مقدمة
اذا كان الاستثمار من الدعامات الاساسية للتنمية، فان استقطابه والمحافظة عليه وتحفيزه يتطلب توفير مناخ سليم وشفاف، بتوفير مقوماته الضرورية من تأهيل للعنصر البشري وتوفير للوعاء العقاري، وتبسيط للمساطر الادارية، ووضع اطار قانوني محفز وملائم مادام ان الرأسمال هو بطبيعته متحرك يبحث عن الامن والاستقرار لتحقيق الربح وانشاء الثروة ،وان المستثمر اثناء دراسته القبلية لمشروعه يفترض اسوا الاحتمالات التي يمكنها ان تواجهه اثناء تنفيذه، مما يتطلب طمأنته ومنحه ضمانات في الجانب المتعلق بسيادة القانون في حالة اي نزاع محتمل ووارد،سواء مع عماله او مورديه او كافة المتعاملين معه،او مع الادارات التي يرتبط بها استثماره "كإدارة الجمارك او الضرائب او الادارات المانحة للرخص الادارية مثلا".
ومبدا سيادة القانون لا يمكن ان يتحقق الا بوجود قضاء نزيه، محايد، متخصص وفعال،وخلافا للتعريفات التقنية التي تحصر وصف الاستثمار في المشاريع ذات الرساميل المرتفعة، والمولدة لعدد معين من مناصب الشغل، فإنني اعتبربان حماية القضاء للاستثمار تنسحب على كل اصنافه انطلاقا من اصغر كشك الى اكبر شركة (هولدينغ)،كما انها تنسحب على المستثمر المواطن او الاجنبي على حد سواء، اذ بحماية الاول بالقانون، تتحقق حماية وجذب الثاني.
وهذه التوطنة تقودنا الى موضوع العرض المنصب على دور الغرفة الادارية بمحكمة النقض في حماية الاستثمار".
فمحكمة النقضباعتبارها قمة الهرم القضائي المغربي،والساهرة على حسن تطبيق القانون وتوحيد الاجتهاد القضائي لكافة محاكم المملكة، انخرطت مند سنوات في عملية تحديث شاملة،انصبت على تجويد الخدمات والاداء واعتماد التقنيات الحديثة والانفتاح على طاقات قضائية جديدة بهدف التلاقح مع الكفاءات المخضرمة، كما اعتمدت محكمة النقض خيار التكوين المستمر، والانفتاح على التجارب المقارنة بالمشاركة الفعالة في كافة الملتقيات القانونية الاقليمية والدولية مما حقق لها، وبواسطتها للملكة المغربية، اشعاعا دوليا مشهودا به.
اما الغرفة الادارية باعتبارها احدى مكونات محكمة النقض،فان دورها في حماية الاستثمار ينبثق من الاختصاصات الموكولة لها قانونا، والتي تشمل البت في كافة المنازعات الادارية كمحكمة نقض، او كمحكمة موضوع بالنسبة لإلغاء صنف من القرارات الادارية المنصوص عليها في المادة 9من القانون رقم 90-41 المحدث للمحاكم الادارية ، وهكذا سنعرض بعض المبادئ التي كرستها – وهي غيض من فيض – لتوضيح وبيان هذه الحماية القضائية، والتي هي قبل كل شئ تطبيق للقانون.
وبداية نعرض نموذجا يتمثل في مجموعة ملفات متشابهة وتتلخص وقائعها في قيام جماعة حضرية بإقامة حائط عازل امام مجموعة من المحلات التجارية ذات الانشطة الاقتصادية المختلفة، وبعد لجوء اصحاب هذه المحلات التجارية الى القضاء، قضت المحكمة الادارية بتعويضهم بعد اجراء الخبرة، بتعويضات متفاوتة حسب حجم الضرر اللاحق بكل محل ،الا ان محكمة الاستئناف الادارية الغت تلك الاحكام، وقضت برفض طلباتهم بعلة ان الحق في التعويض لا يثبت الا اذا كان الجدار العازل قد اغلق جميع المنافذ المؤدية الى تلك المحلات،وانه يمكن الولوج اليها بعد قطع مسافة معينة ، الا ان الغرفة الادارية كان لها موقف مغاير وهو ان مسؤولية الادارة في النوازل المعروضة تقوم بدون خطا،مادام ان الضرر اللاحق بالتجار المدعين غير عادي وخاص،ويتجاوز الحد الذي يمكن تحمله في سبيل المصلحة العامة، وان محكمة الاستئناف الادارية ،باعتبارها كون اقامة الجدار العازل على النحو المبين لا ترتب ضررا بالمفهوم القانوني الموجب للتعويض،ومن دون ان تحقق في ذلك الضرر،او تبرز عناصره ،فإنها لم تجعل لقرارها اساسا من القانون، وقضت بنقض القرارات الصادرة في الموضوع و" من بينها على سبيل المثال القرار عدد 39 بتاريخ 24/04/2014 في الملف الاداري رقم 275/4/3/2012 منشور بمجلة قضاء محكمة النقض – العدد 77- ص 250".
كما انه في ميدان المنازعات الجمركية :اكدت الغرفة الادارية كون ادارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، وان كانت تحتفظ بحقها في التأكد من صحة وصدق اي بيان او وثيقة او اقرار يقدم لأغراض تحديد القيمة في الجمرك،فانه لا يوجد ما يمنع المحكمة في حالة المنازعة في الرسوم الجمركية، من الامر باي اجراء من اجراءات التحقيق، ومنها الخبرة الفنية لتحديد القيمة الحقيقية في الجمرك عند الاستيراد "القرار عدد 128 الصادر بتاريخ 07/02/2013 في الملف رقم 81/4/1/2011 –– قرار غير منشور". كما قررت ايضا كون تصنيف البضائع وتطبيق التعريفة الجمركية المحددة قانونا على كل صنف معين من البضائع هو مسالة قانون، الا ان تحديد نوعية البضاعة وطبيعتها لتطبيق التصنيف المحدد قانونا ، ومن ثمة التعريفة الجمركية المطابقة للتصنيف المذكور يعتبر مسالة واقع يمكن للمحكمة الاستعانة في شانها بذوي الاختصاص من الخبراء دون ان يشكل ذلك حسما من الخبراء في مسالة قانون "القرار عدد 593 الصادر بتاريخ 06/12/2012 في الملف رقم 89/4/2/2012 –-قرار غير منشور-.وفي قرار اخر خلصت الغرفة الادارية الى ان البضاعة موضوع الرسوم الجمركية القائم بشأنها النزاع كانت موضوع تصريح مفصل من طرف الطالب، وان الخلاف حول تلك الرسوم كان هو السبب في عدم استيفاء الاجراءات الجمركية، وحيازة البضاعة ممن له الحق فيها، بمعنى انها لا تعتبر بضاعة متخلى عنها بمفهوم المقتضى القانوني المشار اليه في المادة 106 من مدونة الجمارك، وبالتالي فان امكانية بيعها من طرف الادارة تعتبر غير قائمة لانتفاء شروط تطبيقها " القرار عدد 841/1 الصادر بتاريخ 26/06/2014 في الملف رقم 1512/4/1/2011 –" –قرار غير منشور –
اما في ميدان التعمير :وهو مجال خصب للنزاعات الادارية بين الادارة والمستثمرين ،فان الغرفة الادارية اعتبرت كون قرينة مشروعية القرار الاداري تزول بصدور قرار قضائي نهائي بشان عدم مشروعيته ،والتي تولد بالتالي مسؤولية الادارة ،وان المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه بتحققها من عدم مشروعية قرار ايقاف البناء الصادر عن المجلس البلدي بعد اخضاعه لرقابة القضاء الاداري، وترتيبها احقية المتضرر منه في التعويض فإنها تكون قد طبقت صحيح القانون " القرار عدد 108/2 بتاريخ 21/02/2013 في الملف رقم 1181/4/1/2011 " – قرار غير منشور- .
كما اكدت في قرار اخر على انه باستثناء الحالة المنصوص عليها في الفصل 80 من القانون رقم 12/90 المتعلق بالتعمير – اي البناء فوق الاملاك العامة- ،والتي يمكن فيها للسلطة المحلية الهدم التلقائي للبناء على نفقة المخالف، فان كل هدم للبناء المعتبر مخالفا لضوابط التعمير، لا يتم الا بناء على حكم قضائي يجري تنفيذه ... ورتبت على قيام السلطة المحليةبهدم بناء في غير ما ذكر قيام الخطأالمرفقي في حقها، واحقية المتضرر في طلب التعويض عنه"القرار عدد 605 بتاريخ 13/12/2012 الصادر في الملف رقم 1473/4/2/2011 –" – قرار غير منشور-
كما ان الغرفة الادارية، وفي نزاعات متشابهة،الزمت شركة العمران بالتقيدبتدرج الجزاءاتوذلك بضرورة فرض ذعيرة على المستفيد من قطعة ارضية مخصصة للاستثمار، لمدة معينة قبل القيام بفسخ عقد البيع بدلا مما كانت تتمسك به الشركة المذكورة من ان فرض الغرامة قرر لمصلحتها فقط وان العقد يسعفها في فسخ البيع مباشرة "القرار عدد 163/1 الصادر بتاريخ 12/12/2013 في الملف رقم 1656/4/1/2012 –" –قرار غير منشور-.
اما في مجال الصفقات العمومية فبالنسبة لدفاتر الشروط الادارية العامة، اكدت الغرفة الادارية انها وان كانت تحتوي على القواعد العامة والاساسية التي ينبغي احترامها في صفقات الدولة، وكون انه يجب التنصيص في العقد على الاحالة عليها،فان نصوصها تبقى ذات صبغة تعاقدية،اي انه يمكن بمقتضى دفاتر الشروط الخاصة العدول عن بعض احكامها والابقاء على اخرى، وان المصادقة على هذا النوع من الدفاتر تتم بقرار من السلطة المختصة، وبالتالي اعتبرت كون محكمة الموضوع التي احتسبت غرامات التأخير على اساس دفتر الشروط الادارية الخاصة فيهتطبيق سليم لعقد الصفقة "القرار عدد 437/1 الصادر بتاريخ 10/04/2014 في الملف رقم 2155/4/1/2012 –قرار غير منشور- وفي نفس القرار اوردت الغرفة الادارية بان المحكمة لما اعتبرت كون المنازعة لم تكن ناشئة سوى عن تقدير الادارة الخاطئ لمبلغ الغرامات،وان هذا التقدير الخاطئ لا يمكن ان يحجب حق المقاولة في الحصولعلى مستحقاتها داخل الاجل، فإنها تكون قد عللت قرارها تعليلا سليما وبناء على ذلك رفض الطعن بالنقض.
وقد اكدت الغرفة الادارية دوما كون مبدا استمرارية المرفق العام هو من المبادئ العامة ---- وبالتالي اعتبرت انه لا يجوز التمسك بان التعاقد كان مع رئيس سابق للجماعة المعنية بالنزاع، و حسمت في احقية المقاولة المتعاقدة في الحصول على مستحقاتها "القرار عدد 600 الصادر بتاريخ 08/25/2014 في الملف رقم 1111/4/1/2012 –– قرار غير منشور- وبالنسبة لمحاضر التسليم اعتبرت الغرفة الادارية،ان محضري التسليم المؤقت والنهائي لئن كانا لا يشيران الى طبيعة ونوعية وحجم الاشغال المنجزة من طرف المقاولة، الا انهما يتضمنان اشارة صريحة الى ان هذه الاخيرة قد انجزت الاشغال الموكول اليها القيام بها في اطار الصفقة ، وذلك وفق الشروط والمواصفات المتفق عليها بدفتر الشروط الادارية العامة، ومن ثمة فان حجية المحضر تنسحب الى مجموع الاشغال المنجزة سواء في اطار الصفقة الاصلية او في اطار ملحقاتها،واكدت الغرفة الادارية في نفس القرار بان قيام المقاولة بإنجاز اشغال اضافية،مهما بلغ حجمها، بناء على تكليف من صاحبة المشروع، وفي غياب احترام قواعد التعاقد المقررة قانونا في هذا المجال، لا يخول الادارة التمسك بوجوب التقيد بها ما دام انها هي التي اختارت التخلي عنها "القرار عدد 434/2 الصادر بتاريخ 04/07/2013 في الملف رقم 361/4/1/2011- " – قرار غير منشور-.
وبالنسبة لفوائد التأخير :اكدت الغرفة الادارية بانه من شروط الاستجابة لطلبها ان يكون التأخير في الاداء منسوبا للإدارة وحدها، وان تكون المبالغ المطالب بفوائد التأخير بشأنها تتعلق بأشغال تم انجازها بالفعل وتمت معاينتها"القرار عدد 481/1 بتاريخ 17/04/2014 في الملف رقم 2646/4/1/2012 "-قرار غير منشور- كما قررت بان امتناع الادارة عن الاداء بحجة وجود عيوب يجب اصلاحها يتنافى و قانون الصفقات والقواعد العامة، التي توجب حسن تنفيذ الالتزام من الجانبين، سيما وانه خول للإدارة حق الاصلاح بنفسها او بواسطة التعاقد مع الغير على نفقة المقاول، وفق شروط معينة ،ان ثبت امتناع هذا الاخير عن الاصلاح، وبالتالي اعطت للمقاولة الحق في طلب رفع اليد عن الضمانة البنكيةحال ثبوت التسليم النهائي للأشغال وانصرام اجل ثلاثة اشهر " قرار صادر بغرفيتن بتاريخ 30/01/2008 تحت عدد 61 في الملف الاداري رقم 1115و 1235 /4/1/2006 "،كما اكدت الغرفة الادارية في قرار اخر كون مسطرة المطالبة الادارية المنصوص عليها في المادتين 50 و 51 من دفتر الشروط الادارية العامة لا تتعلق سوى بإمكانية المطالبة بالتعويض امام الادارة، وليس من شانها الحد من حق اللجوء الى القضاء للمطالبة بالمستحقات الناتجة عن الاشغال الاصلية والاضافية "القرار عدد 415 الصادر بتاريخ 5 مارس 2015 في الملف رقم 925/4/1/2012" – منشور بنشرة قرارات محكمة النقض –العدد 24– ص 143 –.
وفي اطار حماية المقاولة في الاجراءات التعسفية للإدارة :
اقرت الغرفة الادارية احقية مقاولة في الحصول على تعويض مالي نتيجة الاضرار اللاحقة بها جراء قيام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالحجز على منقولاتها بدعوى تحصيل مبالغ ومستحقات ثبت كونها ادتها سابقا " القرار عدد 518/1 بتاريخ 06/06/2013 في الملف رقم 56/4/2/2012 –" –قرار غير منشور-
وفي قرار اخر قررت الغرفة الادارية احقية شركة للنقل بواسطة الحافلات عبر المدن في التعويض عن الخسائر اللاحقة بها والمتمثلة في انخفاض رقم معاملاتها، وذلك في مواجهة وزارة النقل نتيجة الترخيص لشركة نقل اخرى تستغل نفس الخطوط بتحويل توقيت انطلاق حافلاتها، وهي اضرار تحققت منها محكمة الموضوع عن طريق الخبرة" القرار عدد 460/2 بتاريخ 08/05/2014 في الملف رقم 2673/4/2/2012 " –قرار غير منشور-.
واضيف في الاخير قرارا حديثا للغرفة الادارية ادرجه ضمن الجهود المبدولة لحماية الاستثمار والذي رتب مسؤولية الدولة عن الاضرار الناجمة عن اعمال الشغب والاحراق والنهب، معتبرا بان مسؤوليتها قائمة بدون خطا في اطار التضامن الوطني،بصرف النظر عن قيام الخطأ في جانب مرفق الامن من عدمه، مع تأكيد احقيتها في الرجوع على المتسبب في الضرر " القرار عدد 4 بتاريخ 8 يناير 2015 في الملف الاداري رقم 2166/4/2/2013" منشور بنشرة قرارات محكمة النقض –الغرفة الادارية- العدد 24- ص 156"
واعتبر انه خير ما اختتم به هذا البحث المتواضع لما فيه من اشارات واضحة وقوية لطمأنة المواطن عامة والمستثمر خاصة في بلد يرفل في الامن والاستقرار، فاللهم ادمها نعمة.