العدالة الانتقالية ليست مجرد إطار قانوني لمعالجة إرث الانتهاكات، بل هي مسار شامل ومتكامل يهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية وترميم النسيج الاجتماعي، من خلال مداواة جراح الماضي، والاعتراف بمعاناة الضحايا، ومساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، مع ضمان عدم تكرارها. وتعتمد هذه العملية على نهج متكامل يجمع بين المساءلة القانونية، والإصلاح المؤسسي، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، مما يرسخ قيم العدالة ويبني مستقبلاً قائماً على الإنصاف والسلام.
لقد أصبحت العدالة الانتقالية رمزاً للتحول الإيجابي من واقع الصراع والقمع إلى فضاءات السلم واحترام حقوق الإنسان، ورغم تنوع الآليات والتطبيقات بين المجتمعات، يظل الهدف الأساسي ثابتاً في معالجة إرث الماضي وبناء مستقبل يعمه السلام والمصالحة.
في هذا المقال، نستعرض قدرة العدالة الانتقالية على تعزيز التوازن المجتمعي، مع تسليط الضوء على تجربتي جنوب أفريقيا والمغرب كنموذجين ناجحين لتحقيق المصالحة الوطنية، كما نناقش التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في السياق اليمني، مع التركيز على تصميم سياسات تتناسب مع الخصوصيات المحلية وتعزز الثقة بين مكونات المجتمع.
ورغم أهداف العدالة الانتقالية النبيلة، تثير هذه العملية أحياناً مخاوف من أنها قد تُهدد التوازن الاجتماعي، خاصةً إذا لم تُنفذ بعناية تتماشى مع احتياجات المجتمع وتحدياته، المخاوف من فتح ملفات الماضي قد تكون مبررة في بعض السياقات، إذ يُخشى أن تؤدي إلى تصعيد النزاعات بدلًا من تحقيق الاستقرار.
يُعزى التخوف من إمكانية أن تُسهم العدالة الانتقالية في تعزيز الانقسامات بدلاً من تحقيق المصالحة إلى تعقيد طبيعتها وتعدد جوانبها، حيث لا تقتصر على الملاحقات القضائية بمفردها، بل تشمل آليات متنوعة، مثل تقصي الحقائق، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، ويُعد التطبيق الحكيم لهذه الآليات عنصراً أساسياً لتحقيق توازن عدلي يحترم النسيج الاجتماعي ولا يمسه بسوء، فالعدالة الانتقالية ليست أداة للانتقام، بل وسيلة لإعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع بمختلف مكوناته.
ويُعتبر تفعيل العدالة الانتقالية بمثابة عملية متكاملة تتطلب توازناً دقيقاً بين حق الضحايا في الوصول إلى العدالة، وحاجة المجتمع إلى الاستقرار، ويرتكز نجاحها على منظومة شاملة تشمل المحاكمات عند الضرورة، مع الاعتراف بمعاناة الضحايا وإدماجهم في صياغة مستقبل يعيد بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع، وبالتالي فهي ليست مجرد وسيلة للمحاسبة، بل آلية لإعادة بناء الثقة المجتمعية، عبر إقرار المسؤولية عن الانتهاكات وضمان جبر الضرر، مما يمهد لمصالحة حقيقية تعتمد على رؤية طويلة الأمد، قوامها العدالة والسلام الاجتماعي.
تواجه العدالة الانتقالية في اليمن إشكاليات معقدة نتيجة الانقسامات العميقة التي خلفتها الصراعات المستمرة والانتهاكات الواسعة على مدار عقود، هذه التعقيدات تتفاقم بسبب المخاوف من أن يؤدي تطبيق العدالة الانتقالية إلى زعزعة التوازن المجتمعي الهش وفتح جراح الماضي، مما قد يُعرقل مساعي السلام والاستقرار.
أحد أبرز التحديات هو احتمال استخدام العدالة الانتقالية كأداة سياسية للانتقام، وهو ما قد يعمق الانقسامات بدلاً من تعزيز الوحدة، كما تشكل الطبيعة القبلية والمناطقية للمجتمع اليمني عائقاً إضافياً، حيث قد تعتبر بعض الفئات أن المحاكمات أو لجان تقصي الحقائق تهدد مصالحها أو مكانة زعمائها.
علاوة على ذلك، يعاني اليمن من غياب الإرادة السياسية، إلى جانب استمرار الصراعات العسكرية والسياسية التي تُجدد الانتهاكات بدلاً من إنهائها، كما أن تورط أطراف الصراع في انتهاكات حقوق الإنسان يعقد تحديد المسؤوليات والمساءلة، في حين يساهم رفض بعض الأطراف الاعتراف بالحقيقة في إعاقة المصالحة.
يُضاف إلى ذلك أن ضعف جهاز العدالة وفقدان الثقة به، يعيق تنفيذ عدالة انتقالية فعّالة، كما أن عجز السلطات عن تقديم تعويضات كافية للضحايا يفاقم الجروح القديمة ويُصعّب تحقيق المصالحة الوطنية.
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن، فإنها تظل أداة جوهرية لمعالجة إرث الانتهاكات وبناء سلام دائم، ويتطلب هذا الأمر تصميم آليات تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع اليمني وتعقيداته، مع التركيز على إشراك جميع المكونات المجتمعية وتعزيز الثقة بين الأطراف المختلفة، لضمان أن تكون العدالة وسيلة للمصالحة لا لتكريس الانقسام.
إذا تمت مراعاة هذه التحديات عند تصميم سياسات العدالة الانتقالية، يمكن لهذه الآليات أن تصبح أداة فعّالة لتحقيق المصالحة الوطنية، فالتوجه نحو لجان الحقيقة والمصالحة، وإصلاح المؤسسات، وجبر ضرر الضحايا، يمكن أن يلعب دوراً محورياً في تحقيق المصالحة بطريقة لا تزيد من تعميق الانقسامات، بل تعزز الثقة وتساهم في بناء مستقبل أكثر استقراراً.
كما إن تبني نهج العدالة التصالحية، القائم على الاعتراف بمعاناة الضحايا وتقديم الاعتذار، يمكنه أن يخفف من التوترات ويحول دون توظيف العدالة الانتقالية لأغراض انتقامية، وينبغي أن تركز هذه السياسات على تأسيس آليات للتعويضات وإصلاح المؤسسات التي تستجيب لاحتياجات الضحايا من جهة، وتوفر إطاراً لبناء مؤسسات ذات مصداقية وملتزمة بمبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون من جهة أخرى.
وتشكل المصالحة جزءاً أساسياً من عملية العدالة الانتقالية، وهو ما أكدته تجارب عديدة من خلال تبني تسميات تعكس هذا البعد، مثل "هيئة الإنصاف والمصالحة" أو "لجان الحقيقة والمصالحة" أو "لجان المصالحة الوطنية" وذلك للتأكيد على أن الهدف ليس فقط تحقيق العدالة بمفهومها التقليدي من خلال المحاكمات والمحاسبة، بل أيضاً العمل على بناء جسور الثقة بين مختلف مكونات المجتمع المتأثرين بالصراعات.
وتشكل التجارب الدولية في العدالة الانتقالية، مثل التجربة الجنوب أفريقية والمغربية، نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها في معالجة إرث الانتهاكات في سياقات ما بعد النزاع، ومع ذلك فإن تطبيق هذه الآليات في سياق اليمن يتطلب فهماً عميقاً للخصوصيات المحلية، بما في ذلك تعقيداته القبلية، وتركيبته المناطقية، إضافة الى التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
تعتبر التجربة الجنوب أفريقية نموذجاً بارزاً على نجاح العدالة الانتقالية في تحقيق المصالحة، فقد أسست لجنة الحقيقة والمصالحة، التي اعتمدت على جمع شهادات الضحايا والجناة، ومنحت العفو المشروط للجناة الذين اعترفوا بجرائمهم مقابل تعاونهم الكامل في توثيق معاناة الضحايا والاعتراف بحقهم في العدالة، الأمر الذي وفر فرصة للمتورطين في الانتهاكات للمساهمة في بناء مجتمع جديد يعتمد على الشفافية والاحترام المتبادل، وساعد في معالجة الماضي بطريقة تهدف إلى بناء السلام والاستقرار بدلاً من تأجيج الانقسامات، وقد قدمت هذه التجربة نموذجاً يمكن الاحتذاء به في التعامل مع إرث الانتهاكات.
أما تجربة المغرب في العدالة الانتقالية، فقد تميزت بتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة التي سعت إلى معالجة إرث "سنوات الرصاص"، معتمدة على آليات متعددة تشمل الكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي والتشريعي، وعلى الرغم من أن الهيئة لم تُمنح صلاحية الملاحقة الجنائية، إلا أن نهجها التصالحي عزز الثقة بين الدولة والمجتمع، وأسهم في تكريس مفهوم العدالة التصالحية كوسيلة لتجاوز الماضي دون اللجوء إلى الانتقام أو تأجيج الصراعات، وقد تركت هذه التجربة بصمة مميزة، حيث أصبحت نموذجاً يسعى إلى تحقيق العدالة والسلام المجتمعي مع مراعاة خصوصية المجتمع المغربي وتعقيداته الاجتماعية والسياسية.
تعتبر العدالة التصالحية من الأدوات التي اعتمدتها اليمن في فترات سابقة، خاصةً قبل عام 2011، من خلال صدور قوانين عفو شامل وقرارات عفو خاصة، كان آخرها منح الحصانة التامة من الملاحقة القانونية للرئيس الأسبق علي عبد الله صالح ومن عمل معه.
وفي عام 2013 حققت حكومة الوفاق الوطني خطوة بارزة في إطار تعزيز العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، حيث قدمت اعتذاراً رسمياً إلى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية، وإلى أبناء محافظة صعدة والمناطق المجاورة، تنفيذاً لتوصيات النقاط العشرين التي أقرتها اللجنة الفنية للإعداد والتحضير لمؤتمر الحوار الوطني، والنقاط الإحدى عشر التي أقرها فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار، وقد تميزت هذه القرارات بالاعتراف بالانتهاكات التي وقعت في الماضي دون محاولة لتبريرها، والتأكيد على رد الاعتبار للضحايا وتحميل كافة الأطراف المشتركة في الصراعات السابقة مسؤولية مشتركة.
ورغم أهمية هذه القرارات، إلا أن الخطوات العملية تظل ضرورة لتحقيق العدالة الفعلية، إذ يتطلب الأمر تقديم التعويضات المادية والمعنوية للضحايا، ووضع ضمانات لتجنب تكرار الانتهاكات، وإصدار قوانين تدعم المحاسبة وتحمي حقوق الإنسان.
ويعكس مشروع قانون العدالة الانتقالية اليمني توجهاً مميزاً، حيث يشترط على الجناة الاعتراف بالانتهاكات، وتقديم الاعتذار، وطلب العفو من الضحايا، مع التأكيد على ضرورة تحملهم المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن أفعالهم، كما ينص المشروع على عدم تطبيق نصوص قانون العقوبات عليهم في حال امتثالهم لإجراءات الهيئة، يهدف هذا النهج إلى تحقيق توازن بين السماح بعملية المصالحة وضمان المساءلة، مما يسهم في بناء الثقة وتعزيز المصالحة الوطنية على أسس قانونية وأخلاقية متينة.
وقد بدأت تظهر في الآونة الأخيرة مؤشرات على توجه اليمن نحو تبني العدالة الجنائية، وذلك من خلال تكليف اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان بإحالة الملفات التي اكتمل التحقيق فيها إلى النيابة العامة، فضلاً عما نص عليه مشروع الدستور الجديد من ضرورة اتخاذ إجراءات لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، ووضع آلية لمساءلة ومحاسبة الأفراد والجماعات والمؤسسات المسؤولة عن هذه الانتهاكات.
ورغم ما تقدمه العدالة الجنائية من مزايا في تحقيق العدالة للضحايا وردع الانتهاكات المستقبلية، فإنها تواجه تحديات جسيمة في السياق اليمني المعقد، وتزداد صعوبة هذه التحديات في ظل الانقسام القضائي الناتج عن التطورات الأخيرة، مما يزيد من تعقيد تطبيق العدالة الجنائية بشكل فعّال ومنصف.
كما إن التركيز بشكل رئيسي على العدالة الجنائية قد يساهم في تحقيق جزء من العدالة، لكنه قد يؤدي إلى توترات مجتمعية متزايدة، خاصة إذا طغى الطابع العقابي على العملية دون مراعاة الأبعاد الاجتماعية والسياسية، وهذا قد يثير مخاوف من الانتقام ويعرقل جهود بناء الثقة بين الأطراف المختلفة.
على الرغم من أهمية العدالة الجنائية، في ضمان المحاسبة وإظهار سيادة القانون، إلا أنها تحتاج إلى أن تكون جزءاً من مقاربة شاملة ومتوازنة، يجب أن تتكامل مع تدابير أخرى تدعم المصالحة الوطنية، مثل لجان الحقيقة والمصالحة التي توثق المعاناة وتقر بالحقائق، إضافة إلى برامج إعادة الإدماج، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات، فالتوازن بين المحاسبة والمصالحة هو مفتاح تحقيق سلام مستدام في اليمن، حيث أن التركيز المفرط على جانب واحد قد يؤدي إلى نتائج عكسية تقوض الجهود المبذولة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي.
ومن جهة أخرى فان تحقيق المصالحة في سياق العدالة الانتقالية التي تشمل الملاحقات القضائية يتطلب مزيجاً من المحاسبة الجنائية وآليات تدعم التماسك الاجتماعي، وهي معادلة دقيقة تهدف إلى تجنب تحوّل المحاكمات إلى سبب لتوترات جديدة أو إحياء لمشاعر الانتقام، إذ يمكن للملاحقات القضائية أن تساهم في تحقيق المصالحة في اليمن إذا تمت في إطار منظم يشمل ما يلي:
- التوازن بين المحاسبة والعفو المشروط، إذ يمكن منح عفو مشروط مقابل التعاون والاعتراف بالحقيقة وتقديم الاعتذار، كما حدث في جنوب إفريقيا، حيث ساعد هذا النهج على إظهار الحقائق والاعتراف بالمسؤولية دون تحطيم الأواصر الاجتماعية.
- تفعيل دور لجان الحقيقة والمصالحة في تقديم منصة شفافة للاستماع إلى الضحايا والجناة، بهدف توثيق الانتهاكات وإظهار الحقائق، فالسماح للضحايا بسرد معاناتهم وتوثيق قصصهم أمام الرأي العام يمكن أن يكون بديلاً فعالاً عن العقاب المباشر، مما يسهم في تعزيز الثقة بدلاً من تعزيز الانقسامات.
- تطبيق برامج تعويضات ودعم نفسي واجتماعي للضحايا يساعد على إغلاق الجروح القديمة ويوفر شعوراً بأن العدالة تتحقق ليس فقط بمعاقبة الأفراد، بل أيضاً بإعادة الاعتبار للضحايا.
- التركيز على إصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات القضائية هو أحد أركان العدالة الانتقالية، مما يمنع تكرار الانتهاكات، ويعزز الشعور بالأمان ويخفف من التوترات.
- إشراك المجتمع في صياغة السياسات الخاصة بالعدالة الانتقالية يساهم في زيادة شرعية هذه السياسات، فضلاً عن تقليل الشعور بالعزلة لدى مختلف فئات المجتمع، كما أن إشراكهم في عملية الإصلاح يعزز من فرص بناء الثقة والمصالحة.
يمكن للملاحقات القضائية، عند تنفيذها ضمن إطار تدابير العدالة الانتقالية، أن تسهم في تعزيز المصالحة بدلاً من تقويضها، وذلك من خلال تحقيق العدالة بطريقة تدعم التماسك الاجتماعي، تُظهر
التزام المجتمع بمواجهة الماضي بشفافية وبنظرة شاملة تراعي حقوق جميع الأطراف، مما يعكس إرادة جماعية للتقدم نحو مستقبل أكثر انسجاماً وعدالة، حيث تصبح العدالة أداة لبناء السلام والاستقرار بدلاً من كونها سبباً للتفرقة والتوتر.
وختاماً، يمكن القول إن العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة للمحاسبة ومعالجة إرث الانتهاكات، بل هي مشروع طويل الأمد يهدف إلى بناء التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع وتعزيز النسيج الاجتماعي وإرساء أسس نظام قائم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، كما إن تنفيذها بشكل يراعي السياق المجتمعي، ويلبي احتياجات الضحايا، ويسعى إلى بناء مستقبل أكثر استقراراً، يجعلها ركيزة أساسية لتحقيق مصالحة وطنية مستدامة، فالمصالحة الحقيقية تتطلب رؤية شاملة للعدالة الانتقالية كمشروع مجتمعي طويل الأمد، يحقق العدالة ويرسخ الاستقرار، ويمهد لبناء مجتمع موحد يتجاوز مآسي الماضي نحو مستقبلٍ مشتركٍ يعمه السلام.