MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




التحكيم الملكي في سياق مراجعة مدونة الأسرة

     

حسن أهويو



التحكيم الملكي في سياق مراجعة مدونة الأسرة

تعتبر وظيفة التحكيم الملكي ممارسة سياسية عرفية وقاعدة دستورية جديدة صريحة في دستور 2011، وتكمن أهميتها الراسخة في تعزيز الوحدة الوطنية والجغرافية للنظام السياسي ومساعدة الفرقاء على تجاوز الأزمات السياسية والمجتمعية الحرجة، بما يعزز استمرارية ونجاعة النموذج الدستوري والاجتماعي المغربي في سعيه الحثيث لتكريس الخيار الديموقراطي وتثمين قدرته على التكيف الإيجابي والتفاعل المنتج مع قضايا وانشغالات المجتمع ومطالبه التنموية والمعيشية الملحة.

وبهدف محاولة الإحاطة بمضمون وظيفة التحكيم الملكي في سياق النقاش العلمي الموازي لورش مراجعة مدونة الأسرة ورهان حماية التوازن الدستوري والاجتماعي سننطلق من بيان الأساس التاريخي التقليدي لهذه الوظيفة (المطلب الأول) وتطورها الدستوري (المطلب الثاني)، قبل أن نصل إلى رصد معالم التحكيم الملكي بشأن المراجعة التعديلية المنشودة لكسب رهان التوازن المميز لخصوصية النموذج السياسي والتنموي المغربي (المطلب الثالث).

المطلب الأول: الأساس التاريخي التقليدي لوظيفة التحكيم الملكي

لقد أفرز المجتمع المغربي التقليدي واقعا تاريخيا سابقا متميزا بهيمنة تنظيمات قبلية لم تكن منغلقة على نفسها، بل كانت تدخل في علاقات متغيرة لحماية مجالها ومصالحلها. وفي ظل واقع الصراع القبلي والعصبي وضرورة حماية سبل العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي والسياسي، عمدت السلالات الحاكمة للبحث عن آليات لضبط التوازن الاجتماعي وتوجيه السلطة السياسية لضمان حد أدنى من شروط الاندماج في نسق الدولة المغربية والمحافظة على رصيد الولاء والتعايش السلمي.


وقد ساهم الانتقال من الاستناد على القوة القبلية العصبية، كمحدد حاسم سابقا للسلطة، إلى حشد الولاء لرمزية إمارة المؤمنين، في تعزيز وظيفة التحكيم لفائدة عدم التحيز القبلي وتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي وضمان التعايش السلمي بين مختلف الفرقاء والمناطق المغربية. وهذا ما كان يدفع حتى قبائل ومناطق السيبة المحلية المستقلة إلى طلب التدخل التحكيمي في تسوية نزاعاتها. مما يؤكد أن الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به بعض القبائل والمناطق في تسيير شؤونها الداخلية لم يكن يتنافى بتاتاً مع خضوعها للسلطة التحكيمية للسلطان واعترافها بمشروعيته الرمزية حرصا على حفظ الوحدة والاندماج في نسق الدولة المغربية.

وجدير بالذكر أن متولي الحكم في سعيه التحكيمي بين التنظيمات القبلية وإعادة إدماجها في نسق الدولة الموحدة انتهج سياسة دينية توحيدية، تقوم على إشاعة العقيدة الأشعرية والمذهب الفقهي المالكي لبناء الوحدة السياسية وترسيخ الأمن المجتمعي والتعايش السلمي، خصوصا وأن مختلف الفرق الدينية والمذاهب الفقهية والفكرية كان لها دعاتها وأنصارها في المغرب، مما كان يزكي فرص تأجيج التمزق القبلي والعرقي بالتمزق الديني والمذهبي لولا سيادة الحكم التحكيمي وخصوصية التمركز الجماعي والجامع للمغاربة على الوحدة الدينية المذهبية والفقهية المتناغمة مع روح الوسطية المتزنة والاعتدال المغربي السمح.

وقد ساهم التراجع التاريخي لرمزية القبلية العصبية الحاكمة وترجيح شرعية إمارة المؤمنين وانتمائها للدوحة النبوية الشريفة في تعزيز التموقع الموضوعي للسلطة الحاكمة كسلطة فوق الصراع والانتماء القبلي والعرقي و تكريس وظيفة التحكيم بشكل جلي، فلعب متولي الحكم بحياده القبلي والعصبي دورا مهما في تأمين التوازن السياسي والمجتمعي وتحقيق التعايش السلمي بين الفرقاء الاجتماعيين والقبليين وترسيخ الاندماج في نسق الدولة المغربية الموحدة.

وهكذا ظلت نجاعة سلطة الحكم المغربي مقترنة بالقدرة المتواصلة لهذا الأخير على التكيف وتجاوز الصراعات والنزاعات، وتكريس استدامة نزوع القوى المدنية والسياسية والمؤسساتية المتصارعة للجوء إلى طلب التحكيم من وارث السلطة العليا التي تحتضن التعايش وتوحد الاختلاف وتتحمل مسؤولية زمام تجاوز الصراع وسد ثغراته ومآلاته السلبية ومخاطره المحتملة، دون النيل من سموها وتموقعها فوق الصراعات وخارج المعادلة المتقلبة والظرفية لميزان القوى الحزبية والمدنية.

ويكفي عبرة في هذا الصدد الإحالة على حالات تحكيمية تاريخية ساهمت في معالجة نزاعات خطيرة ببعض المناطق، كالتحكيم التاريخي للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان في شأن نزاع طويل بين قصر زناكة وقصر الوداغير بفكيك حول قضايا الماء والأرض، وفي شأن صراع عنيف بين قبائل آيت يوسي بمنطقة الأطلس الكبير، والتحكيم التاريخي للسلطان عبد الرحمان بن هشام في شأن صراع قبيلتي متيوة وغمارة بمنطقة الريف.

ويتعين الإشارة إلى أن وظيفة التحكيم الملكي تنسجم مع واقع تجذر التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع المغربي، وتجعل الملك حكما إيجابيا وفاعلا مؤثرا يتمتع بالسلطة التدخلية والمبادرة، حتى يتمكن من إرساء وتعزيز هبة النظام السياسي والدستوري وتجاوز الأزمات الحرجة.

ومما يعزز ذلك رسوخ الحياد السياسي للملكية وعدم استنادها على مشروع ديني أو حزبي أو انتماء عصبي، وقدرتها المتجددة على التكيف والتدبير القيادي الاستراتيجي في كنف بيئة ثقافة سياسية واجتماعية تعددية ومتناقضة في كثير من تجلياتها وتمظهراتها.

المطلب الثاني: المرجعية الدستورية لوظيفة التحكيم الملكي

بعد استقلال المغرب وانتقاله إلى مرحلة الملكية الدستورية تم تكييف وظيفة التحكيم الملكي بما يضمن الانسجام مع المتطلبات العصرية والمحافظة على الوحدة الوطنية واستصحاب الرمزية الإيجابية لهذه الوظيفة.

ولئن كانت الإحالة النصية لوظيفة التحكيم الملكي لم ترد قبل ربيع الإصلاحات الدستورية الجديدة متضمنة بشكل صريح ومباشر في فحوى الوثيقة الدستورية، فإنها كانت تستمد من مفهوم التمثيلية الدستورية الأسمى وباقي المقتضيات الدستورية التي تكرس سمو الملك وتعاليه عن الصراع السياسي و الحزبي.

فبالإحالة سابقا على الفصل التاسع عشرة ، نجده يضفي على الملك صفة “الممثل الأسمى للأمة”، بصيغة ضمنية في دستور 1962 وبصيغة صريحة في باقي الدساتير اللاحقة. فالملك، الحائز على الولاء الدستوري العام، يعتبر هو المسؤول الأول عن تجسيد رمزية وسلطة التحكيم. لذلك عمدت المعارضة البرلمانية في بعض الحالات إلى إثارتها، كما حصل بخصوص حالات النزاعات المتعلقة بالدورة الاستثنائية خلال التجربة البرلمانية الأولى ) 1963- 1965( وبقانون الخوصصة خلال التجربة البرلمانية الرابعة )1984-1992( وبالقانون الانتخابي خلال التحضير للانتخابات التي أعقبت انتهاء الولاية الانتخابية لمجلس النواب)1984-1992( وباقي الهيئات المنتخبة.

كما أن المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي تجسدت على مستوى تكريس الالتزام الدستوري بالتعددية الحزبية ومنع نظام الحزب الواحد، وعلى مستوى تجسيد الالتزام الملكي بالتموقع فوق صراع الأحزاب وممارسة وظيفة “الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء” وفق خطاب العرش الأول لجلالة الملك محمد السادس، وكما كرسته باقي الخطب والتوجيهات والممارسات الملكية المتعالية عن الاصطفاف الحزبي والصراع السياسي والإيديولوجي.

وقد أصبحت وظيفة التحكيم الملكي تكتسي صبغة دستورية صريحة تبعا للإصلاح الدستوري لسنة 2011،حيث أصبحت واردة بوضوح في فحوى الفصل الثاني والأربعون من الدستور، فالملك باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها . وبموجب هذه الخاصية الدستورية يتحمل مسؤولية السهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، و صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وكذا احترام التعهدات الدولية للمملكة.

مما يعني بالتصريح المنطوق أن الملك يمكنه أن يمارس وظيفته التحكيمية الدستورية بشكل تلقائي وفي نطاق المقتضيات الدستورية والاختصاصات المنوطة به دستوريا، بما يخدم ويحقق غرض اعتباره حكما أسمى. كما يمكنه أن يمارس هذا التحكيم بناء على طلب صريح أو ضمني من الفرقاء في الحالات المحددة دستوريا والمتعلقة أساسا بتجاوز مقتضيات دستورية أو تعثر سير مؤسسات دستورية ووجود تهديد للاختيار الديمقراطي أو للحقوق والحريات الفردية أو الجماعية أو الإخلال بتعهدات دولية.

وبالنتيجة البينة، فالمشرع الدستوري قد حدد على سبيل الحصر الحالات التي يمكن اللجوء فيها لطلب التحكيم الملكي، حتى لا يوجه هذا الطلب لممارسة الضغط الحزبي أو البرلماني أو يستغل في إطار تصريف الصراع الحزبي والسياسي خارج نطاقه الدستوري الاعتيادي. مع الإشارة في هذا الصدد إلى أن الملك غير ملزم دستوريا بالجواب الإيجابي أو السلبي على طلبات التحكيم في كل الأحوال.

وجدير بالذكر أن ممارسة مسؤولية وظيفة التحكيم الدستوري الملكي والتفاعل مع الطلبات الصريحة أو الضمنية، التي قد ترفع في هذا الشأن بمقتضى الفصل المذكور، تتجسد نتائجها بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات الملكية المخولة صراحة بنص الدستور. كما أن هذه الظهائر توقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، في إطار فتح المجال لإمكانية إثارة مسؤوليته السياسية الدستورية بشأنها. حيث تم حصر حالات الظهائر الخالصة للتوقيع الملكي بموجب الفصل الواحد والأربعون وباقي الفصول المحال عليها بموجبه. ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بالظهائر المتعلقة بممارسة الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين. وتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. وإعفاء الحكومة بكاملها على إثر استقالة لرئيس الحكومة .أو ممارسة حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما .

وفضلا عن الاختصاصات الدستورية المنوطة بالملك فإن هذا الأخير يمكنه ممارسة الوظيفة التحكيمية الدستورية في نطاق الاختصاصات والتقنيات الدستورية التي خولها له الدستور صراحة وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا المحددة في حد ذاتها صراحة بموجب الوثيقة الدستورية. ومن بينها:

– تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وإعفاء عضو أو أكثر من أعضائها من مهامهم بمبادرة منه وبعد استشارة رئيس الحكومة، والنظر في الطلب الموجه إلى جلالته من لدن رئيس الحكومة بشأن إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة (الفصل 47).

ومن المعلوم أن النظر في مثل هذه الحالات السياسية مفتوحة على الاستجابة الإيجابية أو السلبية، تبعا للتقدير الملكي للطلب، في سياق مسؤوليته الدستورية.

– النظر في الطلب الموجه إلى جلالته من طرف رئيس الحكومة بخصوص إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية، مما يعني أن النظر والحسم في استقالة الوزراء موكول لنظر الملك وذلك في إطار تكريس العقلنة البرلمانية وتفادي توالد وتواتر لحظات الأزمات الحكومية والسياسية

–إعلان حالة الاستثناء في حالة وجود تهديد جدي للتراب الوطني أو ووقوع حالة من الأحداث المعرقلة للسير العادي للمؤسسات الدستورية (الفصل 59).

ودون حاجة إلى عرض جميع الاختصاصات الدستورية التي تمارس بظهير ملكي، والتي يمكن للملك مباشرتها في سياق مهامه الدستورية العادية وفي نطاق التعاون والتوزيع التشاركي الدستوري للاختصاصات مع باقي المؤسسات الدستورية، فإنه من المهم الإشارة إلى أنه قد يقتضي نظره الدستوري التقديري تفعيل بعض مقتضياتها في سياق تفاعله مع لحظات الأزمات السياسية التي تقترن بشكل مباشر وجوهري بضرورة الاستجابة لمطالب تحكيمية ذات خصوصية دستورية تستوجب تصحيح الأمور التي تخل بأحكام دستورية، أو تهدد السير العادي لعمل المؤسسات الدستورية، وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا. وهنا فلا يمكن لظهائر نتائج التدخل الملكي التحكيمي بشأنها إلا أن تجسد درجة السمو الملكي المدعم لصيانة الاختيار الديموقراطي المتعالي عن درجة التنافس السياسي والحزبي وتقديرات المصالح الحزبية والفئوية المغلفة أحيانا بمصلحة عامة، بحيث لا يمكن من الناحية الدستورية التقنية والموضوعية تصور رهنها بنطاق التحكيم الدستوري الملكي.

المطلب الثالث: معالم التحكيم الملكي لمراجعة المدونة ورهان التوازن الدستوري والاجتماعي

كما هو معلوم، فإن مراجعة مدونة الأسرة كانت ولا تزال محفزا منتجا لتقاطب استثنائي حساس وحيوي، يشتد فيه الصراع السياسي ومنسوب النقاش العمومي والمجتمعي.

ويمكن تأويل ذلك بحقيقة تداخل موضوعي، لم يرتفع ولن يرتفع، بين البعدين الديني والمدني في تدبير السياسة العامة لمنهجية هذه المراجعة ومخرجاتها التشريعية، لاسيما أن فحوى المدونة، يتضمن من زاوية أولى مقتضيات ذات بعد شرعي ديني، تندرج من حيث الأساس الجوهري في نطاق زاوية مسؤولية الاختصاص الحصري لجلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين وحاميا دينيا، ومن زاوية أخرى تستوعب المدونة مقتضيات ذات بعد مدني زمني عادي، من صلاحيات السلطة التشريعية التي تخضع في حد ذاتها لمختلف آليات التأثير الدستوري والمجتمعي المباشر وغير المباشر.

كما تقترن الحساسية المتجددة لهذا الموضوع بخاصية الارتباط الوثيق لنظام الأسرة بقضايا المرأة والطفولة والحرية والحماية التي تثير باستمرار أحد أهم جوانب الخلاف وتمايز الاستقطاب بين متجهة تيار حدثوي تحرري ينعش مواقفه في الغالب بمرجعية حقوقية متحمسة لمواثيق ومعاهدات دولية من جهةـ ومتجهة تيار أصولي محافظ يحشد دعم مواقفه بمرجعية دينية فقهية متمسكة بتعزيز ديمومة ثوابت و قطعيات في تشريع نظام الأسرة.

وحيث يتبين جليا أن استدامة هذه الثنائية والإزدواجية المرجعية مثيرة لتناقضات عميقة وراسخة في زوايا النظر، بما ينعش مخاطر التصادم وكبح جماح أي مبادرة ثورية لتعديل بعض مقتضيات المدونة أو يفتح منافذ انتعاش نزوع إرتدادي بعد ترسيم وتقنين مخرجات جديدة معدلة لمقتضيات المدونة، فإن هذه الازدواجية المرجعية يمكن من وجهة زاوية أخرى أن تثري فرص التعايش والتكامل الدستوري والمجتمعي لتجويد الإطار التشريعي لنظام الأسرة لفائدة جميع المغاربة ولمصلحة المغرب دون انزياح لغلبة أو تغليب وجهة نظر متجهة تيار على آخر.

وحيث لا جدال في تأكيد أهمية ترجيح الزاوية الإيجابية التكاملية للمبادرة الإصلاحية التحينية للمدونة، بالنظر لرصيد التدبير التحكيمي الملكي لهذا الورش الحساس، وفي نطاق مستوعب لأحكام الدستور وتواتر الضوابط والتوجيهات الملكية السامية المتعلقة بقضايا الأسرة ونظامها الديني والمدني، بما يبرز بحق نجاعة النموذج التحكيمي الملكي الذكي في معالجة إشكالية مصيرية احتدم بشأنها الجدل المجتمعي والسياسي والاعلامي ويتفاوت تقييم سقف توقعات مآلاتها التشريعية ومستوى حركة التعقيب والتفاعل الاسترجاعي المحتمل بعد اعتماد وثيقة النص التشريعي المحين بشأنها.

وفي هذا الصدد يجدر التذكير بالدور الإيجابي الحاسم لجلالة الملك في مراجعة المدونة وقدرته القيادية الاستيعابية لواقع الاختلاف وتنوع المرجعيات والمقاربات الاقتراحية، كما أنه على غرار التحكيم الملكي المؤطر لمرحلة اعتماد أول نص تشريعي مؤسس لمدونة الأسرة بقانون صادر عن البرلمان، يبرز التحكيم الملكي التلقائي المحدد للمرحلة الجديدة لبلورة واعتماد النص التشريعي المعدل للمدونة المذكورة.

ويمكن على نحو الإجمال بيان معالم التحكيم الملكي من زاوية إرساء خصوصية استثنائية للمسطرة التشريعية المتعلقة بمدونة الأسرة ومن زاوية مسعى تجويد وتطوير مقتضيات هذه الوثيقة في نطاق الاجتهاد والتشريع في مجال الممكن.

فمن الزاوية المتعلقة بالمسطرة التشريعية تبرز استمرارية الحرص الملكي على بلورة التحيين الجديد للمدونة في إطار التوافق الوطني وبمقاربة تشاركية أشرفت عليها لجنة بين مؤسساتية قضائية وإدارية قطاعية ودينية وحقوقية، علما أن النظر السديد في مآل نتائج ومقترحات هذه اللجنة وتصفيتها، قبل توجيه وتحديد معالم المقتضيات التشريعية التعديلية الجديدة، موكول لجلالة الملك بمسؤوليته الدستورية والدينية وتموقعه السامي فوق المؤسسات والصراعات السياسية والمجتمعية وباستناده المستمر لركائز التوازن والتعايش والاستقرار والوحدة الوطنية والمذهبية المالكية السمحة الجامعة.

ومما يتعين الإحالة عليه في معرض تثمين أهمية هذه المنهجية الملكية التشاركية والتحكيمية ثبوت تسجيل هزال تشريعي بين في مجال اعتماد و تمرير المبادرات التعديلية الحزبية البرلمانية للمدونة في نطاق العملية التشريعية الاعتيادية، وذلك نظرا للحساسية الكبيرة المقترنة بمضامينها وتعذر التوافق الحزبي والبرلماني والمجتمعي بشأنها، كحال مجمل مقترحات القوانين المودعة برفوف الرصيد البرلماني السابق والحالي في شأن ثبوت النسب أو الاستثناء المتعلق بسن الزواج أو إشراف القضاء على التطليق أو الذمة المالية المستقلة والأموال المشتركة.

ومن زاوية المسعى التحييني التأهيلي لمقتضيات المدونة، فيجدر الإقرار بأهمية تثمين واستصحاب التطور الذي تحقق منذ صدور وثيقة القانون رقم 70.03 المؤسس لهذه المدونة سنة 2004 بمبادرة تفاعلية تحكيمية للملك محمد السادس في نطاق مسعى تفعيل الاجتهاد المبدع والمتزن لتحقيق التناغم الممكن مع المنظومة الحقوقية الملزمة، ومتغيرات البيئة المغربية في نطاق أحكام الدستور واستمرارية الثوابت الدينية القطعية، ومن بين أهم الاصلاحات التشريعية التي ميزت المدونة:

– إقرار المساواة في سن الزواج وتوحيده في 18 سنة كقاعدة عامة مع سن الاستثناء الظرفي الموضوعي وتخويل السلطة التقديرية بشأنه للقضاء، وفتح المجال التشريعي لزواج الراشدة في نطاق رغبتها ومسؤوليتها التقديرية الحرة لتفعيل أو عدم تفعيل حقها الاختياري في الولاية حسب مصلحتها.

– وضع التقييد التشريعي والشرعي للتعدد وتضييق نطاقه بضوابط صارمة يخضع النظر في تقديرها لسلطة القضاء مع استبعاد منعه المطلق درءا لتفشي التعدد الرضائي غير الشرعي، انسجاما مع ما ورد في فحوى التوجيه التحكيمي الملكي السامي المقتبس من الخطاب الافتتاحي للبرلمان برسم سنته التشريعية الثانية من الولاية السابعة والمستند على نصه في ديباجة المدونة.

– التنصيص على جعل الأسرة تحت الرعاية المشتركة للزوجين معا، وفتح المجال للزوجة لطلب التطليق والحصول عليه دون قيد إثبات الضرر، مع تشريع خيار الطلاق الاتفاقي تحت مراقبة القضاء ووضع مسطرة قضائية ملزمة لمحاولة الصلح قبل الطلاق.

– التأكيد على استمرارية قاعدة الذمة المالية المستقلة للرجل والمرأة في العلاقة الأسرية كمبدإ عام دون إغفال تشريع حرية التدبير الاتفاقي المصلحي المشترك للممتلكات والموارد المالية المكتسبة من لدنهما خلال الزواج.

وبغض النظر عن تباين وجهات النظر التقييمة لأثر مخرجات الطفرة التشريعية السابقة والمحتملة لمدونة الأسرة بعد اكتمال مرور عشرين سنة على تفعيل مبادرة التحكيم الملكي بشأنها، فإنه يتعين التأكيد على خاصية استمرارية رهان التأمين الملكي السامي الحافظ للتوازن الدستوري والاجتماعي وللتعايش الوطني بين متجهتي الاصلاح الديني والمدني في تشريع الأسرة المواطنة وقضايا الطفل والمرأة والرجل على حد سواء.

وفي هذا الصدد، ومن جهة أولى، فإن المقتضيات التشريعية التحيينية للمدونة لا يمكن أن تخضع بكل تأكيد وعلى كل حال لمعادلة وميزان الغلبة الفئوية أو الحزبية أو البرلمانية أو الاجتماعية، بل لابد أن تظل مقيدة بفحوى منطوق التوجيه الملكي، بخاصيته الوطنية الجامعة لتعزيز منسوب الثقة والولاء لشرعية المؤسسات الدستورية ونبل غاية المراجعة المنشودة، وذلك حرصا على تأمين التفاعل الإيجابي والقبول الطوعي العام للتشريع المتعلق بنظام الأسرة وتعزيز المنظور الوطني والمواطن العاصم من مخاطر الاحتقان السياسي والفتن المجتمعية ف: “الإصلاحات لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين” وفقا للمنطوق الملكي .

كما لابد أن تتناغم مخرجات مراجعة مدونة التجاوب المتزن والمتوازن مع الإرادة الجماعية للمغاربة وتجسد مستوى الحرص الملكي الدائم على المسعى الوطني ل: “تجنيب المجتمع مغبة الفتنة حول هذه القضية”.

ومن جهة ثانية، فإن هذا الورش التعديلي الهام محكوم بتعذر تجاوز سقفه الإصلاحي، لكونه لا يستهدف إنتاج نص تشريعي جديد مؤسس وغير مسبوق، بل يروم إعادة النظر في مقتضيات الوثيقة الجاري بها العمل عبر تقييمها وتقويم اختلالاتها وعيوبها وجوانب ضعفها المستلهمة أساسا من حصيلة الممارسة والاجتهاد القضائي ومبتغى ملائمتها مع أحكام الدستور الجديد وتأهيلها لمواكبة التطور الذي عرفه المغرب ومتطلبات تنميته المستدامة، تبعا لما ورد في الرسالة الملكية السابقة الموجهة للمشاركين في المؤتمر الإسلامي الخامس للوزراء المكلفين بالطفولة، الذي احتضنته العاصمة الرباط في فبراير 2018، ووفقا لفحوى الرسالة الملكية المرجعية الموجهة لرئيس الحكومة في شتنبر 2023، بشأن إعادة النظر في مدونة الأسرة.

وبالإجمال وبغض النظر عن نتائج التحكيم الملكي وأهم مضامينها التعديلية التي سيتم اطلاع الرأي العام عليها حالما تستكمل مرحلة النظر الملكي السديد والتصفية السامية لمخرجات وتوصيات اللجنة المختلطة التي كلفت ببلورة اقتراح مراجعة مقتضيات المدونة، فإنها تثير أهمية قصوى في كسب اختبار رهان جديد ومتجدد لحفظ وترسيخ أمن التوازن الدستوري والاجتماعي المميز لخصوصية النموذج السياسي والتنموي الوطني.

لنصل إلى استنتاج كون مدار بوصلة المراجعة الموضوعية والمواطنة لمدونة الأسرة لن ينحاز بأي حال من الأحـوال عن ترسيخ خصائص التحكيم الملكي ونجاعته التدخلية الفاعلة والمؤثرة في ورش المراجعة المفتوحة وحفظ أمن استقرار نظام الأسرة.

كما أن المخرجات التشريعية التعديليلة المقبلة لا بد أن تعكس بشكل كبير جودة المزاوجة الموضوعية بين غاية مواكبة الالتزامات الاتفاقية الحقوقية الكونية للمملكة في نطاق المجالات المدنية الزمنية الممكنة لمدونة الأسرة وحمايتها القانونية الضرورية باعتبارها الخلية والمؤسسة الأولى للدولة والمجتمع من جهة، وبين مسعى تفعيل الاجتهاد الفقهي المقاصدي فيما لا نزاع في كونه ضمن مجال المقتضيات الدينية الظنية بمنظور أهل الاختصاص لمواكبة روح العصر ومستجدات البيئة المغربية من جهة أخرى.

ودون استبعاد مواصلة استصحاب واستمرارية تقنين المقتضيات الدينية القطعي لنظام الأسرة ، بما لا يعدم حق تجويد صياغتها عند الاقتضاء، و ذلك على هدي التقيد الملزم بحجية الدفع الملكي المتجدد والحاسم بقاعدة استحالة تمرير أي مبادرة تشريعية تحلل ما حرم الله وتحرم ما حلل الله. كما ورد بصريح منطوق التوجيه الملكي في عدة مناسبات، مما يبرز خصوصية المسؤولية الحقوقية والدينية لجلالة الملك باعتباره حكما فاعلا ومؤثرا ومدافعا ساميا وحاميا وطنيا مؤمنا للتكامل المرجعي الحقوقي والديني وللمراجعة المتوازنة والمنتجة لمقتضيات المدونة في نطاق تموقعه الدستوري والسياسي فوق صراع الفاعلين الحقوقيين والحداثيين والمؤثرين الدينين والمحافظين الاجتماعيين.



الاربعاء 29 ماي 2024

عناوين أخرى
< >

السبت 29 يونيو 2024 - 19:13 البرلمان والضريبة


تعليق جديد
Twitter