الكتلة المفاهيمية للأمن في ظل عالم متغير
الدكتور محمد لكموش
يعتبر مفهوم الأمن من المفاهيم التي كان لها دور مركزي في حياة المجتمعات الإنسانية، وذلك لارتباطه بحياة الإنسان واستقراره واستمرار وجوده، وهو الأمر الذي دفع الأفراد والجماعات والدول عبر مراحل تطور الاجتماع البشري العمل على ضمان تحقيقه من خلال مجموعة من الإجراءات للحماية من الأخطار سواء منها تشكيل القوات المسلحة والجيوش والدخول في أحلاف عسكرية إلى إمكانية القيام بإجراءات إيجابية لتحقيق أمنها؛
إلا أن العقود الماضية ظهرت مفاهيم أمنية جديدة مخالفة تماما للمفاهيم التقليدية للأمن عكست تحولات البيئة الأمنية، مما أفرز جدلا حول طبيعة ومكونات مفهوم الأمن وضرورة إضافة متغيرات جديدة له ليشمل القضايا الاقتصادية والبيئية والمجتمعية، فبينما كان يركز المفهوم التقليدي للأمن على حماية أمن الدولة القومية - كونها الفاعل الرئيسي والوحيد في العلاقات الدولية – من الأخطار الداخلية والخارجية باستخدام القوة العسكرية، ظهرت تهديدات جديدة كالفقر والجهل والكوارث الطبيعية والجريمة المنظمة عبر الوطنية ...الخ، وكل هذه الأخطار لا يمكن معالجتها إلا في إطار أشمل لمفهوم الأمن يركز على أمن الفرد كونه الأساس في تحقيق أمن الدولة والنظام الدولي بشكل عام.[[1]]
وأمام مختلف هذه التحولات لم يعد معه مبدأ الستاتيكو قادرا على الصمود أمام هذا الزحف الهائل من عدم الاستقرار، إذ لم تعد الدول آمنة في حدودها ولا في اقتصادها ولا في نموها ولا في هويتها الدينية والقافية ولا في بيئتها ولا في إيديولوجيتها المؤسسة لعقيدة دولها، وهو الأمر الذي انعكس على مستوى القلق والتوتر الداخلي الذي أضحت تعيشه كل الدول بلا استثناء؛
لقد أضحى مفهوم الأمن والاستقرار من المفاهيم المفارقة للدول، حيث أصبح يأخذ بعدا دولاتيا ما فوق الحدود الوطنية للدول، إذ لم تعد قادرة على تحمل أمنها بدون تحقيق أمن جوارها أو محيطها الإقليمي؛
أولا: تطور مفهوم الأمن من بعده التقليدي إلى بعده الشامل
تعتبر علاقة الأمن بالدولة القومية علاقة قديمة قدم وجود الدولة القومية بحد ذاتها، أي منذ تاريخ إبرام اتفاقية وستفاليا سنة 1648م، حيث اعتمدت آنذاك الدولة كوحدة أساسية في العلاقات الدولية والفاعل الرئيسي في النظام الدولي، ولهذا السبب اقتصر تحليل الظواهر الأمنية آنذاك في إطار الدولة القومية ممّا أدى ذلك إلى ظهور ما يسمى بالأمن القومي.
لقد ارتبط مفهوم الأمن القومي ومنذ البداية بالقدرات والإمكانات العسكرية التي تحقق الردع، ومن ثمّ الأمن، وأوّل من وضع تعريفا للأمن القومي هو "والتر ليبمان" حيث يقول:" إن الأمة تبقى في وضع آمن إلى الحدّ الذي لا تكون فيه عرضة لخطر التضحية بالقيم الأساسية إذا كانت ترغب في تفادي وقوع الحرب، وتبقى قادرة لو تعرضت للتحدي على صون هذه القيم عن طريق انتصارها في حرب كهذه".[[2]]
لقد انطلق رواد المدرسة الواقعية في تفسيرهم للظاهرة الأمنية من فكرة أن الدولة هي الوحيدة التي تمتلك وسائل الاحتكار الشرعي للقوة والعنف داخل حدودها وبصلاحيات قانونية عليا، الأمر الذي يضمن أمن الأفراد في إطار العلاقة المتبادلة الموجودة بين المؤسسات السلطوية للدولة المحتكرة لوسائل الإكراه المادي المشروع والمواطنين الذين يسعون إلى تحقيق الأمن والاستقرار في إطار هذه الدولة.[[3]]
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكيل هيئة الأمم المتحدة بقسميها مجلس الأمن والجمعية العامة، وسعيها لإقرار السلم والعدل والاستقرار العالمي، بدأت في الظهور مفاهيم جديدة للأمن بسبب تنوع التهديدات التي تواجه كيانات الدول منها: التهديدات الاقتصادية والاجتماعية، الصراع بين الدول من خلال الحروب والنزاعات الإقليمية، الصراع الداخلي، الأسلحة النووية والإشعاعية والكيميائية، والبيولوجية، الإرهاب، الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وفي نفس الوقت لم يكن بناء القوات العسكرية الكبيرة للدول كافيا لمواجهتها أو الحدّ من تداعياتها، بل كان البناء الداخلي للدول هو العامل الحاسم لتحقيق هذه الأهداف.
فكل هذه المظاهر الجديدة للتهديدات الأمنية والتي زاد من إدراكها وانتشارها انتهاء الحرب الباردة وتأثير العولمة، قد ساهمت إلى حدّ بعيد في تحويل وتطوير مفهوم الأمن من كونه تقليديا يركز على الأمن العسكري فقط إلى مفهومه الجديد (غير التقليدي) والشامل.[[4]]
إن البلورة الفكرية الدقيقة لمفهوم الأمن الشامل تحددت في سنة 1994بموجب تقرير التنمية
البشرية لذات السنة، الذي حدّد ستة (06) تحديات جديدة شاملة لها صلة وطيدة بالأمن وهي: النمو الديموغرافي، التفاوت الاقتصادي، النزوح الجماعي، التدهور البيئي، تجارة المخدرات، والإرهاب الدولي. بالإضافة إلى إسهامات "لجنة رامفال" سنة 1995 بتعمقها في موضوع "الحكم الرشيد الشامل" وعلاقة الديمقراطية بالأمن على المستوى الدولي، وفي ذلك محاولة لربط الأمن الشامل بتراجع سيادة الدول، ونفوذها أمام التهديدات غير العسكرية للأمن.
إنّ السمة الشاملة لمفهوم الأمن تقتضي أن يحتوي في مضمونه على مجموعة من المفاهيم ذات الصلة بمختلف جوانب حياة الإنسان والمجتمع والمقصود بذلك:
-الأمن المجتمعي الذي يتعلق بحماية الهوية والمعتقدات.
-الأمن الاجتماعي ومعناه قدرة المجتمعات على إعادة إنتاج أنماط الخصوصية في اللغة والثقافة والتقاليد في إطار شروط مقبولة لتطورها.
-الأمن العسكري والذي يتضمن قدرة الدولة بمؤسساتها العسكرية على صد أي هجوم مسلح وذلك بتعزيز قدراتها الدفاعية.
-الأمن السياسي ومعناه تحقيق الاستقرار الإيديولوجي والمؤسساتي والهيكلي للدولة .
-الأمن الاقتصادي من خلال الحفاظ على الموارد المالية والأسواق الضرورية وتحقيق مستويات مقبولة من الرفاه.
-الأمن البيئي وهو كل ما يتعلق بالمحافظة على المحيط كأساس تتوقف عليه كل الأنشطة الإنسانية.
هذا فضلا عن الأمن الصحي الذي يعني التحرر النسبي من المرض والعدوى والحماية من المرض والعجز والموت الذي يمكن تلافيه، حيث يمكن الحفاظ على هذا الأمن في إحدى جزئياته من
خلال زيادة حجم الإنفاق في هذا المجال، حيث نسبة ميزانية وزارة الصحة في البلدان المتقدمة إلى % 10 من الميزانية العامة، ولا تتعدى نسبة % 01في معظم الدول العربية.[[5]]
ثانيا: النظرية المعاصرة للأمن
يعد كتاب "جوهر الأمن " The ESsence of Security الذي صدر عام 1968م لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت مكنمارا من أهم الدراسات التي أبرزت المفهوم الاجتماعي للأمن، وركزت على قضية التنمية باعتبارها جوهر الأمن، فقد أوضح مكنمارا في هذا السياق أن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها، كما أن الأمن ليس هو النشاط العسكري وإن قد يشمله، إن الأمن هو التنمية ومن دون التنمية لا يمكن أن يوجد الأمن والدول التي لا تنمو في الواقع لا يمكنها ببساطة أن تظل آمنة، وتجدر الإشارة إلى أن طرح مكنمارا الذي صدر قبل خمسة عقود قد التقى في بعض جوانبه مع طرح أحد أبرز منظري المدرسة الصينية الحديثة "زينغ بيجان" في بداية الألفية الثالثة.
يحاول مكنمارا هنا أن يقيم علاقة تطابق بين الأمن والتنمية، ويعتبر أن الفقر والتخلف هما جذور العصيان والغليان وعدم الاستقرار في جنوب العالم، حيث من الواضح أن الفقر والتخلف يقود إلى التوتر والعنف والتطرف، فلا مجال لتحقيق الأمن إلا
بتحقيق التنمية وعليه فالمجتمعات تفقد أمنها كلما عجزت عن تحقيق التنمية التي تمثل مفتاح الأمن القومي، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة في توزيع الثروة تشكل دعامة أساسية للأمن.
ويعتبر كتاب باري بوزان الشهير المنشور عام 1991م(الناس والدول والخوف) الذي دعى فيه إلى مقاربة قطاع الأمن وتوسيع نطاق التحليل ليشمل القطاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
يمكن القول أنه كان لمجمل التطورات والأحداث التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة ثم ما تبعها من تطورات وتغيرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001م إلى استخلاص بعض العبر والدروس المتعلقة بموضوع الأمن القومي/ الوطني والدولي، ويمكن إجمالها بما يلي:
1-تأكيد أهمية الأمن بجوانبه المختلفة وأولوياته في جدول أعمال الإنسان والمجتمع والدولة على حد سواء.
2-لا وجود للأمن المطلق والشامل بالنسبة لجميع الدول والشعوب ومن ضمنها الدول الكبرى والعظمى على الرغم مما تملكه من مقومات وقدرات وهيمنة على النظام الدولي.
-3تنوع واختلاف مصادر التهديد والمشكلات الأمنية وازدياد عددها لتشمل مجموعات صغيرة وعصابات وأفراد، أصبح بمقدورهم اختراق الأمن والعبث به وتهديده بالنسبة لجميع الدول.
-4اتساع نطاق التهديدات الأمنية وازدياد حدة تطورها وذلك بسبب إمكانية ويسر الحصول على أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية من قبل الراغبين فيها إذا كانوا قادرين على دفع ثمنها.
5-انعكاس سياسات العولمة وتأثيراتها المختلفة على أبعاد الأمن وأهدافه واحتياجاته وتهديداته التي تعولمت بدورها بالنسبة للدول ذات المصالح والأهداف والسياسات المعولمة وهو ما انعكس بشكل أو آخر على جميع الدول.
-6إمكانية أن تشمل الردود الوقائية والانتقامية جميع مصادر التهديد وليس المسؤولين الفعليين عنها فقط، كذلك المتهمين بإيوائهم أو مساعدتهم
-7قدرة الدول الكبرى، وكذلك الدول التي تتمتع بدعمها وحمايتها على استخدام قدرتها المادية والمعنوية لتحقيق أهدافها الأمنية، والرد على التهديدات التي تواجهها، وتنفيذ السياسات اللازمة لذلك متذرعة بحجج مختلفة، مثل حماية الأمن القومي، وحماية الأمن والسلام الدوليين، أو باستخدام مفاهيم فضفاضه مثل مفهوم الشرعية الدولية ومحاربة الإرهاب.[[6]]
ذهب أنصار مدرسة باريس في تطوير مفهوم جديد لمفهوم الأمن إلى ضرورة التخلي عن التمييز التقليدي بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي حيث يوجد أصل هذا التمييز في فكرة الدولة ذات السيادة وطريقة التنظيم البيروقراطي المرتبط بها، فطبيعة التهديدات الأمنية الجديدة جعلت مفهوم الدولة في نظرهم غير قادر على التكيف مع الأجواء المتوترة بين مهنيي السياسة
والقضاة والشرطة والعسكر، وبناء عليه ترى مدرسة باريس أن الدمج بين الأمنين الداخلي والخارجي شرط ضروري لكي يمارس الحقل الأمني تأثيراته، يؤدي دمج كل من الاثنين إلى توسيع أنشطة الأمن الداخلي بتصدير أساليب الشرطة إلى السياسة العالمية، وبالمقابل سيتم إقصاء الطابع المحلي للأمن الخارجي بإقصاء الطابع الروتيني للعمليات العسكرية في الساحة الوطنية.
ويرى أنصار مدرسة باريس أن الحقل الأمني لا يؤسس على ممارسة القوة أو الإكراه فقط ولكن يؤسس على قدرة الفواعل على إنتاج البيانات والمعلومات التي تبنى عليها الحقائق والاستراتيجيات الأمنية.
ورافق تلك التطورات التي أصابت مفهوم الأمن آراء أخرى ترى أن تركيز الأمن في الدولة ذات السيادة أصبح غير منسجما مع البيئة الدولية الصاعدة، حيث إن التهديد لم يعد موجها إلى بقاء الدول واستقلالها كما كان في السابق وإنما أصبح موجها إلى الجماعات الاجتماعية مثل الأقليات والمهاجرين واللاجئين وغيرهم من الفواعل تحت الوطنية.
إن تزايد الضغوط المجتمعية بسبب التدفق المستمر للمهاجرين إلى أوروبا وانتشار الإرهاب داخل الدول أدى إلى صعود خطاب أمني يركز بشكل أساسي على المجتمع بدلاً من الدول، ففي حالات كثيرة تشكل مسألة شراء السلاح وتجميع القوة أو خطر الحرب المحتملة تهديداً لأمن المواطنين أكثر من العدو الخارجي المفترض.[[7]]
ثالثا: المغرب ومرتكزات الأمن القومي
بالعودة للكتابات التاريخية تبين أن المغرب لم يكن هاجسه هو تأمين أمنه القومي الداخلي فقط، بل كان الأمن القومي للدول العربية جزء من أمنه الداخلي كخيار استراتيجي لأن العلاقة بينهما تفرضها معطيات التاريخ والدين والمصير المشترك؛
وقد شكل العمق الاستراتيجي للمغرب إحدى خيارات وجوده التاريخي، إذ لم يقتصر فقط على حدوده التاريخية فقط، بل كانت تتجاوزه إلى مناطق كانت تعد ضمن نفوذ المغرب التاريخية، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال المحدد الديني المتمثل في رابطة الزوايا والذي يساهم في تدعيم علاقة المغرب بكثير من الدول الإفريقية، ففي عهد الملك محمد السادس أعاد صياغة علاقة الرباط بالتيجانيين الذين ينتشرون في مختلف البلدان الإفريقية، على امتداد منطقة الساحل والصحراء، ودفع في اتجاه بناء علاقة جديدة تقوم على تمكين أتباع الزاوية التيجانية من أدوار دبلوماسية تساهم في تقوية الروابط بين المغرب والبلدان الإفريقية.[[8]]
وخلال فترة الاستعمار التي عرفتها دول المغرب العربي ورغم حصول المغرب على استقلاله، حرص على دعم الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي؛ وهي نفس الروح القومية التي عبر عنها جلالة الملك محمد السادس فــــي القمــــة ً الخليجيـــة المغربية التـــي جـــرت ســـنة 2016 حـين اعتبـر أن المغرب جـزء لا يتجزأ من الإقليم العربي كافة، مـا يصـيب أي قطر فيه يصـــيب حتمـــا القطـــر المغربي[[9]].
ورغم الخلافات العربية، والصراع العربي الإسرائيلي لم يتوان المغرب عن تقديم الدعم للشعب الفلسطيني ونصرة قضيته العادلة في مختلف المحافل الدولية؛
إن بحكم موقع المغرب الجيوستراتيجي يقتضي منه الأمر البحث عن معادلات جديدة لحفظ أمنه القومي في ظل صراع المصالح بين القوى العالمية وما ترتب عن الأزمة الوبائية العالمية المتمثلة في جائحة كورونا، وهو ما يقتضي معه مواجهة التحديات الخارجية، والتي عبر عنها جلالة الملك محمد السادس خلال افتتاحه أشغال البرلمان في السنة الأولى من الولاية التشريعية لسنة 2021، وقد جاء في خطابه إلى أنه: " في الوقت الذي يدشن فيه المغرب مرحلة جديدة ، تقتضي تضافر الجهود، حول الأولويات الاستراتيجية ، لمواصلة مسيرة التنمية ، ومواجهة التحديات الخارجية .
ونود أن نؤكد هنا، على ثلاثة أبعاد رئيسية.
وفي مقدمتها، تعزيز مكانة المغرب، والدفاع عن مصالحه العليا، لاسيما في ظرفية مشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات.
وقد أبانت الأزمة الوبائية عن عودة قضايا السيادة للواجهة، والتسابق من أجل تحصينها، في مختلف أبعادها، الصحية والطاقية، والصناعية والغذائية وغيرها، مع ما يواكب ذلك من تعصب من طرف البعض.
وإذا كان المغرب قد تمكن من تدبير حاجياته، وتزويد الأسواق بالمواد الأساسية، بكميات كافية، وبطريقة عادية، فإن العديد من الدول سجلت اختلالات كبيرة، في توفير هذه المواد وتوزيعها.
لذا، نشدد على ضرورة إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لاسيما الغذائية والصحية والطاقية، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد."
وانطلاقا من رهان المغرب في الحفاظ على أمنه القومي في بعده الشمولي نص الدستور في الفقرة الأولى من الفصل 54 على أنه:" يحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة". وهي مؤسسة بلا شك سيكون لها دور مهم في تعزيز أمن المغرب داخليا وخارجيا في إطار مقاربة جديدة تهم كافة المتدخلين والفاعلين المعنيين بالهندسة الأمنية في إطار نظام علائقي يقوم على الاعتماد المتبادل مع مختلف الأطراف التي تساهم في صناعته، والتي تتداخل فيه مجموعة من الدوائر منها: الدائرة الصغرى وهى الدائرة الإنسانية والاجتماعية والتي تنطلق أساساً من حماية الإنسان بصفته إنساناً بغض النظر عن جنسه ودينه ولونه، ويرتكز بالأساس على صون كرامة الإنسان بتلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، وكذا على منظومة العادات والتقاليد التي يؤمن بها المجتمع، وعوامل الاستقرار القائمة على التفاهم وروح المواطنة والشعور بالانتماء والرغبة في التعبير عن المشاركة الإيجابية. ثم الدائرة المتوسطة وهي التي تربط ما بين الأمن القومي الوطني مع الأمن الدولي وهى دائرة تنطلق من الأمن الداخلي للدولة وتحصين جبهتها الداخلية وإشاعة الأمن والاستقرار وبسط النظام وسيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة وفرص العيش الكريم ، مع العمل على توفير الأمن الخارجي من الأخطار الخارجية. ثم أخيرا نجد الدائرة الكبيرة وهي تتعلق بالأمن الإقليمي والدولي ويتحقق من خلال التعاون مع الدول التي ترتبط بوحدة إقليمية لحماية مصالحها، تحددها الاتفاقيات والمواثيق لمواجهة الأخطار الخارجية والداخلية، وكذا الأمن الدولي الذي تتولاه المنظمات الدولية سواء من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي وما يصدر عنهما من قرارات وما يتم إقراره من اتفاقيات ومواثيق للحفاظ على الأمن والسّلم الدوليين.
إن هذه الكتلة المفاهيمية للأمن ذات الأبعاد المتعددة، لا تستطيع الدولة أن تضمن وجودها واستمراريتها دون أن تضمن تحقيق التوزان بين هذه الدوائر المتداخلة.
محمد لكموش
دكتور في العلوم السياسية
إلا أن العقود الماضية ظهرت مفاهيم أمنية جديدة مخالفة تماما للمفاهيم التقليدية للأمن عكست تحولات البيئة الأمنية، مما أفرز جدلا حول طبيعة ومكونات مفهوم الأمن وضرورة إضافة متغيرات جديدة له ليشمل القضايا الاقتصادية والبيئية والمجتمعية، فبينما كان يركز المفهوم التقليدي للأمن على حماية أمن الدولة القومية - كونها الفاعل الرئيسي والوحيد في العلاقات الدولية – من الأخطار الداخلية والخارجية باستخدام القوة العسكرية، ظهرت تهديدات جديدة كالفقر والجهل والكوارث الطبيعية والجريمة المنظمة عبر الوطنية ...الخ، وكل هذه الأخطار لا يمكن معالجتها إلا في إطار أشمل لمفهوم الأمن يركز على أمن الفرد كونه الأساس في تحقيق أمن الدولة والنظام الدولي بشكل عام.[[1]]
وأمام مختلف هذه التحولات لم يعد معه مبدأ الستاتيكو قادرا على الصمود أمام هذا الزحف الهائل من عدم الاستقرار، إذ لم تعد الدول آمنة في حدودها ولا في اقتصادها ولا في نموها ولا في هويتها الدينية والقافية ولا في بيئتها ولا في إيديولوجيتها المؤسسة لعقيدة دولها، وهو الأمر الذي انعكس على مستوى القلق والتوتر الداخلي الذي أضحت تعيشه كل الدول بلا استثناء؛
لقد أضحى مفهوم الأمن والاستقرار من المفاهيم المفارقة للدول، حيث أصبح يأخذ بعدا دولاتيا ما فوق الحدود الوطنية للدول، إذ لم تعد قادرة على تحمل أمنها بدون تحقيق أمن جوارها أو محيطها الإقليمي؛
أولا: تطور مفهوم الأمن من بعده التقليدي إلى بعده الشامل
تعتبر علاقة الأمن بالدولة القومية علاقة قديمة قدم وجود الدولة القومية بحد ذاتها، أي منذ تاريخ إبرام اتفاقية وستفاليا سنة 1648م، حيث اعتمدت آنذاك الدولة كوحدة أساسية في العلاقات الدولية والفاعل الرئيسي في النظام الدولي، ولهذا السبب اقتصر تحليل الظواهر الأمنية آنذاك في إطار الدولة القومية ممّا أدى ذلك إلى ظهور ما يسمى بالأمن القومي.
لقد ارتبط مفهوم الأمن القومي ومنذ البداية بالقدرات والإمكانات العسكرية التي تحقق الردع، ومن ثمّ الأمن، وأوّل من وضع تعريفا للأمن القومي هو "والتر ليبمان" حيث يقول:" إن الأمة تبقى في وضع آمن إلى الحدّ الذي لا تكون فيه عرضة لخطر التضحية بالقيم الأساسية إذا كانت ترغب في تفادي وقوع الحرب، وتبقى قادرة لو تعرضت للتحدي على صون هذه القيم عن طريق انتصارها في حرب كهذه".[[2]]
لقد انطلق رواد المدرسة الواقعية في تفسيرهم للظاهرة الأمنية من فكرة أن الدولة هي الوحيدة التي تمتلك وسائل الاحتكار الشرعي للقوة والعنف داخل حدودها وبصلاحيات قانونية عليا، الأمر الذي يضمن أمن الأفراد في إطار العلاقة المتبادلة الموجودة بين المؤسسات السلطوية للدولة المحتكرة لوسائل الإكراه المادي المشروع والمواطنين الذين يسعون إلى تحقيق الأمن والاستقرار في إطار هذه الدولة.[[3]]
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكيل هيئة الأمم المتحدة بقسميها مجلس الأمن والجمعية العامة، وسعيها لإقرار السلم والعدل والاستقرار العالمي، بدأت في الظهور مفاهيم جديدة للأمن بسبب تنوع التهديدات التي تواجه كيانات الدول منها: التهديدات الاقتصادية والاجتماعية، الصراع بين الدول من خلال الحروب والنزاعات الإقليمية، الصراع الداخلي، الأسلحة النووية والإشعاعية والكيميائية، والبيولوجية، الإرهاب، الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وفي نفس الوقت لم يكن بناء القوات العسكرية الكبيرة للدول كافيا لمواجهتها أو الحدّ من تداعياتها، بل كان البناء الداخلي للدول هو العامل الحاسم لتحقيق هذه الأهداف.
فكل هذه المظاهر الجديدة للتهديدات الأمنية والتي زاد من إدراكها وانتشارها انتهاء الحرب الباردة وتأثير العولمة، قد ساهمت إلى حدّ بعيد في تحويل وتطوير مفهوم الأمن من كونه تقليديا يركز على الأمن العسكري فقط إلى مفهومه الجديد (غير التقليدي) والشامل.[[4]]
إن البلورة الفكرية الدقيقة لمفهوم الأمن الشامل تحددت في سنة 1994بموجب تقرير التنمية
البشرية لذات السنة، الذي حدّد ستة (06) تحديات جديدة شاملة لها صلة وطيدة بالأمن وهي: النمو الديموغرافي، التفاوت الاقتصادي، النزوح الجماعي، التدهور البيئي، تجارة المخدرات، والإرهاب الدولي. بالإضافة إلى إسهامات "لجنة رامفال" سنة 1995 بتعمقها في موضوع "الحكم الرشيد الشامل" وعلاقة الديمقراطية بالأمن على المستوى الدولي، وفي ذلك محاولة لربط الأمن الشامل بتراجع سيادة الدول، ونفوذها أمام التهديدات غير العسكرية للأمن.
إنّ السمة الشاملة لمفهوم الأمن تقتضي أن يحتوي في مضمونه على مجموعة من المفاهيم ذات الصلة بمختلف جوانب حياة الإنسان والمجتمع والمقصود بذلك:
-الأمن المجتمعي الذي يتعلق بحماية الهوية والمعتقدات.
-الأمن الاجتماعي ومعناه قدرة المجتمعات على إعادة إنتاج أنماط الخصوصية في اللغة والثقافة والتقاليد في إطار شروط مقبولة لتطورها.
-الأمن العسكري والذي يتضمن قدرة الدولة بمؤسساتها العسكرية على صد أي هجوم مسلح وذلك بتعزيز قدراتها الدفاعية.
-الأمن السياسي ومعناه تحقيق الاستقرار الإيديولوجي والمؤسساتي والهيكلي للدولة .
-الأمن الاقتصادي من خلال الحفاظ على الموارد المالية والأسواق الضرورية وتحقيق مستويات مقبولة من الرفاه.
-الأمن البيئي وهو كل ما يتعلق بالمحافظة على المحيط كأساس تتوقف عليه كل الأنشطة الإنسانية.
هذا فضلا عن الأمن الصحي الذي يعني التحرر النسبي من المرض والعدوى والحماية من المرض والعجز والموت الذي يمكن تلافيه، حيث يمكن الحفاظ على هذا الأمن في إحدى جزئياته من
خلال زيادة حجم الإنفاق في هذا المجال، حيث نسبة ميزانية وزارة الصحة في البلدان المتقدمة إلى % 10 من الميزانية العامة، ولا تتعدى نسبة % 01في معظم الدول العربية.[[5]]
ثانيا: النظرية المعاصرة للأمن
يعد كتاب "جوهر الأمن " The ESsence of Security الذي صدر عام 1968م لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت مكنمارا من أهم الدراسات التي أبرزت المفهوم الاجتماعي للأمن، وركزت على قضية التنمية باعتبارها جوهر الأمن، فقد أوضح مكنمارا في هذا السياق أن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها، كما أن الأمن ليس هو النشاط العسكري وإن قد يشمله، إن الأمن هو التنمية ومن دون التنمية لا يمكن أن يوجد الأمن والدول التي لا تنمو في الواقع لا يمكنها ببساطة أن تظل آمنة، وتجدر الإشارة إلى أن طرح مكنمارا الذي صدر قبل خمسة عقود قد التقى في بعض جوانبه مع طرح أحد أبرز منظري المدرسة الصينية الحديثة "زينغ بيجان" في بداية الألفية الثالثة.
يحاول مكنمارا هنا أن يقيم علاقة تطابق بين الأمن والتنمية، ويعتبر أن الفقر والتخلف هما جذور العصيان والغليان وعدم الاستقرار في جنوب العالم، حيث من الواضح أن الفقر والتخلف يقود إلى التوتر والعنف والتطرف، فلا مجال لتحقيق الأمن إلا
بتحقيق التنمية وعليه فالمجتمعات تفقد أمنها كلما عجزت عن تحقيق التنمية التي تمثل مفتاح الأمن القومي، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة في توزيع الثروة تشكل دعامة أساسية للأمن.
ويعتبر كتاب باري بوزان الشهير المنشور عام 1991م(الناس والدول والخوف) الذي دعى فيه إلى مقاربة قطاع الأمن وتوسيع نطاق التحليل ليشمل القطاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
يمكن القول أنه كان لمجمل التطورات والأحداث التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة ثم ما تبعها من تطورات وتغيرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001م إلى استخلاص بعض العبر والدروس المتعلقة بموضوع الأمن القومي/ الوطني والدولي، ويمكن إجمالها بما يلي:
1-تأكيد أهمية الأمن بجوانبه المختلفة وأولوياته في جدول أعمال الإنسان والمجتمع والدولة على حد سواء.
2-لا وجود للأمن المطلق والشامل بالنسبة لجميع الدول والشعوب ومن ضمنها الدول الكبرى والعظمى على الرغم مما تملكه من مقومات وقدرات وهيمنة على النظام الدولي.
-3تنوع واختلاف مصادر التهديد والمشكلات الأمنية وازدياد عددها لتشمل مجموعات صغيرة وعصابات وأفراد، أصبح بمقدورهم اختراق الأمن والعبث به وتهديده بالنسبة لجميع الدول.
-4اتساع نطاق التهديدات الأمنية وازدياد حدة تطورها وذلك بسبب إمكانية ويسر الحصول على أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية من قبل الراغبين فيها إذا كانوا قادرين على دفع ثمنها.
5-انعكاس سياسات العولمة وتأثيراتها المختلفة على أبعاد الأمن وأهدافه واحتياجاته وتهديداته التي تعولمت بدورها بالنسبة للدول ذات المصالح والأهداف والسياسات المعولمة وهو ما انعكس بشكل أو آخر على جميع الدول.
-6إمكانية أن تشمل الردود الوقائية والانتقامية جميع مصادر التهديد وليس المسؤولين الفعليين عنها فقط، كذلك المتهمين بإيوائهم أو مساعدتهم
-7قدرة الدول الكبرى، وكذلك الدول التي تتمتع بدعمها وحمايتها على استخدام قدرتها المادية والمعنوية لتحقيق أهدافها الأمنية، والرد على التهديدات التي تواجهها، وتنفيذ السياسات اللازمة لذلك متذرعة بحجج مختلفة، مثل حماية الأمن القومي، وحماية الأمن والسلام الدوليين، أو باستخدام مفاهيم فضفاضه مثل مفهوم الشرعية الدولية ومحاربة الإرهاب.[[6]]
ذهب أنصار مدرسة باريس في تطوير مفهوم جديد لمفهوم الأمن إلى ضرورة التخلي عن التمييز التقليدي بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي حيث يوجد أصل هذا التمييز في فكرة الدولة ذات السيادة وطريقة التنظيم البيروقراطي المرتبط بها، فطبيعة التهديدات الأمنية الجديدة جعلت مفهوم الدولة في نظرهم غير قادر على التكيف مع الأجواء المتوترة بين مهنيي السياسة
والقضاة والشرطة والعسكر، وبناء عليه ترى مدرسة باريس أن الدمج بين الأمنين الداخلي والخارجي شرط ضروري لكي يمارس الحقل الأمني تأثيراته، يؤدي دمج كل من الاثنين إلى توسيع أنشطة الأمن الداخلي بتصدير أساليب الشرطة إلى السياسة العالمية، وبالمقابل سيتم إقصاء الطابع المحلي للأمن الخارجي بإقصاء الطابع الروتيني للعمليات العسكرية في الساحة الوطنية.
ويرى أنصار مدرسة باريس أن الحقل الأمني لا يؤسس على ممارسة القوة أو الإكراه فقط ولكن يؤسس على قدرة الفواعل على إنتاج البيانات والمعلومات التي تبنى عليها الحقائق والاستراتيجيات الأمنية.
ورافق تلك التطورات التي أصابت مفهوم الأمن آراء أخرى ترى أن تركيز الأمن في الدولة ذات السيادة أصبح غير منسجما مع البيئة الدولية الصاعدة، حيث إن التهديد لم يعد موجها إلى بقاء الدول واستقلالها كما كان في السابق وإنما أصبح موجها إلى الجماعات الاجتماعية مثل الأقليات والمهاجرين واللاجئين وغيرهم من الفواعل تحت الوطنية.
إن تزايد الضغوط المجتمعية بسبب التدفق المستمر للمهاجرين إلى أوروبا وانتشار الإرهاب داخل الدول أدى إلى صعود خطاب أمني يركز بشكل أساسي على المجتمع بدلاً من الدول، ففي حالات كثيرة تشكل مسألة شراء السلاح وتجميع القوة أو خطر الحرب المحتملة تهديداً لأمن المواطنين أكثر من العدو الخارجي المفترض.[[7]]
ثالثا: المغرب ومرتكزات الأمن القومي
بالعودة للكتابات التاريخية تبين أن المغرب لم يكن هاجسه هو تأمين أمنه القومي الداخلي فقط، بل كان الأمن القومي للدول العربية جزء من أمنه الداخلي كخيار استراتيجي لأن العلاقة بينهما تفرضها معطيات التاريخ والدين والمصير المشترك؛
وقد شكل العمق الاستراتيجي للمغرب إحدى خيارات وجوده التاريخي، إذ لم يقتصر فقط على حدوده التاريخية فقط، بل كانت تتجاوزه إلى مناطق كانت تعد ضمن نفوذ المغرب التاريخية، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال المحدد الديني المتمثل في رابطة الزوايا والذي يساهم في تدعيم علاقة المغرب بكثير من الدول الإفريقية، ففي عهد الملك محمد السادس أعاد صياغة علاقة الرباط بالتيجانيين الذين ينتشرون في مختلف البلدان الإفريقية، على امتداد منطقة الساحل والصحراء، ودفع في اتجاه بناء علاقة جديدة تقوم على تمكين أتباع الزاوية التيجانية من أدوار دبلوماسية تساهم في تقوية الروابط بين المغرب والبلدان الإفريقية.[[8]]
وخلال فترة الاستعمار التي عرفتها دول المغرب العربي ورغم حصول المغرب على استقلاله، حرص على دعم الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي؛ وهي نفس الروح القومية التي عبر عنها جلالة الملك محمد السادس فــــي القمــــة ً الخليجيـــة المغربية التـــي جـــرت ســـنة 2016 حـين اعتبـر أن المغرب جـزء لا يتجزأ من الإقليم العربي كافة، مـا يصـيب أي قطر فيه يصـــيب حتمـــا القطـــر المغربي[[9]].
ورغم الخلافات العربية، والصراع العربي الإسرائيلي لم يتوان المغرب عن تقديم الدعم للشعب الفلسطيني ونصرة قضيته العادلة في مختلف المحافل الدولية؛
إن بحكم موقع المغرب الجيوستراتيجي يقتضي منه الأمر البحث عن معادلات جديدة لحفظ أمنه القومي في ظل صراع المصالح بين القوى العالمية وما ترتب عن الأزمة الوبائية العالمية المتمثلة في جائحة كورونا، وهو ما يقتضي معه مواجهة التحديات الخارجية، والتي عبر عنها جلالة الملك محمد السادس خلال افتتاحه أشغال البرلمان في السنة الأولى من الولاية التشريعية لسنة 2021، وقد جاء في خطابه إلى أنه: " في الوقت الذي يدشن فيه المغرب مرحلة جديدة ، تقتضي تضافر الجهود، حول الأولويات الاستراتيجية ، لمواصلة مسيرة التنمية ، ومواجهة التحديات الخارجية .
ونود أن نؤكد هنا، على ثلاثة أبعاد رئيسية.
وفي مقدمتها، تعزيز مكانة المغرب، والدفاع عن مصالحه العليا، لاسيما في ظرفية مشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات.
وقد أبانت الأزمة الوبائية عن عودة قضايا السيادة للواجهة، والتسابق من أجل تحصينها، في مختلف أبعادها، الصحية والطاقية، والصناعية والغذائية وغيرها، مع ما يواكب ذلك من تعصب من طرف البعض.
وإذا كان المغرب قد تمكن من تدبير حاجياته، وتزويد الأسواق بالمواد الأساسية، بكميات كافية، وبطريقة عادية، فإن العديد من الدول سجلت اختلالات كبيرة، في توفير هذه المواد وتوزيعها.
لذا، نشدد على ضرورة إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لاسيما الغذائية والصحية والطاقية، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد."
وانطلاقا من رهان المغرب في الحفاظ على أمنه القومي في بعده الشمولي نص الدستور في الفقرة الأولى من الفصل 54 على أنه:" يحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة". وهي مؤسسة بلا شك سيكون لها دور مهم في تعزيز أمن المغرب داخليا وخارجيا في إطار مقاربة جديدة تهم كافة المتدخلين والفاعلين المعنيين بالهندسة الأمنية في إطار نظام علائقي يقوم على الاعتماد المتبادل مع مختلف الأطراف التي تساهم في صناعته، والتي تتداخل فيه مجموعة من الدوائر منها: الدائرة الصغرى وهى الدائرة الإنسانية والاجتماعية والتي تنطلق أساساً من حماية الإنسان بصفته إنساناً بغض النظر عن جنسه ودينه ولونه، ويرتكز بالأساس على صون كرامة الإنسان بتلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، وكذا على منظومة العادات والتقاليد التي يؤمن بها المجتمع، وعوامل الاستقرار القائمة على التفاهم وروح المواطنة والشعور بالانتماء والرغبة في التعبير عن المشاركة الإيجابية. ثم الدائرة المتوسطة وهي التي تربط ما بين الأمن القومي الوطني مع الأمن الدولي وهى دائرة تنطلق من الأمن الداخلي للدولة وتحصين جبهتها الداخلية وإشاعة الأمن والاستقرار وبسط النظام وسيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة وفرص العيش الكريم ، مع العمل على توفير الأمن الخارجي من الأخطار الخارجية. ثم أخيرا نجد الدائرة الكبيرة وهي تتعلق بالأمن الإقليمي والدولي ويتحقق من خلال التعاون مع الدول التي ترتبط بوحدة إقليمية لحماية مصالحها، تحددها الاتفاقيات والمواثيق لمواجهة الأخطار الخارجية والداخلية، وكذا الأمن الدولي الذي تتولاه المنظمات الدولية سواء من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي وما يصدر عنهما من قرارات وما يتم إقراره من اتفاقيات ومواثيق للحفاظ على الأمن والسّلم الدوليين.
إن هذه الكتلة المفاهيمية للأمن ذات الأبعاد المتعددة، لا تستطيع الدولة أن تضمن وجودها واستمراريتها دون أن تضمن تحقيق التوزان بين هذه الدوائر المتداخلة.
محمد لكموش
دكتور في العلوم السياسية
[[1]] - أ/ جــرايـة الصـادق: تحولات مفهوم الأمن فـي ظل التهديدات الدولية الجديدة، مجلة العلوم القانونية والسياسية ، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ جامعة الشهيد حمة لخضر ـ الوادي ، عدد 8 ــ جانفي 2014، ص.17.
[[2]]- جــرايـة الصـادق: تحولات مفهوم الأمن فـي ظل التهديدات الدولية الجديدة، نفس المرجع السابق، ص. 20.
[[3]] - جــرايـة الصـادق، نفس المرجع السابق: ص. 22.
[[4]] - جــرايـة الصـادق: تحولات مفهوم الأمن فـي ظل التهديدات الدولية الجديدة، نفس المرجع السابق: ص. 23-25.
[[5]] - جــرايـة الصـادق: تحولات مفهوم الأمن فـي ظل التهديدات الدولية الجديدة، نفس المرجع السابق: ص. 25-26.
[[6]] - عبد الفتاح علي الرشدان، تطور مفهوم الأمن العالمي في عالم متغير، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلّد ، 46 ، العدد: 3، 2019،ص. 120-121 ، المقال منشور على الموقع الالكتروني: https://journals.ju.edu.jo/DirasatHum/article/viewFile/102277/10708
[[7]]- عبد الفتاح علي الرشدان، تطور مفهوم الأمن العالمي في عالم متغير، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، نفس المرجع السابق، ص.123-124.
[[8]] - منعم امشاوي، سؤال الامن القومي بالمغرب: بين المعطى التاريخي والبعد الجيوسياسي، منشورات مؤسسة خالد الحسن مركز الدراسات وألابحاث، المجلد الأول 2014،ص. 9 منشور على الموقع الالكتروني: https://revues.imist.ma/index.php/bahtheyya/article/view/2160/1577
[[9]] - خاليد شخمان، الأمن القومي المغربي بين آفاق الاحتضان العربي وإكراهات الواقع الدولي، منشورات مؤسسة خالد الحسن مركز الدراسات وألابحاث، عدد 12 خريف 2018، ص. 111. منشور على الموقع الالكتروني: https://revues.imist.ma/index.php/bahtheyya/article/view/25391/13494