل توسع ادوار الدولة مصدرا مهما للمنازعات مع الخواص(مقررات إدارية جائرة، نزاع تعاقدي،..إلخ) ومن هذه النزاعات ما يدخل في نطاق القانون العام، و منها ما لا يخرج عن مجال القانون الخاص،
وحيث إن الدولة إبان أداء أدوارها تتخذ قرارات يميز فيها بين نوعين:
أ) النوع الأول: التصرفات و القرارات الصادرة بمناسبة ممارسة أعمال وتصرفات الشخص العادي وهي التي لا يختص القضاء الإداري بأي منازعات ناشئة بشأنها.
ب) النوع الثاني : القرارات الصادرة قصد تنظيم المراكز القانونية للأفراد، والتي تدخل بحكم طبيعتها في إختصاص قضاء الإلغاء عند ورود أي منازعة بخصوص مشروعيتها،
وهذا النوع الأخير من القرارات عندما يشكل سببا لدعوى مرفوعة أمام القضاء الإداري، فإننا نجدها تطرح صعوبات على مستوى تنفيذ الأحكام، الباتة في الدعوى المذكورة، ومناط هذه الصعوبة هو كونها أحكام تصدر في مواجهة شخص ذا طبيعة خاصة، شخص معنوي هو عبارة عن إدارة تخضع للقانون العام، و لها صفة المرفق العمومي الذي يجعلها ذات تنظيم معقد،
ولم تتمكن حتى سياسة إحداث محاكم إدارية مختصة، من تجاوز هذه الصعوبات بل يمكن الجزم بأن إحداث هذه المحاكم ذكى مشكلة تنفيذ الأحكام الصادرة في دعاوى الإلغاء، على إعتبار أن هذه الأحكام الصادرة ضد الدولة قد شهدت تزايدا كبيرا منذ إحداث القضاء الإداري، وهو ما يعتبر بطبيعة الحال نتيجة حتمية،
فرغم أن إحداث هذه المحاكم سنة 1993 يعتبر تطورا نوعيا في تاريخ القضاء المغربي، إلا أن من زاوية تنفيذ الأحكام الصادرة عنها ظلت إشكالا ممدودا نتيجة القصور الذي شهده القانون المحدث لها على مستوى مقتضيات التنفيذ،
و لمعالجة ( نظرية-عملية ) لهذا الموضوع إرتأيت ربطه بمؤسسة الوسيط، وذلك بمقاربة مناط إحداث هذا الجهاز مع إمكانية توظيفه كوسيلة فعالة لتجاوز صعوبات تنفيذ الأحكام في مادة الإلغاء، إلى جانب دور الإجتهاد القضائي في هذه النقطة ( المبحث الثاني )، وذلك بعد التطرق لخصوصيات التنفيذ في المادة الإدارية بإعتبار دعوى الإلغاء جزء من هذه المادة ( المبحث الأول ).
المبحث الأول : خصوصيات التنفيذ في المادة الإدارية.
إن القضاء الإداري ينهض من أساسه على خلق نوع من التوازن الدقيق بين إمتياز السلطة الإدارية، وحقوق وحريات الأفراد، وعليه فإن الحكم بإلغاء قرار صادر عن السلطة الإدارية، يعني إعدام القرار المطعون فيه من أصله، فكأنه لم يكن بالنسبة للجميع، ويتوجب محو الآثار المترتبة عنه منذ صدوره،
وأهمية التنفيذ تأتي من كونه آخر محطة في عملية الإنتاج القضائي بل هو ـ إن صح التعبيرـ بداية حصاد المنتوج القضائي وإحصاء غلته، فبهذه الصورة المجازية نستطيع فهم حقيقة مكنة العمل القضائي التي تنطلق حركيتها من يوم تسجيل مقال الدعوى إلى يوم إقفال محضر التنفيذ، بإحقاق الحق لصاحبه وإزهاق الباطل على صاحبه كذلك، وهذا هو المفروض الذي ينبغي أن يكون دائما،
وبإتباع هذه الميكنزمات التي سأتطرق لتفاصيلها من خلال ( المطلب الأول) إنبعثت العديد من الإشكالات التي غالبا ما لا تسمح بالنهاية الطبيعة المتوخاة من رفع الدعوى أمام القضاء الإداري وحتى المدني، وهذا ما يؤكده على مستوى دعاوى الإلغاء، عدد الملفات التي لم تجد بعد طريقها إلى التنفيذ( المطلب الثاني)،
المطلب الأول: ميكنزمات تنفيذ الأحكام القاضية بالإلغاء.
حيث إن القانون رقم 90ـ41 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية ينص في بابه العاشر المتعلق بأحكام متنوعة و إنتقالية، من خلال المادة 49 على أنه " يتم التنفيذ بواسطة كتابة ضبط المحكمة الإدارية التي أصدرت الحكم ويمكن للمجلس الأعلى أن يعهد بتنفيذ قراراته إلى محكمة إدارية "،
كما تنص المادة 18 من القانون رقم 03-08 المحدثة بموجبه محاكم الاستئناف الإدارية على أنه " تنفذ القرارات الصادرة عن محاكم الإستئناف الإدارية من طرف المحاكم الإدارية المصدرة للحكم "،
وما دام الأمر كذلك فالأكيد أن رغبة المشروع قد ذهبت إلى التأكيد على أن إجراءات تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية بصفة عامة يتم تنفيذها وفق إجراءات التنفيذ المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية،
هذا ما يتأكد مسبقا للمطلع على القانون 90ـ41 من خلال المادة 7 التي تكرس تطبيق القواعد المقررة في قانون المسطرة المدنية أمام المحاكم الإدارية ما لم ينص القانون ذاته على خلاف ذلك،
و إعتمادا على هذه المواد يتضح أن القواعد الإجرائية الواردة في المسطرة المدنية هي المطبقة عند تنفيذ الحكم القاضي بالإلغاء،
إلا أن ما يجب التأكيد عليه أن تنفيذ هذه الأحكام بإعتبارها صادرة ضد الإدارة، يأخذ طابعا يختلف عن التنفيذ الذي تباشر إجراءاته ضد الأفراد، ذلك أن الإدارة حينما تقوم بتنفيذ حكم إلغاء لا تكون أمام أوامر إيجابية، تحدد الإجراءات التي يتعين إتخاذها، وإنما تكون أمام وضع قانوني مجرد يتمثل في زوال القرار الملغى، على أن تستخلص هي وبمحض إرادتها النتائج المترتبة عن هذا الوضع القانون سواء كانت إيجابية أو سلبية،
وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بفاس عندما ذهبت إلى أن القاضي الإداري لا يأمر بل يقتصر عمله على مراقبة مشروعية العمل الإداري في إطار فصل السلطات، ما يعني أن صلاحية المحكمة الإدارية لا تتجاوز إلغاء القرار، و لا يحق لها البت في الإجراءات اللازم إتخاذها بعد النطق بهذا الإلغاء،
كم تتجلى خصوصيات التنفيذ في المادة الإدارية، ابتداء من خلال الإجراء الأول المحرك لهذه العملية، هذا الإجراء المتمثل في ضرورة تقديم المستفيد من الحكم طلبا يروم من خلاله بدء إجراءات التنفيذ، وذلك أمام كتابة ضبط المحكمة التي أصدرت الحكم، وعليه كما أكدت المادة 49 من القانون 90-41، فإن المستفيد من الحكم يقدم طلبا أمام كتابة المحكمة الإدارية التي أصدرت الحكم، مع إحتفاظها بحق إنابة هذا التنفيذ إلى كتابة ضبط المحكمة الإدارية التي يجب أن يقع التنفيذ في دائرتها القضائية،
و تقوم عمليا كتابة الضبط، بعد إصدار رئيس المحكمة لإذنه لأحد المفوضين القضائيين للقيام بالإجراء المطلوب وتقديم المستفيد لطلبه، بتكليف أحد المفوضين القضائيين المحلفين التابعين لنطاق عملها الترابي قصد القيام بالإجراء، بعد أداء المحكوم له للمصاريف القضائية الخاصة،
وبالرغم من أن دعاوى الإلغاء معفية من أداء الرسوم القضائية بمقتضى المادة 22 من القانون المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية، إلا أنه لا يمكن الحديث عن إسقاط تلك المصاريف الخاصة بالتنفيذ على عاتق المستفيد، مادام أن القانون لم يقرر ذلك صراحة،
وبغض النظر عن الإجراءات المتعلقة بتعيين قيم، وعن ميكنزمات تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبية، لعدم إمكانية إفتراض هاتين الحالتين مادام الأمر يتعلق بدعاوى إلغاء ضد إدارة معروفة العنوان، وليست بأجنبية، فإن ما سبق ذكره يمكن أن يشكل مختصرا لآلية تنفيذ أحكام الإلغاء،
ويتضح بشكل تبعي أن المشرع أهمل مسألة الموائمة بين خصوصيات دعاوى الإلغاء، وإجراءات التنفيذ الواردة في قانون المسطرة المدنية، حيث ظل التنافر قائما مع غياب مسطرة خاصة تجبر الدولة على تنفيذ الأحكام الحائزة لقوة الشيء المقضي به؛ خاصة وأنه لا يمكن لذلك الرأي الذي يرى أن العبرة في تنفيذ الأحكام تكون بمنطوق الحكم وليس بالطرف المنفذ عليه أن يسعفنا في تجاوز الإشكال، لأن خصوصيات المنفذ عليه في حالتنا هاته هي التي تفرض التمييز بين كل حالة على أساس نوعية المنفذ عليه،
لأن الدولة تتميز بإستثناء من مقتضيات التنفيذ الجبري حيث أنها تملك أموالا غير قابلة للتنفيذ عليها بقوة القانون، كالتجهيزات، ومباني الإدارات، وكل الوسائل المسخرة لها قصد تحقيق الصالح العام، هذا ما يؤدي بنا إلى القول أن آلية التنفيذ المذكورة تحمل في طياتها بذور الإنهيار عند أول تحرك لها في سبيل تنفيذ حكم صادر في دعوى إلغاء ضد الدولة.
المطلب الثاني: إشكالية تنفيذ الأحكام الصادرة في دعاوى الإلغاء.
إن إصلاح القضاء و تخليق العدالة، مرتبط بشكل كبير بمدى تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة عن مختلف المحاكم ذلك أن الحيلولة دون تنفيذ الأحكام لأي سبب، يضرب مصداقية جهاز العدالة في الصميم، لذلك فإن العمل على تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية يؤدي إلى ثقة وطمأنينة المتقاضين والمواطنين في جهاز العدالة، وعدم تنفيذ الأحكام يمس نجاعة وهيبة الدولة؛ ومسطرة التنفيذ تعرف حاليا بطء وعوائق تؤثر بشكل سلبي على حجية الأحكام والقرارات القضائية وتمس سمعة القضاء،
وبالرغم من أنه لا يقبل في ظل روح القانون 90ـ 41 تحصين أي قرار إداري من مراقبة قاضي المشروعية، ومن أن الأمر عندما يكون متعلقا بدعاوى الإلغاء ينطوي على وجود منفذ ـ الدولة ـ يفترض فيه إحترامه لمبدأ المشروعية، إلا أنه نجد طرح إشكال عدم التنفيذ لنفسه، ويصعب الحديث عن إمكانية تفعيل المقتضيات القانونية الحالية لتجاوز الإشكال،
فالحكم الصادر في دعاوى الإلغاء على إفتراض أنه من نوع الإلتزام بالقيام بعمل، أو الإمتناع عنه، وبالتالي يمكن تطبيق مقتضيات الفصل 448 من قانون المسطرة المدنية المتعلق بالغرامة التهديدية في حق الإدارة الممتنعة عن التنفيذ، فإن هذه الغرامة ستنقلب عند تصفيتها إلى أداء مبلغ مالي، وإذا ما استمرت الإدارة في إمتناعها حتى عن تنفيذ هذا الإلتزام المالي، فإنه لا يمكن مباشرة طرق التنفيذ الجبري في مواجهتها، على اعتبار أن الأمر يتعلق بمرفق عمومي محمي بضرورة استمراريته إضافة إلى كون أموال الدولة سواء عقارات أو منقولات، تعتبر أموالا مسخرة لتحقيق الصالح العام( مع استثناء ما يندرج ضمن ملكها الخاص) ما يكون معه من غير الجائز قانونا الحجز عليها بأي نوع من الحجوزات المنظمة بمقتضى الفصل من 452 إلى503 من ق. م.م،
أما على مستوى الإكراه البدني كوسيلة زجرية لضمان تنفيذ الأحكام فإنه في مجال دعاوى الإلغاء يصعب تحقق هذه الوسيلة إن لم أقل إستحالتها، لأن مناط وسيلة الإجبار على التنفيذ هاته هي الزج بالرافض للتنفيذ في السجن لرفض إنصياعه لأحكام القانون محافظة على ما لهذه الأحكام من هيبة،
و لا مراء أن هذا المناط لا يمكن تحققه عند ما يتعلق الأمر بشخص إعتباري، وهو القول نفسه الذي ينطبق على اللجوء إلى استعمال القوة العمومية حيث إنه إذا كان من المتيسر إخضاع الأشخاص العادية عن طريق القوة العمومية، إلا أنه لا يمكن تطبيقها على الإدارة إذا ما رفضت التنفيذ، لأن تنفيذ الأحكام كما ذهب إلى ذلك (Jean Prat) يتحقق بواسطة القوة العمومية التي تملكها وتمنحها السلطة التنفيذية ، فكيف يمكن لهذه السلطة أن تمنح ذلك في مواجهة نفسها، هذا ما يتعين معه أن يكون إلتزام الإدارة بتنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهتها إلتزاما قانونيا، ولأجل ذلك ينبغي أن يتدخل المشرع لجعل الأحكام الإدارية تذيل بالصيغة التنفيذية وفق أحكام خاصة بها،
كما نجد من الإشكالات المطروحة على مستوى مؤسسة التنفيذ أمام غياب إطار قانوني واضح يحدد المهام والمسؤوليات، لاسيما بعد إستحداث مؤسسة العون القضائي، ومؤسسة قاضي التنفيذ، عامل الإمكانيات بالمحاكم الذي لا يزال عائقا أمام تأسيس نظام ممتاز للتنفيذ، فضعف الأدوات التقنية و الإمكانيات يحول دون تصريف ملفات التنفيذ على النحو المنشود،
بالإضافة إلى هذه الإشكاليات المنبعثة من المقتضيات القانونية نجد من الإشكالات تلك التـي يطرحها الحكم القضائي نفسه، حيث أثبت الواقع العلمي أن العديد من الأحكام، والقرارات تصدر غير واضحة أو حاملة للأخطاء المادية، أو إتيانها غير معللة بما فيه الكافية، مما يؤدي إلى غياب الفهم الصحيح والدقيق للحكم القضائي، وبالتالي يستعصى تنفيذه من قبل أطرف الدعوى الذين قد يتعذرون بكونهم غير مخاطبين بهذا الحكم، ولا يبقى أمام المتقاضي إلا تقديم طلب التصحيح الشيء الذي يطيل المسطرة،
ومن خلال الصيغة الحالية للمادة 49 من القانون90ـ41 فإنه يمكن القول أن المشرع إبتعد عن وضع صياغة شمولية تأخذ بعين الإعتبار خصوصية الأحكام الصادرة في مادة الإلغاء، وتستهدف تبعا لذلك إيجاد صيغة تلزم الإدارة بالتنفيذ عبر تحميلها مسؤولية المس بمبدأ الشرعية الذي تسهر الدولة نفسها على تكريسه،
هذا التوجه المستنبط من خلال مواد القانون المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية يتأكد من خلال القانون المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية، حيث تخلو جميع مقتضياته مما يفيد التراجع عنه، وبمفهوم المخالفة فإن في ثنايا هذا القانون ما يكرس الثغرات التي تشوب النصوص القانونية الخاصة بالحالة موضوع الدراسة، بالرغم من أنه كان أمام المشرع فرصة لتجاوز الحد الأدنى من هذا النقصان الذي يظل يقينا ملازما للطبيعة الإنسانية مهما صدقت النيات،
كما أن المادة 49 السالفة الذكر تطرح إشكالا من نوع آخر حيث تقر أن المحكمة الإدارية هي التي تنفذ الأحكام الصادرة عنها أو عن المجلس الأعلى، والإشكال هنا مرتبط بالعدد الحصري للمحاكم الإدارية، بحيث إن بعض المناطق لا توجد بها محكمة إدارية وتدخل ضمن دائرة الإختصاص الترابي محكمة إدارية بعيدة عنها، مما يطرح تساؤلا حول إمكانية توجيه إنابة إلى المحاكم الإبتدائية التي يقع في دائرة نفوذها مقر المنفذ عليه، خاصة وأنه في حالة طرح صعوبة في التنفيذ نقع أمام إشكالية الجهة المختصة في رفع هذه الصعوبة،
لتجاوز هذا الإشكال نجد من دعى إلى توجيه الملف التنفيذي مباشرة إلى العون القضائي الذي تم إختياره من طرف طالب التنفيذ دون توجيه إنابة قضائية إلى المحكمة الإبتدائية التي يعمل بدائرتها العون القضائي المذكور، فبهذه الطريقة إذا ما أثيرت صعوبة في التنفيذ، فإن محكمة التنفيذ هي المحكمة المصدرة للحكم وبالتالي فإن هذه الأخيرة هي التي تبقى لها صلاحية البت في تلك الصعوبة وليس المحكمة الإبتدائية مادامت الإنابة القضائية لم توجه إليها،
كما ذهب أحد الباحثين إلى أن الإشكال يظل قائما على إعتبار أن توجيه الإنابة إلى المحكمة الإبتدائية لا يتلاءم وخصوصية القضاء الإداري،
ولكن ما يمكن إعتقاده بخصوص كلا التوجهين هو قصورهما من حيث أخذ الموضوع من زاوية النصوص دون تجاوز ذلك إلى ملامسة روح هذه النصوص، وهذا ما يؤكد أن التمسك بحرفية النصوص من أكبر الإشكالات التي يعاني منه بعض الفقهاء، والقضاء بالمغرب، وكذا بعض الباحثين المتخصصين،
فالتوجهين المذكورين أعلاه قيدا أنفسهما بحرفية النصوص ما جعلهما غير قادرين على بلورة حل عملي يراعي مصلحة المتقاضي، دون إنتظار تدخل تشريعي مادام أن المتقاضين لن ينتظروا هذا التعديل لرفع دعواهم،
إذ يمكنني القول بأن تلك الخصوصية، التي يتمتع بها القضاء الإداري يمكن أن تشكل أساسا لإيجاد حل لمشكل الإنابة، وصعوبة التنفيذ إن طرحت بعد هذه الإنابة،
إذ أن هذه الخصوصية تسمح للمحاكم الإدارية بأن توجه للمحاكم الابتدائية إنابة التنفيذ إعتمادا على المادة 7 من القانون 90ـ41 الذي يحيلنا عل قواعد المسطرة المدنية، و في حالة طرح صعوبة في التنفيذ يتم إحالة الملف على المحكمة المصدرة للحكم للبت في الصعوبة، وهذا لن يكون خروجا عن الضوابط القانونية مادام لا وجود لمقتضيات قانونية تمنع هذه الإحالة بشكل صريح، وهذا المنع بلوره فقط القضاء والفقه من خلال طريقة قراءتهم لهذه المقتضيات، هذه القراءة التي يمكن تجاوزها لتيسير تحقيق القضاء الإداري لأهدافه،
فعلى سبيل المثال إذا ما أصدرت المحكمة الإدارية بوجدة حكم قضى بإلغاء قرار إداري في ملف تتواجد مقرات وعناوين أطرافه بمدينة الناظور، يمكن للمحكمة الإدارية أن تنيب المحكمة الإبتدائية الناظور لتنفيذ هذا الحكم، وفي حالة طرح صعوبة، يتم إحالة الملف على المحكمة الإدارية بوجدة قصد بت رئيسها في هذه الصعوبة، فيتم إحالة الملف من جديد على إبتدائية الناظور قصد إتمام إجراءات التنفيذ،
أما القول بإحالة الملف التنفيذي على عون قضائي دون توجيه إنابة قضائية إلى المحكمة الإبتدائية التي يشتغل بدائرتها، فإنه حل يحمل في طياته تهديدا لحقوق المستفيد من الحكم المراد تنفيذه، لأن والحالة هاته سيقوم العون بمهمته بعيدا عن رقابة المحكمة التابع لها، مادام أن الملف التنفيذي حسب التوجه المذكور سيوجه مباشرة إليه، خاصة وأن هذا التوجه لم يقترح حتى إخبار المحكمة الإبتدائية بتكليف العون التابع لها، وهذا ما يؤكد تغييب المقترح المذكور لحقوق المستفيد الذي يكون هو الطرف الضعيف في الدوامة كلها، ومما لا مراء فيه أن الأمر يتناقض مع البعد الفلسفي لدعوى الإلغاء التي تروم إلى تحقيق التوازن بين المدعي( المواطن المتضرر) والمدعى عليها ( الدولة).
المبحث الثاني : تنفيذ الأحكام الصادرة في دعاوى الإلغاء، بين الإجتهاد القضائي وصلاحيات مؤسسة الوسيط.
إن الحديث عن الضمانات الممكن إعتمادها لتنفيذ أحكام وقرارات الإلغاء يفرض علينا النظر إلى الموضوع من زاوية الإجتهاد القضائي لما شكله هذا الأخير من وسيلة لتكريس قواعد تستهدف إحقاق العدالة وتجاوز النقائص التي تعتري التشريعات عند تطبيقها على النوازل بإختلاف مواضيعها ( المطلب الأول)،
و بالرغم من تطور القضاء الإداري و تطور أدائه مع مرور الأعوام، أحدث المشرع مؤسسة ديوان المظالم سنة 2001، وهي تجربة دامت ما يناهز عشر سنوات لتحل محلها مؤسسة الوسيط (17 مارس 2011)، و جعل من صلاحيتها النظر في تظلمات و شكايات الأشخاص، و العمل على مساعدة الإدارة و دفعها لتسويتها استنادا إلى سيادة القانون و قواعد الإنصاف والعدل، الشيء الذي يستوجب معه تحديد موقعها من المجال موضوع الدراسة ( المطلب الثاني).
المطلب الأول: توجهات القضاء الإداري لضمان تنفيذ أحكام الإلغاء.
أمام الإشكالات المطروح بعضها أعلاه، حاولت المحاكم الإدارية منذ تأسيسها صنع بعض القواعد العملية لتجاوز النقص التشريعي الذي تخلل القانون المحدث لها، وذلك قصد جعل نفسها أكثر فعالية في اتجاه تحقيق المبتغى منها،
و بالتدقيق في شق تنفيذ الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم في مادة الإلغاء، نجدها قد بلورت بعض القواعد لضمان تنفيذ الإدارة للأحكام الصادرة في مواجهتها وسأحاول ملامسة توجه المحاكم الإدارية نحو تحقيق مناط إحداثها من خلال التطرق لثلاث نقط:
النقطة الأولى في الأحكام الحاملة لأخطاء مادية:
رغم غياب أي معالجة لهذه النقطة في إطار القانون 90 ـ 41، فإننا نجد أن المحكمة الإدارية بالرباط قد أسست لإجراء مختصر من حيث الزمن لتصحيح الأخطاء المادية، إذ عمدت إلى الإقرار بأن الإغفالات، أو الأخطاء المادية التي قد تتسرب إلى الأحكام، يجب تداركها من طرف نفس المحكمة أو القاضي الصادرة عنه، وذلك بعد تقديم طلب من المستفيد وبمجرد التأكد من أن هذا الطلب مرتكز على أساس.
النقطة الثانية : في الغرامة التهديدية:
باعتبار الغرامة التهديدية عبارة عن مبلغ مالي يحكم به عن كل يوم، أو أسبوع، أو شهر من التأخير ضد المطالب بالتنفيذ، بهدف ردعه عن الإمتناع، مع عدم إعتبار هذا المبلغ المالي كتعويض عن الأضرار الناتجة عن التماطل، فإن القضاء الإداري لم يرى فيها ما يمس بالمفهوم السيادي للدولة، عند اتخاذها كوسيلة لضمان تنفيذ الإدارات للأحكام الصادرة ضدها، وقد ذهب القضاء الإداري إلى القول بها منذ السنوات الأولى من تأسيسه بشكل ضمني تارة وصريح تارة أخرى،
فقد أقرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى باعتبارها مرجع إستئنافي (قبل إحداث محاكم الاستئناف) بأن الغرامة التهديدية وسيلة لإجبار المحكوم عليه على التنفيذ حتى في مواجهة الدولة مادامت أنها ليست نوعا من التعويض،
هو الشيء نفسه الذي أكدت عليه محكمة الإستئناف الإدارية بالرباط (بعد إحداث محاكم الاستئناف الإدارية) من خلال قرارها الصادر بتاريخ19/1/2007، وهذا ما يمكن إعتباره توجها محمودا لأن القول بإختصاص القضاء الإداري في جعل الأحكام الصادرة عنه ضد الدولة، مشمولة بالغرامة التهديدية قائم على أساس الفصل7 من القانون رقم90ـ41، و الفصل 18 من القانون رقم 03ـ08،
وهذا ما سبق أن ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ6/3/1997، حيث قضت بإختصاصها للبت في الطلب المتعلق بجعل الأمر الصادر عنها مشمولا بالغرامة التهديدية، فأقرت بعدم قانونية دفع الوكيل القضائي للمملكة بصفته نائبا عن الدولة المغربية، الذي دفع من حيث الشكل بأن "المادة 8 من القانون رقم 90ـ41 قد حددت مجال اختصاص المحكمة الإدارية وحصرته في أنواع خاصة ومحددة بكل دقة وأنه يتجلى واضحا من استعراض هذه الإختصاصات أن طلب الحكم بالغرامة التهديدية أمام المحكمة الإدارية لا يدخل ضمن الحالات الواردة في المادة المذكورة وأنه يتعذر إقحامة في دائرتها بحكم أن ما ورد على سبيل الحصر لا يتوسع في تفسيره، ولا يمكن أن يقاس عليه"،
وفي وقت لاحق أكدت المحكمة الإدارية بوجدة هذا التوجه عندما ذهبت إلى أن تحديد الغرامة التهديدية في حق الإدارة لإجبارها على التنفيذ يجد مبرره القانوني في تطبيق الفصل448 من ق.م.م المحال عليه بموجب الفصل 7 من القانون 41ـ90،
وأمام اقتناع السلطة التنفيذية بعدالة ومنطقية توجه المحاكم الإدارية بخصوص تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها، فإنها عملت على حث الإدارات التابعة لها على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، وذلك من خلال أربعة مناشير ورسالة صادرة عن الوزارة الأولى موجهة إلى الوزارات المحكوم ضدها بصفتها الأصلية أو بإعتبارها وصية، ومن خلال مذكرة صادرة عن وزارة الإقتصاد والمالية موجهة إلى المديريات التابعة لها والمؤسسات التي تشغل تحت وصايتها.
ومن خلال هذه الوثائق المذكورة نجد أن التوجه العام الذي ذهبت فيه الحكومة ينطوي على ضرورة تنفيذ الأوامر والأحكام والقرارات القضائية المكتسبة لقوة الشيء المقضي به، لتفادي تحمل الإدارات العمومية للغرامات التهديدية.
و بإعتبار هذه المعطيات، فإنه بالرغم من قصور المادة 49 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، والمادة 18 من القانون 03ـ80، إلا أنه يمكن القول أن القضاء الإداري من خلال دوره الإنشائي قد أسس في نطاق القانون لضمانات متماشية مع رهان بناء دولة الحق والقانون،
فالقضاء الإداري قام بدوره التكميلي في النقطة موضوع النقاش أحسن قيام لتجاوز إشكالية عدم تنفيذ الأحكام القضائية من قبل الإدارة.
النقطة الثالثة : في تجاوز المفهوم السيادي لأموال الدولة.
وفق المنظور الفلسفي فإن تلك القناعة بالسلطة السيادية للدولة، هي نتيجة حتمية (مع الأخذ بعين الإعتبار مسألة النسبية) لتلك النظرة المتكونة لدى عموم المجتمع إتجاه الدولة بكون أعمالها أعمال سيادة، وأموالها أموال عامة تختص بالحصانة إتجاه الشعب باعتباره عنصر من عناصر هذه الدولة ،
ولكن بالرجوع إلى الواقع القانوني فإننا نجد أن الأموال المنظوية تحت ملكية الدولة، ليست كلها أموال عامة لا يمكن التنفيذ عليها، بل هي كذلك في حدود تلك المخصصة للإستعمال العام، وتصريف المصالح العامة، ولكن الأموال الخاصة التي تعود ملكيتها للدولة والتي تدخل في دائرة التعامل الموازي لتعاملات الأشخاص الخاصة ليست ذات حصانة ضد التنفيذ وفق الإجراءات المعمول بها،
و الإقتناع المسبق بهذا الانفصال على مستوى نوعية الأموال المملوكة للدولة، يعطي لنا يقينا ضمانة قانونية يعتمد عليها المستفيدون من أحكام الإلغاء الصادرة ضد الدولة لإستخلاص حقوقهم.
عندما أقر بإمكانية التنفيذ الجبري ضد الدولة في حدود تفعيل مسطرة الحجز لدى الغير،
وهذا ما رسخه القضاء إذ ذهب المجلس الأعلى إلى الإقرار بأحقية المتقاضين ضد الدولة بسلك الإجراءات القانونية للتنفيذ على أموال هذه الأخيرة بما في ذلك مسطرة الحجز لدى الغير،
وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بمكناس حيث أقرت قاعدة أن الأموال التي يتشكل منها رأسمال المحجوز عليها على إفتراض أنها أموال عمومية، فإن جزءا منها قد رصد أصلا لتسديد مستحقات أصحابها، وهذا الحجز يشكل ضمانة بالنسبة لهؤلاء و لا ضرر فيه على مصلحة المحجوز عليها،
التوجه ذاته أكدته لاحقا محكمة الاستئناف الإدارية بالدار البيضاء حيث اعتبرت أن الدولة ومؤسستها العامة والخاصة تخضع للتنفيذ الجبري للأحكام القضائية، وحددت ذلك من خلال قولها بأن " الحجوزات ذات الطبيعة التحفظية لا تجري على أموال الدولة خلافا لما هو عليه الحال في الحجوزات ذات الطابع التنفيذي على الأموال المذكورة والتي يمكن القيام بها"،
وقد ذهب القضاء الإداري في سبيل تحقيق فعالية مبدأ قوة الشيء المقضي به، وحماية حقوق المتقاضين مع الدولة، إلى إعادة النظر في مناط عدم إمكانية التنفيذ على أموال الدولة، فإعتبر مناط ذلك ليس تلك الطبيعة العامة لهذه الأموال، وإنما لكون المؤسسات التابعة للدولة يفترض فيها ملاءة الذمة ولا يخشى عسرها، و إعتبر تبعا لذلك أن هذه الملاءة تصبح غير مجدية بالنسبة للتنفيذ إذا ثبت إمتناع تلك المؤسسات عن تنفيذ حكم قضائي بدون مبرر،
هذا ما ذهبت إليه أيضا المحكمة الإدارية بالرباط حيث اعتبرت أنه "إذا كان لا يجوز الحجز على المؤسسات العمومية فلكونها مليئة الذمة وليس لكون أموالها عمومية، ولكن إذا ثبت امتناع المؤسسة العمومية عن تنفيذ حكم قضائي بدون مبرر فإن ملاءة الذمة تصبح غير مجدية بالنسبة للتنفيذ"،
ولكن كل هذا لا يعفي من المطالبة بإعادة النظر في المقتضيات المنظمة للتنفيذ، وذلك بوضع إجراءات خاصة بالتنفيذ ضد الدولة، لأن غياب مسطرة دقيقة خاصة بهذه الحالة، وعدم وجود جزاءات ضامنة لتفعيلها يعتبر ثغرة قانونية، تعطي لبعض القائمين على تصريف مصالح الإدارة إمكانية التملص من تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، و هذا ما يشكل يقينا موقفا مضادا للتوجه الرسمي للدولة الذي يمكن إستخلاصه من خلال الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لسنة 2009 الذي جاء فيه أن تنفيذ الأحكام من بين ركائز رفع النجاعة القضائية،
النقطة الرابعة: في الإنابة.
أمام العدد الحصري للمحاكم الإدارية بالمغرب، و الذي نتج عنه بعد بعض المناطق عن المحكمة التي يدخل في نطاقها الترابي النزاعات الإدارية المثارة بها، فإنه على مستوى تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارات المتواجدة بهذه المناطق، إبتدعت المحاكم الإدارية أسلوبها لتجاوز إشكال هذا البعد، فعلى سبيل المثال نجد المحكمة الإدارية بالرباط تشتغل على هذه الملفات في شقها التنفيذي على أساس أنها ملفات لا يمكن الإنابة فيها، كيف ذلك؟
يؤدي المستفيد من الحكم مصاريف التنفيذ لدى القسم المكلف بذلك بكتابة ضبط نفس المحكمة المصدرة للحكم، حيث تقوم هذه الأخيرة بعد تحديد رئيس المحكمة لمبلغ المصاريف حسب بعد عنوان المنفذ ضده، بتكليف أحد الأعوان التابعين لها بالانتقال إلى المدينة المعنية للقيام بالإجراء،
إلا انه ما يسجل على هذا الاجتهاد هو إثقال كاهل المستفيد بمصاريف باهضة، الشيء الذي يجعلني أِؤكد معه على ضرورة إعمال أسلوب الإنابة للمحاكم الابتدائية وفق ما أشرت إليه سابقا، وعند طرح أي صعوبة يعاد الملف للمحكمة الإدارية ليبت رئيسها في الصعوبة قصد تحقيق إزدواجية القضاء المنشودة، ونزولا عند خصوصيات القضايا الإدارية، خاصة و أن توجه القضاء في مسألة انعقاد الاختصاص للنظر في صعوبة التنفيذ لرئيس المحكمة الابتدائية التي يجري فيها التنفيذ محصور في القضايا المدنية، وبالتالي لا إشكال في تجاوزه في القضايا الإدارية مادام لا وجود لنص قانوني يمنع ذلك.
المطلب الثاني: حدود سلطة مؤسسة الوسيط في تجاوز صعوبات تنفيذ أحكام الإلغاء.
يشير بيان الأسباب الموجبة لإحداث مؤسسة الوسيط إلى إستهداف تحديث مؤسسة ديوان المظالم الذي يشير بيان أسباب إحداثه إلى حرص الدولة على إيجاد مؤسسة تتولى صلاحية البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز حالات الحيف التي تحدث بفعل أوضاع تتنافى مع متطلبات الإنصاف و تكمل المهام التي يقوم بها الجهاز القضائي،
من خلال هذا و المادة السابعة عشرة من ظهير الإحداث التي أوكلت للوسيط القيام بكل مساعي الوساطة و التوفيق قصد رفع الضرر الذي أصاب المشتكي و ذلك بالاستناد إلى قواعد سيادة القانون و مبادئ العدل والإنصاف، يتجلى لنا مربط إمكانية تشكيل مؤسسة الوسيط لإحدى الضمانات التي تحقق تجاوز إشكالية عدم تنفيذ إحكام الإلغاء من طرف الإدارة،
كــيف ذلك؟
إن مبدأ الإنصاف و العدالة الذي قامت عليه المؤسسة يعني من جانب فلسفة روح القوانين تحقيق العدالة من خلال الحكمة من النص التشريعي عند تطبيقه، وتنفيذ حكم النص عند تحقيقه،
و مادامت المؤسسة يرأسها وسيط يعين بظهير، فإنه يقينا يجب أن يكون ذا دور في تحقيق الأحكام التي تصدر بإسم الملك،
وحيث إن المؤسسة في بدايتها ـ ديوان المظالم ـ أتت ضمن سيرورة إنشاء مجالس غايتها دعم المبادرات الملكية و مناقشة الإختيارات المجتمعية قصد صنع أجدى الوسائل لتطبيقها، وذلك بتحديد الخلل و إقتراح الحل و تفعيله، فإنه يجب التوسع في الأفق النظري للطابع الإستشرافي- الإقتراحي لهذه المؤسسة،
و بإعتماد هذه القناعة، و تأسيسا على المادة 17 من ظ إحداث مِؤسسة الوسيط فإنه من الصائب الإتفاق مع التوجه الذي تبلور خلال عمل ديوان المظالم والذي أكد على أنه يمكن للمستفيد من حكم صادر في مواجهة الإدارة الممتنعة عن التنفيذ أن يتقدم بطلب للتسوية أمام المؤسسة الذي يبحث مع الإدارة المعنية سبل حل الخلاف، وذلك بغية التراجع عن موقفها السلبي المتمثل في الإمتناع عن التنفيذ، و يمكن أن يكون الحل الذي تم التوصل إليه، يرضي الطرفين معا، لأن لوالي المظالم في هذه المسطرة حرية التوفيق وتقريب وجهات النظر إستنادا إلى قواعد الإنصاف، بخلاف مأمور التنفيذ في المسطرة القضائية الذي يكون مقيدا بمنطوق الحكم و لا يمكن له تعديله زيادة أو نقصانا و إلا خالف القانون،
و أميل إلى القول بصوابية هذا التوجه على إعتبار أن مؤسسة الوسيط مؤسسة وساطة ذات سلطة رقابية تصحيحية مكملة للسلطة القضائية، مستمدة من أحقية الوسيط في إيجاد حلول توافقية في إتجاه دفع المؤسسات التابعة للدولة للإلتزام بسيادة القانون،
و من جانب آخر فبما أن المؤسسة تسعى إلى تكريس حوار دائم و فاعل بين المواطنين و الإدارة، وفي إطار صلاحية الوسيط و مندوبيه في القيام بالتحريات و الحصول على الوثائق المتعلقة بالتظلم موضوع التتبع، وفي حدود ما يجوز له النظر فيه،
و حيث إن الهدف الوظيفي من وجود هذه المؤسسة محدد في ضبط و تقويم العلاقة بين الإدارة والمواطن، ووسيلته في ذلك، السعي إلى إيجاد حلول للمنازعات الإدارية التي تنشب بينهم إستنادا إلى سيادة مبادئ القانون و العدل و الإنصاف، و من ثمة ترسيخ مفهوم المواطن المتصالح مع إدارته المتخلقة،
فإنه يمكن الإعتراف لهذا الديوان بصلاحيته عند تعلق الأمر بتظلم وارد على إمتناع إدارة ما عن تنفيذ حكم إلغاء صادر ضدها، بصلاحيته في وضع أساليب تلزم الإدارة الممتنعة عن التنفيذ بالتراجع عن موقفها مادام أن النزاع حول التنفيذ غير معروض على القضاء، خاصة و أن طالب التنفيذ يسعى فقط إلى الحصول على حقه المحكوم به قضائيا،
و أساس هذا القول يستنبط من الإطلاع على المقتضيات المنظمة لمجالات إختصاص المؤسسة، و التي تمنع عليه فقط متابعة التظلمات الرامية إلى مراجعة حكم قضائي نهائي، أو البت فيما هو مطروح أمام القضاء، لأنه عندما يتعلق الأمر بهاتين الحالتين فإنه يمكن فقط بناء على طلب المتضرر أن يبحث عن الحلول الكفيلة لتحقيق حل رضائي يحترم قواعد العدالة و الإنصاف،
لقد تم إحداث مؤسسة الوسيط قصد تحديث ديوان المظالم وفق مقتضيات و توجهات عامة تجعل منه مؤسسة غير قضائية تهدف إلى جانب القضاء إحقاق الحق في مواجهة الإدارة، ما يجعلها جهازا ضامنا لتحقيق تنفيذ أحكام الإلغاء الصادرة ضد الدولة بإعتبار هذه الأخيرة من أشخاص القانون الذي يجب أن تخضع لروحه لا نصوصه فقط،
و أمام تقييد قضاء الإلغاء بمسألة إقتصاره على مراقبة مشروعية العمل الإداري، حيث إنه لا يأمر الإدارة، و ذلك في إطار فصل السلطات، فإنه يجب الدفع نحو جعل ديوان المظالم سلطة تقويمية، منتجة لحلول فعالة و آنية لقضايا و إشكالات لا تستوعبها صياغة النصوص القانونية، و التي يمكن استنباطها من خلال أهداف هذه القوانين، و هذه الفكرة ليست عامة بل منحصرة بإنحصار صلاحية هذا المؤسسة، خاصة و أن منشور الوزير الأول الموجه إلى السادة الوزراء وكتاب الدولة و المندوبين السامين تحت عدد 1/2008 كان قد أقر أنه " من المفيد تكليف ... المخاطب الرئيسي و الدائم لديوان المظالم لدى مختلف القطاعات، بالإشراف على تتبع و تنفيذ الإجراءات التي يتضمنها هذا المنشور، والتنسيق في حسن تتبع تنفيذ الأحكام أو القرارات القضائية النهائية..."
ختـــم:
إن المؤسف في الموضوع أن عدم تنفيذ الأحكام الصادرة في دعاوى الإلغاء يؤِدي إلى نوع من الإحساس بالإحباط، لأنها تكون صادرة ضد الدولة، وعدم التنفيذ من طرف هذه الأخيرة أو تماطلها يؤدي إلى نزع الروح عن الحكم ويؤدي إلى فقدان الثقة في النظام القضائي، بل الأكثر من ذلك يجر المرء ـ حسب تعبير الملك الراحل الحسن الثاني ـ إلى تفكير آخر هو إنحلال الدولة، لأنه لا قيام لدولة الحق والقانون إلا بإعلان مبدأ خضوع الدولة للقانون وسيادة المشروعية، ولا قيمة لهذا المبدأ ما لم يقترن بمبدأ تقديس واحترام أحكام القضاء ووجوب تنفيذها ولا تتأتى الحماية القضائية إلا بتمام تنفيذ الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية، ولا قيمة للقانون بدون تنفيذ مقتضاه،
و هذا بالفعل ما أكدته قضية عقل السيارات في الشوارع العمومية بالرباط، حيث صدر حكم عن المحكمة الإدارية بعدم مشروعية هذا الإجراء إلا أنه تم الإستمرار قي عقل السيارات الغير المؤدية لواجب الوقوف في الشوارع العمومية،
و كخلاصة للقول فالقضاء الإداري من خلال دوره الخلاق و الإنشائي، بادر كما تبين إلى إقتراح حلول متماشية مع واقعنا، ومستجيبة لمتطلبات إستكمال بناء دولة الحق و القانون، التي يعتبر تنفيذ الأحكام القضائية إحدى دعائمها الأساسية، فالقضاء الإداري قام بدوره التكميلي إلى حد ما، لتجاوز إشكال عدم تنفيذ الأحكام القضائية من قبل الإدارة، و قام أيضا بتكريس التوجه الجديد الذي أضحى لا يقتصر على الحكم بما ورد بصريح النص، و إنما أيضا بما هو مسكوت عنه، و إعتبر في هذا الصدد صمت المشرع بمثابة مبدأ يجيز ضمنيا تطبيق القاعدة المعنية على الإدارة،
و لكن ما يمكن التأكيد عليه أن الإكراهات المواجهة لتنفيذ أحكام الإلغاء ليست منحصرة فقط في المقتضيات القانونية بل هي إكراهات متأتية أيضا من الوضع العام للعلاقة بين الدولة و المجتمع، بإعتبار الوضعية السوسيوإقتصادية الحالية و البيروقراطية المستشرية،
و عليه فإن تجاوز الإشكالات المطروحة لن تتحقق بالمناداة فقط بإصلاح الإجراءات المسطرية، بل تحقق ذلك مرتبط بنجاح أهداف سياسة التنمية البشرية التي تستهدف الإصلاح العام للمجتمع بجميع مكوناته و في جميع تفاصيله،
و من الأجدى بداية دعوة مؤسسة الوسيط إلى الغوص في الإشكالات الحقيقية المطروحة على مستوى علاقة الإدارة بالمواطن في إطار مقاربة شمولية مترفعة عن القالب الدعائي،
كما أن المشرع ملزم بوضع إجراءات خاصة بالتنفيذ في المادة الإدارية، لأن إحالته في هذه المسألة على قواعد المسطرة المدنية، بهدف مواءمة إجراءات القانون الإداري مع إجراءات المسطرة المدنية، أدت إلى السقوط في هوة عدم إمكانية تحقيق هذه الموائمة مع وجود خصوصيات تؤسس لفارق لا يمكن الجمع معه بين خصوصيات المادة الإدارية خاصة الإلغاء، وبين القواعد العامة الواردة في المسطرة المدنية،
و تبقى كل الحلول المطروحة فقها و قضاء لتجاوز هذا الإشكال مجرد حلول آنية لا يمكن لها الصمود أمام ضرورة توجه الدولة نحو إنشاء قضاء مزدوج يكون فيه القضاء الإداري مستقلا بشكل كامل.