لا أحد يشك بأن تاريخ الأحزاب السياسية بالمغرب هو تاريخ انشقاقاتها لأسباب متعددة ، أبرزها:
-طبيعة الأستراتيجية السياسية الرسمية التي قامت منذ الحماية على تشجيع وخلق الاحزاب والكيانات السياسية، وذلك للحد من نشاط ونفوذ كل الكيانات الحزبية التي تطمح إلى الهيمنة السياسية.
-الطبيعة المورفولوجية الإجتماعية المغربية التيتنبني على تعددية في مختلف المستويات كالتعددية اللغوية والجهوية والإثنية.
لكن بالإضافة إلى هذين العاملين فهناك طبيعة التنظيم الحزبي المغربي الذي قام منذ البداية على أساس تعددي يكمن في ما يلي:
-تعدد الزعماء السياسيين الذين خاضوا وقادوا الحركة الوطنية، بحيث يستطيع أي أحد منهم احتكار الرمزية الوطنية التي تجل منه زعيما وحيدا وتساعده على خلق حزب وحيد.
-الطابع الشخصي للقيادات الحزبية، بحيث أن أغلب الأحزاب قد نشأت متمحورة حول شخصية رئيسة ناذرا ما تسمح بوجود شخصيات منافسة، الشيئ الذي يضطرهذه الشخصيات إلى خلق كيانات حزبية منافسة.
-الطابع المصلحي الواضح للاحزاب المغربية، إذ أن أغلبها يكون عبارة عن تجمعات المصالح المهنية والإجتماعية، الشيء الذي يفضي في حالة اصطدم المصالح إلى الإنشقاق.
-الطابع الجهوي للكيانات الحزبية المغربية، فاختلاف الهويات الثقافية وتباين المنحدرات الجغافية غالبا ما ينعكس على الأحزاب وانتشارها. " 1 "
لكن السؤال المطروح هو ما هو أفق الحزب السياسي على ضوء التعديل الدستوري لفاتح يوليوز 2011 ،هل ستستطيع هذه الأحزاب أن ترفع رهان التحدي المتمثل في قدرتها على إنجاز برنامج انتخابي قادر لتربح بها شرعيتها الإنتخابية؟ وهل الحزب كمؤسسة يستطيع أن يتجاوز مفهوم تجمع مصالح لا يخدم إلا مصالح فئة ضيقة تستفيد من كعكة السلطة بعيدا عن المحاسبة ، بالنظرإلى أنها كانت إلى أمس قريب تطبق البرنامج الملكي؟ ، إنها أسئلة كثيرة وغيرها صعب الإجابة عنها حتى لا نتهم بأننا غير أكادميين وبالنظر إلى كون دستور 2011 كمقدمة للإصلاح السياسي لم تكن الدولة مهيئة له، نتيجة سرعة تنزيله في سياق الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي، زيادة إلى معطى آخر يتمثل في كون الملكية في عهد الملك محمد السادس لم تكن تولي اهتماما للإصلاح الدستوري بقدر ما انصب اهتمامها للإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية وللأوراش الكبرى ولإنجاز البنيات التحتية ومحاربة الفقر والهشاشة، زيادة على كل هذا كان الملك يركز في جل خطبه على إصلاح البيت الداخلي للأحزاب السياسية.
كل هذه العوامل توضح بأن المناخ السياسي لم بكن مؤهلا لمثل هذا إصلاح بهذا المستوى، نتيجة سرعة إنجازه وقلة استعداد الأطراف الفاعلة ، الأمر الذي سينعكس لا محالة على جودة الإصلاح وكذا مستوى مردوديته ، الأمر الذي يمكن إظهاره على ثلاث مستويات.
المستوى الأول:مستوى الدولة/ المخزن
إن الإصلاح السياسي من زاوية المؤسسة الملكية منذ الحصول على الإستقلال لم تكن معنية به ، لأنها تراه يشمل ما هو أسفل منها ، وهذا يعود لمجموعة من الإعتبارات تاريخية وسياسية جد معقدة ومبررة أحيانا أخرى.
فقد كان للحظور المكثف للمخزن الأسبقية على الدستور الحديث، باعتباره يستند على الإستبداد واللاشرعية(ميشو بلير)، ويعتمد على القوة للحفاظ على الإستقرار والأمن (محمد الطوزي)، ويعبر عن تحالف مصلحي لفائدة الجماعات والأشخاص الذي يكونونه (واتربوري) .
" 2 "
وبالنظر إلى كونه ليس وليد الإستقلال السياسي الشيئ الذي جعله يحظى بمشروعية مسجلة عبر التاريخ.
ومع الإستقلال ورث المغرب إرثا مزدوجا :إرث الماضي بعاداته وتقاليده ومواقفه إزاء السلطة، وإرث الحماية تجسده آليات وبنيات تحتية معقدة غير ملاءمة في الغالب مع واقع البلاد وحاجياتها .
" 3 "
فهذه العادات التقليدية تتمثل في توزيع المناصب والوظائف على المقربين لضمان إخلاصهم ،ليخلص معظم الباحثين والمحللين أن هذا النظام ظل في جوهره ذات النظام وإن اتسع مضمار وظائفه واختصاصاته، بل إن الإستقلال يقول ادريس بنعلي "مكن المخزن من تنمية حقل تدخله وتوسيع نشاطه إلى مجالات جديدة لم يعد دوره منحصرا في إصدار العملة بل أصبح هو منشط الإقتصاد وموقظ المجتمع المدني" .
" 4 "
وبالتالي يعمل دائما على تجديد ديناميته من خلال عدة ثوابت إيديولوجية (الأصالة،التاريخ العريق،الخصوصية،الدين ،المقدسات..).
إن نواة النسق المخزني محمية بخدامها ذوي الذهنيات المخزنية،لتصل بعد مرور 20 سنة من الممارسات السياسية حسب ريمي لوفو أن المخزن ،قد شكل نمطا موازيا لعمل الحكم يحل محل الآليات الرسمية أو يشلها .
" 5 "
إن هذا الإرث المخزني بنفوذه يصعب معه بناء دولة حديثة قائمة على فصل السلط وعلى سيادة القانون ،طالما أن الملكية تقوم على المرتكز الديني من خلال النسب الشريف لتولية الحكم،وكذا آلية البيعة للوصول إلى السلطة.
إن آلة المخزن بالنسبة للملكية لا تستطيع تجاوزها لا سابقا ولا مستقبلا على الأقل في المدى القريب ، وذلك من خلال دعوات أصحاب الملكية البرلمانية ، لكون التحول الذي عرفته بعض الملكيات في أورباإ لى ملكيات برلمانية كان تحولا في نزع السلطة من الملكية ونقلها إلى البرلمان ، أما في المغرب فالمسألة لا تقتصر في سلطة من يمارسها بل الإشكال كيف يمارسها؟ وبأية وسائل ؟ زد على ذلك فالأمر له علاقة وطيدة بمسألة ثقافة حكم والثقافة مشكلتها معقدة، لأنها تترسخ في الأذهان وتجاوزها هي مسألة تربية الناشئة والعقول على التخلص من سلطة مؤسسة مترسخة في العقول والقلوب، هذا الأمر هو الذي يفسر حرص المسؤولين الحزبيين على احترام ثقافة وطقوس المخزن أكثر من حرصهم على احترام الديمقراطية في مؤسساتهم الحزبية.
إن تجذر الملكية بالمغرب لم يقتصر على ممارسة الحكم بل تجاوزها إلى سيطرتها على جزء مهم من اقتصاد البلد ، وذلك من خلال الجمع بين الثروة والسلطة.
هذا الأمر يفسر قوة حظور الملكية ، غيرأن تفكيك هذه المؤسسة يحتاج إلى مفتاح ، ومفتاح المنزل يمتلكه رب المنزل والأمر لا يحتاج لدعوى الإفراغ، بل يتعلق بالأساس هل للملكية رغبة في التحول من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية.
بالعودة إلى الواقع السياسي و إلى مناهج التحليل العلمي ، نجد صعوبة في تجميع معطيات تسعفنا في التوصل إلى هذا التحول وذلك يعود بالاساس إلى معطى في غاية الاهمية ، ألا وهو أن الملكية هي الطرف الوحيد والأوحد الذي يعرف حقيقة الدولة ومفاصل قوتها ومكامن ضعفها ، أولم يكن حرص الملك الحسن الثاني على إنجاح تجربة التناوب وإدخال المعارضة الاتحادية في تسيير الحكومة قصد اطلاعها على الملفات الحقيقية للدولة وابتعادها عن خطاب الديماغوجية التي كانت تحترفه وهي في المعارضة نتيجة جهلها بالمعطيات والارقام الاحصائية، لذا فإنه أمام غياب قوى بديلة وشخصيات مؤثرة يمكن أن تحل محل الملكية في امتلاك زمام المبادرة شيء مفتقد ، هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك غياب لأحزاب سياسية قادرة على ملأ المشهد السياسي بالنظر إلى ظعفها المزمن والذي كانت السلطة يد طولى في إفراز مثل هذا وضع ، لكون الأمر لا يتعلق فقط بتسيير مؤسسات ولا نهج سياسات ولا توقيع اتفاقيات ولا رسم خطط، الأمر يتعلق بغياب فضيع لرجالات دولة ولشخصيات مؤثرة ،هذا ما سنوضحه في المستوى الثاني.
المستوى الثاني : مستوى الاحزاب السياسية
إن أكبر متضرر من الإصلاح الدستوري هي الاحزاب السياسية ، لكونها لم تكن مؤهلة لهذا التغيير الذي مس في جزء منه بنية الدولة وذلك على مستوى السلط والصلاحيات المحددة في جزء منها ، التي قد تنعكس على خلخلة قواعد اللعبة السياسية التي امتدت لحوالي نصف قرن ، كيف ذلك ؟.
إن الحزب السياسي المغربي لم يولد في خظم التنافس الديمقراطي، فالولادة كانت في فترة مقاومة الإستعمار ، ومع الحصول على الإستقلال ورثت الأحزاب السياسية ثقافة لا تحتكم للآليات الديمقراطية ( هي ذات ثقافة المخزن التي ورثناها والتي تحدثنا عنها في المستوى الاول ).
وإذا كان هذا على المستوى السياسي ، فعلى المستوى القانوني ، يبرز قانون الأحزاب السياسية والذي صودق عليه في 20 أكتوبر 2005 الدورالمحدود لها المتمثل في تأهيل نخب لتحمل المسؤوليات العمومية ، وبالتالي فالملاحظ هو إنتاج مدبرين ، لذا نجد الاحزاب لا تولي عناء في في تكوين أطرها ، بل همها هو أن تستقطب أطر لتطبيق برنامج محدد سلفا ، بل إننا نجد أحزابا سياسية قوية على المستوى الإنتخابي وضعيفة على المستوى الشعبي، من خلال تكريس جهودها للحصول فقط على أكبر عدد من المقاعد النيابية من خلال منح تزكيتها للأعيان وذوي النفوذ.
غير أنه مع التعديل الدستوري سيطرح إشكال أمام الأحزاب السياسية من خلال الوظائف الجديدة التي أضحت تضطلع بها والتي حددتفي الفقرة الأولى من الفصل السابع منه من خلال العمل على تأطيرالمواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي،وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب،بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
لذا فإن مؤسسة الحزب وأمام ضغط الشارع العربي ومع تسريع وتيرة تنزيل الدستور ، جعل منها مؤسسة خارج التغطية، الأمرالذي يفسره هاجسها تجاه الإستحقاقات الإنتخابية لمجلس النواب المزمع إجراءها في 25 نونبر 2011 ، زيادة على مشاكل العتبة واللائحة الوطنية والتقطيع الإنتخابي، دون اهتمامها بإصلاح البيت الداخلي للتأهيل لمرحلة ما بعد الدستور.
إن هذا الواقع هو الذي ينذر بمحدودية دورالحكومة المقبلة ، أيا كانت النتيجة وأيا كان الحزب الفائز، فلن تستطيع تحقيق مكتسبات ذات بال بالنظر لما سلف من معطيات.
وذلك يعود بالأساس وبالتجربة أنه مهما أتينا بمسؤولين ذوي مستوى عال من الكفاءة والتجربة، فإنهم عندما يمسكون بمنصب سام وبحقيبة وزارية نلاحظ محدودية النتائج التي يحققونها، فلماذا يحصل ذلك ؟هل لأنهم يصطدمون ببيروقراطية تتجاوزهم ؟ ، أم أن آلة الإصلاح تحتاج لوقت أطول مما يعتقدون ؟،أم لتراكم ملفات فساد تتطاير من كل جانب ، الشيئ الذي يجعلهم يدبرون المرحلة بأقل تكلفة ؟.
أحيانا المرحلة تتجاوز كل شخص مهما كان أداءه فعالا ، خاصة إذا كانت المرحلة ملفوفة بصعوباتها المعقدة إن لم نقل المتعفنة، وأحيانا لا تكون للمسؤولين الجرءة الكافية للحديث إلا بعد مغادرة البيت الوزاري ، مثل ما حصل للوزير نبيل بنعبد الله لما غادر منصب وزير الإتصال، الأمر الذي يطيل عملية الإصلاح وفي الأخير تكون كلفته باهظة.
إن الرجال أحيانا مهما كانوا صالحى النية ، فاللحظة تتجاوز الكل ويضحى خطاب التطمين والوعود والإستثناء هو السائد ، حتى أننا أحيانا نطرح سؤالا عريضا هل نحن خارج قوانين الكون ، لنكون محميين ضد التغيير وضد الإنفلات من السيطرة؟.
لا بد في الأخير أن نتحدث عن مستوى ثالث يطرح نفسه ، ألا وهو مستوى المؤسسات والسلط.
المستوى الثالث : دور السلط
إنه أمام الحظور المكثف للمؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي ، جعلها تكون منبع كل السلط سواء التنفيذية أو التشريعية أو القضائية ، إذ أضحت الحكومة مجرد جهاز تنفيذي ينفذ سياسات البرنامج الملكي وبالتالي يعتبر أعضاءه مجرد موظفين سامين يرأسهم وزير أول كبير موظفي الجهاز التنفيذي، أما السلطة التشريعية فكانت مجرد مجلس للشورى بجانب الملك ، أما القضاء فلم يكن في تاريخ دساتير المملكة منذ 1962 وإلى غاية 1996 بسلطة بل ولاية عامة تابعة لأمارة المؤمنين.
حتى الإعلام العمومي فلازال يرتهن لحسابات الدولة في السيطرة على العقول ، أما الأقلام الصحفية التي تحاول أن تبني لنفسها نوعا من الإستقلالية ، فإنها تدخل في مواجهة مع السلطة و ذلك نابع للمعادلة التالية من يخضع لمن ومن ينظبط لمن ؟، فالصحافة تريد أن تخضع للحقيقة فقط ، والسلطة تريد للصحافة أن تنضبط لتوجهها المتمثل في تحكمها في قواعد اللعبة وبالتالي أن تخدم فلسفة رؤيتها للحقائق ، هذا ما يفسره التشنج الذي يحدث أحيانا عندما تتطرق بعض الأقلام الصحفية لملفات لا ترضي السلطة.
لسنا في مفترق الطرق ؟
ففي غياب تأطير المجتمع من قبل هيئات سياسية ذات خطاب سياسي واضح ومستقل عن السلطة ، ضاع الجمهورتحت تأثير الصمت ، فلا السياسي يحاسب ولا الواعظ يحاكم ، كلاهما سجين الحاكم أو رجل السلطة ، وتغيب المحاسبة.
إن قوى التغيير ضعيفة ، وقوى الجمود مستحكمة وقوى الأغلبية صامتة وقوى الإصلاح متواضعة ، فالاولى تستعجل لكنها بلا تصور، والثانية متأهبة لحماية مصالحها بالنظر لتحكمها في مواقع النفوذ في جميع مرافق الدولة ، والثالثة لامبالية، والرابعة غير مستعجلة ، والأخير لن نجد التغيير عند هذه القوى الأربعة.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1
-محمد شقير،أصول الظاهرة الحزبية بالمغرب،المجلة المغربية لعلم الإجتماع السياسي، إفريقيا الشرق1990، عدد 11-12،ص.76-68.
2
-هند عروب،المخزن في الثقافة السياسية المغربية،منشورات دفاتر ،وجهة نظر ،الطبعة الاولى ،ص33-35.
3
-نفس المرجع،ص.113.
4
-نفس المرجع،ص.114.
5
-نفس الرجع،ص.149.
-طبيعة الأستراتيجية السياسية الرسمية التي قامت منذ الحماية على تشجيع وخلق الاحزاب والكيانات السياسية، وذلك للحد من نشاط ونفوذ كل الكيانات الحزبية التي تطمح إلى الهيمنة السياسية.
-الطبيعة المورفولوجية الإجتماعية المغربية التيتنبني على تعددية في مختلف المستويات كالتعددية اللغوية والجهوية والإثنية.
لكن بالإضافة إلى هذين العاملين فهناك طبيعة التنظيم الحزبي المغربي الذي قام منذ البداية على أساس تعددي يكمن في ما يلي:
-تعدد الزعماء السياسيين الذين خاضوا وقادوا الحركة الوطنية، بحيث يستطيع أي أحد منهم احتكار الرمزية الوطنية التي تجل منه زعيما وحيدا وتساعده على خلق حزب وحيد.
-الطابع الشخصي للقيادات الحزبية، بحيث أن أغلب الأحزاب قد نشأت متمحورة حول شخصية رئيسة ناذرا ما تسمح بوجود شخصيات منافسة، الشيئ الذي يضطرهذه الشخصيات إلى خلق كيانات حزبية منافسة.
-الطابع المصلحي الواضح للاحزاب المغربية، إذ أن أغلبها يكون عبارة عن تجمعات المصالح المهنية والإجتماعية، الشيء الذي يفضي في حالة اصطدم المصالح إلى الإنشقاق.
-الطابع الجهوي للكيانات الحزبية المغربية، فاختلاف الهويات الثقافية وتباين المنحدرات الجغافية غالبا ما ينعكس على الأحزاب وانتشارها. " 1 "
لكن السؤال المطروح هو ما هو أفق الحزب السياسي على ضوء التعديل الدستوري لفاتح يوليوز 2011 ،هل ستستطيع هذه الأحزاب أن ترفع رهان التحدي المتمثل في قدرتها على إنجاز برنامج انتخابي قادر لتربح بها شرعيتها الإنتخابية؟ وهل الحزب كمؤسسة يستطيع أن يتجاوز مفهوم تجمع مصالح لا يخدم إلا مصالح فئة ضيقة تستفيد من كعكة السلطة بعيدا عن المحاسبة ، بالنظرإلى أنها كانت إلى أمس قريب تطبق البرنامج الملكي؟ ، إنها أسئلة كثيرة وغيرها صعب الإجابة عنها حتى لا نتهم بأننا غير أكادميين وبالنظر إلى كون دستور 2011 كمقدمة للإصلاح السياسي لم تكن الدولة مهيئة له، نتيجة سرعة تنزيله في سياق الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي، زيادة إلى معطى آخر يتمثل في كون الملكية في عهد الملك محمد السادس لم تكن تولي اهتماما للإصلاح الدستوري بقدر ما انصب اهتمامها للإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية وللأوراش الكبرى ولإنجاز البنيات التحتية ومحاربة الفقر والهشاشة، زيادة على كل هذا كان الملك يركز في جل خطبه على إصلاح البيت الداخلي للأحزاب السياسية.
كل هذه العوامل توضح بأن المناخ السياسي لم بكن مؤهلا لمثل هذا إصلاح بهذا المستوى، نتيجة سرعة إنجازه وقلة استعداد الأطراف الفاعلة ، الأمر الذي سينعكس لا محالة على جودة الإصلاح وكذا مستوى مردوديته ، الأمر الذي يمكن إظهاره على ثلاث مستويات.
المستوى الأول:مستوى الدولة/ المخزن
إن الإصلاح السياسي من زاوية المؤسسة الملكية منذ الحصول على الإستقلال لم تكن معنية به ، لأنها تراه يشمل ما هو أسفل منها ، وهذا يعود لمجموعة من الإعتبارات تاريخية وسياسية جد معقدة ومبررة أحيانا أخرى.
فقد كان للحظور المكثف للمخزن الأسبقية على الدستور الحديث، باعتباره يستند على الإستبداد واللاشرعية(ميشو بلير)، ويعتمد على القوة للحفاظ على الإستقرار والأمن (محمد الطوزي)، ويعبر عن تحالف مصلحي لفائدة الجماعات والأشخاص الذي يكونونه (واتربوري) .
" 2 "
وبالنظر إلى كونه ليس وليد الإستقلال السياسي الشيئ الذي جعله يحظى بمشروعية مسجلة عبر التاريخ.
ومع الإستقلال ورث المغرب إرثا مزدوجا :إرث الماضي بعاداته وتقاليده ومواقفه إزاء السلطة، وإرث الحماية تجسده آليات وبنيات تحتية معقدة غير ملاءمة في الغالب مع واقع البلاد وحاجياتها .
" 3 "
فهذه العادات التقليدية تتمثل في توزيع المناصب والوظائف على المقربين لضمان إخلاصهم ،ليخلص معظم الباحثين والمحللين أن هذا النظام ظل في جوهره ذات النظام وإن اتسع مضمار وظائفه واختصاصاته، بل إن الإستقلال يقول ادريس بنعلي "مكن المخزن من تنمية حقل تدخله وتوسيع نشاطه إلى مجالات جديدة لم يعد دوره منحصرا في إصدار العملة بل أصبح هو منشط الإقتصاد وموقظ المجتمع المدني" .
" 4 "
وبالتالي يعمل دائما على تجديد ديناميته من خلال عدة ثوابت إيديولوجية (الأصالة،التاريخ العريق،الخصوصية،الدين ،المقدسات..).
إن نواة النسق المخزني محمية بخدامها ذوي الذهنيات المخزنية،لتصل بعد مرور 20 سنة من الممارسات السياسية حسب ريمي لوفو أن المخزن ،قد شكل نمطا موازيا لعمل الحكم يحل محل الآليات الرسمية أو يشلها .
" 5 "
إن هذا الإرث المخزني بنفوذه يصعب معه بناء دولة حديثة قائمة على فصل السلط وعلى سيادة القانون ،طالما أن الملكية تقوم على المرتكز الديني من خلال النسب الشريف لتولية الحكم،وكذا آلية البيعة للوصول إلى السلطة.
إن آلة المخزن بالنسبة للملكية لا تستطيع تجاوزها لا سابقا ولا مستقبلا على الأقل في المدى القريب ، وذلك من خلال دعوات أصحاب الملكية البرلمانية ، لكون التحول الذي عرفته بعض الملكيات في أورباإ لى ملكيات برلمانية كان تحولا في نزع السلطة من الملكية ونقلها إلى البرلمان ، أما في المغرب فالمسألة لا تقتصر في سلطة من يمارسها بل الإشكال كيف يمارسها؟ وبأية وسائل ؟ زد على ذلك فالأمر له علاقة وطيدة بمسألة ثقافة حكم والثقافة مشكلتها معقدة، لأنها تترسخ في الأذهان وتجاوزها هي مسألة تربية الناشئة والعقول على التخلص من سلطة مؤسسة مترسخة في العقول والقلوب، هذا الأمر هو الذي يفسر حرص المسؤولين الحزبيين على احترام ثقافة وطقوس المخزن أكثر من حرصهم على احترام الديمقراطية في مؤسساتهم الحزبية.
إن تجذر الملكية بالمغرب لم يقتصر على ممارسة الحكم بل تجاوزها إلى سيطرتها على جزء مهم من اقتصاد البلد ، وذلك من خلال الجمع بين الثروة والسلطة.
هذا الأمر يفسر قوة حظور الملكية ، غيرأن تفكيك هذه المؤسسة يحتاج إلى مفتاح ، ومفتاح المنزل يمتلكه رب المنزل والأمر لا يحتاج لدعوى الإفراغ، بل يتعلق بالأساس هل للملكية رغبة في التحول من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية.
بالعودة إلى الواقع السياسي و إلى مناهج التحليل العلمي ، نجد صعوبة في تجميع معطيات تسعفنا في التوصل إلى هذا التحول وذلك يعود بالاساس إلى معطى في غاية الاهمية ، ألا وهو أن الملكية هي الطرف الوحيد والأوحد الذي يعرف حقيقة الدولة ومفاصل قوتها ومكامن ضعفها ، أولم يكن حرص الملك الحسن الثاني على إنجاح تجربة التناوب وإدخال المعارضة الاتحادية في تسيير الحكومة قصد اطلاعها على الملفات الحقيقية للدولة وابتعادها عن خطاب الديماغوجية التي كانت تحترفه وهي في المعارضة نتيجة جهلها بالمعطيات والارقام الاحصائية، لذا فإنه أمام غياب قوى بديلة وشخصيات مؤثرة يمكن أن تحل محل الملكية في امتلاك زمام المبادرة شيء مفتقد ، هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك غياب لأحزاب سياسية قادرة على ملأ المشهد السياسي بالنظر إلى ظعفها المزمن والذي كانت السلطة يد طولى في إفراز مثل هذا وضع ، لكون الأمر لا يتعلق فقط بتسيير مؤسسات ولا نهج سياسات ولا توقيع اتفاقيات ولا رسم خطط، الأمر يتعلق بغياب فضيع لرجالات دولة ولشخصيات مؤثرة ،هذا ما سنوضحه في المستوى الثاني.
المستوى الثاني : مستوى الاحزاب السياسية
إن أكبر متضرر من الإصلاح الدستوري هي الاحزاب السياسية ، لكونها لم تكن مؤهلة لهذا التغيير الذي مس في جزء منه بنية الدولة وذلك على مستوى السلط والصلاحيات المحددة في جزء منها ، التي قد تنعكس على خلخلة قواعد اللعبة السياسية التي امتدت لحوالي نصف قرن ، كيف ذلك ؟.
إن الحزب السياسي المغربي لم يولد في خظم التنافس الديمقراطي، فالولادة كانت في فترة مقاومة الإستعمار ، ومع الحصول على الإستقلال ورثت الأحزاب السياسية ثقافة لا تحتكم للآليات الديمقراطية ( هي ذات ثقافة المخزن التي ورثناها والتي تحدثنا عنها في المستوى الاول ).
وإذا كان هذا على المستوى السياسي ، فعلى المستوى القانوني ، يبرز قانون الأحزاب السياسية والذي صودق عليه في 20 أكتوبر 2005 الدورالمحدود لها المتمثل في تأهيل نخب لتحمل المسؤوليات العمومية ، وبالتالي فالملاحظ هو إنتاج مدبرين ، لذا نجد الاحزاب لا تولي عناء في في تكوين أطرها ، بل همها هو أن تستقطب أطر لتطبيق برنامج محدد سلفا ، بل إننا نجد أحزابا سياسية قوية على المستوى الإنتخابي وضعيفة على المستوى الشعبي، من خلال تكريس جهودها للحصول فقط على أكبر عدد من المقاعد النيابية من خلال منح تزكيتها للأعيان وذوي النفوذ.
غير أنه مع التعديل الدستوري سيطرح إشكال أمام الأحزاب السياسية من خلال الوظائف الجديدة التي أضحت تضطلع بها والتي حددتفي الفقرة الأولى من الفصل السابع منه من خلال العمل على تأطيرالمواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي،وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب،بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
لذا فإن مؤسسة الحزب وأمام ضغط الشارع العربي ومع تسريع وتيرة تنزيل الدستور ، جعل منها مؤسسة خارج التغطية، الأمرالذي يفسره هاجسها تجاه الإستحقاقات الإنتخابية لمجلس النواب المزمع إجراءها في 25 نونبر 2011 ، زيادة على مشاكل العتبة واللائحة الوطنية والتقطيع الإنتخابي، دون اهتمامها بإصلاح البيت الداخلي للتأهيل لمرحلة ما بعد الدستور.
إن هذا الواقع هو الذي ينذر بمحدودية دورالحكومة المقبلة ، أيا كانت النتيجة وأيا كان الحزب الفائز، فلن تستطيع تحقيق مكتسبات ذات بال بالنظر لما سلف من معطيات.
وذلك يعود بالأساس وبالتجربة أنه مهما أتينا بمسؤولين ذوي مستوى عال من الكفاءة والتجربة، فإنهم عندما يمسكون بمنصب سام وبحقيبة وزارية نلاحظ محدودية النتائج التي يحققونها، فلماذا يحصل ذلك ؟هل لأنهم يصطدمون ببيروقراطية تتجاوزهم ؟ ، أم أن آلة الإصلاح تحتاج لوقت أطول مما يعتقدون ؟،أم لتراكم ملفات فساد تتطاير من كل جانب ، الشيئ الذي يجعلهم يدبرون المرحلة بأقل تكلفة ؟.
أحيانا المرحلة تتجاوز كل شخص مهما كان أداءه فعالا ، خاصة إذا كانت المرحلة ملفوفة بصعوباتها المعقدة إن لم نقل المتعفنة، وأحيانا لا تكون للمسؤولين الجرءة الكافية للحديث إلا بعد مغادرة البيت الوزاري ، مثل ما حصل للوزير نبيل بنعبد الله لما غادر منصب وزير الإتصال، الأمر الذي يطيل عملية الإصلاح وفي الأخير تكون كلفته باهظة.
إن الرجال أحيانا مهما كانوا صالحى النية ، فاللحظة تتجاوز الكل ويضحى خطاب التطمين والوعود والإستثناء هو السائد ، حتى أننا أحيانا نطرح سؤالا عريضا هل نحن خارج قوانين الكون ، لنكون محميين ضد التغيير وضد الإنفلات من السيطرة؟.
لا بد في الأخير أن نتحدث عن مستوى ثالث يطرح نفسه ، ألا وهو مستوى المؤسسات والسلط.
المستوى الثالث : دور السلط
إنه أمام الحظور المكثف للمؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي ، جعلها تكون منبع كل السلط سواء التنفيذية أو التشريعية أو القضائية ، إذ أضحت الحكومة مجرد جهاز تنفيذي ينفذ سياسات البرنامج الملكي وبالتالي يعتبر أعضاءه مجرد موظفين سامين يرأسهم وزير أول كبير موظفي الجهاز التنفيذي، أما السلطة التشريعية فكانت مجرد مجلس للشورى بجانب الملك ، أما القضاء فلم يكن في تاريخ دساتير المملكة منذ 1962 وإلى غاية 1996 بسلطة بل ولاية عامة تابعة لأمارة المؤمنين.
حتى الإعلام العمومي فلازال يرتهن لحسابات الدولة في السيطرة على العقول ، أما الأقلام الصحفية التي تحاول أن تبني لنفسها نوعا من الإستقلالية ، فإنها تدخل في مواجهة مع السلطة و ذلك نابع للمعادلة التالية من يخضع لمن ومن ينظبط لمن ؟، فالصحافة تريد أن تخضع للحقيقة فقط ، والسلطة تريد للصحافة أن تنضبط لتوجهها المتمثل في تحكمها في قواعد اللعبة وبالتالي أن تخدم فلسفة رؤيتها للحقائق ، هذا ما يفسره التشنج الذي يحدث أحيانا عندما تتطرق بعض الأقلام الصحفية لملفات لا ترضي السلطة.
لسنا في مفترق الطرق ؟
ففي غياب تأطير المجتمع من قبل هيئات سياسية ذات خطاب سياسي واضح ومستقل عن السلطة ، ضاع الجمهورتحت تأثير الصمت ، فلا السياسي يحاسب ولا الواعظ يحاكم ، كلاهما سجين الحاكم أو رجل السلطة ، وتغيب المحاسبة.
إن قوى التغيير ضعيفة ، وقوى الجمود مستحكمة وقوى الأغلبية صامتة وقوى الإصلاح متواضعة ، فالاولى تستعجل لكنها بلا تصور، والثانية متأهبة لحماية مصالحها بالنظر لتحكمها في مواقع النفوذ في جميع مرافق الدولة ، والثالثة لامبالية، والرابعة غير مستعجلة ، والأخير لن نجد التغيير عند هذه القوى الأربعة.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1
-محمد شقير،أصول الظاهرة الحزبية بالمغرب،المجلة المغربية لعلم الإجتماع السياسي، إفريقيا الشرق1990، عدد 11-12،ص.76-68.
2
-هند عروب،المخزن في الثقافة السياسية المغربية،منشورات دفاتر ،وجهة نظر ،الطبعة الاولى ،ص33-35.
3
-نفس المرجع،ص.113.
4
-نفس المرجع،ص.114.
5
-نفس الرجع،ص.149.