''لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله".
بهذه الجملة عميقة المغزى التي حسم بها موضوع مرجعية المدونة ، قدم صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله أمام البرلمان مدونة الأسرة التي نعتبرها مكسبا وطنيا حقيقيا كمحصلة لنقاش وطني ساهم فيه الجميع، من علماء الشريعة والمثقفين وعلماء الاجتماع والحركات النسائية، وذلك بعد سجال سياسي وفقهي لم يخل من حدة كادت أن تقسم المجتمع المغربي بين تيار حريص على الاجتهاد من داخل المرجعية الإسلامية والدفاع عن الأسرة وحمايتها، وتيار آخر يرفع مطالب تعديل القوانين المتعلقة بالأسرة بشكل اعتبره الكثير مسا ببعض قطعيات الشريعة الإسلامية واقتباسا من بعض التشريعات ذات التوجه التحرري.
ولولا التدخل الملكي الحكيم لوضع حد لهذه الخلافات وتعيين اللجنة الملكية الاستشارية للانكباب على وضع تعديلات جوهرية على قانون صمد طويلا أمام أي محاولة للتغيير إذا ما استثنينا التغيير المحتشم لسنة 1993، لما تم تطويق الشرارة وتحويلها إلى وهج كان له صداه المتميز سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
إن استحضار الروح التوافقية التي صيغت بها مدونة الأسرة بطريقة تنسجم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية والانفتاح على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، تفرض علينا الحفاظ على هذا المكتسب والاستمرار في العمل على تجسيده على أرض الواقع، ومواجهة كل محاولة لإفراغ مستجدات المدونة من روحها وفلسفتها أو أدلجتها أو تسييسها.
والمسيرة النضالية لهذا المكسب مازالت مستمرة لأن "المدونة" ليست هدفا في حد ذاتها، بل إن تطبيقها السليم وتوافر البيئة الصالحة لهذا التطبيق هما الرهان الأكبر والأصعب؛ رهان ساهم ويساهم فيه الفقهاء والقضاة والبرلمان والمجتمع المدني والباحثون المتخصصون في الأسرة وكذا محيط الجامعة.
أكثر من سبع سنوات مرت على تطبيق مدونة الأسرة تحققت خلالها مكتسبات ملموسة، ورغم ذلك لم تستطع أن تصل إلى مستوى التطلعات المرجوة من تعديلها، فما زالت مثار جدل ونقاش واسعين، ومازالت بنودها تفسر وتؤول متأرجحة بين مؤيد ومتحفظ ومهاجم؛ جدل تتباين درجة حدته وتتباين خلفياته بين فترة وأخرى، وهي ظاهرة صحية بدت معالمها منذ البدء بالمطالبة بالتعديل، حيث طبع النقاش حول المدونة منذ انطلاقه صراع بين القوى الإصلاحية والقوى المحافظة، تتداخل فيه عوامل اقتصادية واجتماعية وتربوية ودينية، وشكلت هاجسا طبع أعمال اللجنة الملكية الاستشارية للوصول إلى صيغة توفيقية بين التيارين.
وهذا أمر ملاحظ في جل محاولات تعديل قوانين الأسرة في الدول العربية والإسلامية وليس في المغرب فقط.
فقد صمدت مدونة الأحوال الشخصية كجسد قانوني تهيمن عليه القدسية ويقاوم كل محاولات التعديل من سنة 1957 إلى سنة 1993، ثم التعديل الأخير لسنة 2004. فلا شيء إذن يمنع من إعادة النظر في الثغرات القانونية والعراقيل التي منعت التطبيق القضائي السليم لمقتضياتها بعد مرور أكثر من سبع سنوات على صدورها، وكذا معوقات هذا التطبيق التي تتراوح بين الموروث الثقافي والجانب الاقتصادي والاجتماعي للمخاطبين بأحكامها، مع استشراف آفاق تطبيقها السليم ،ولن يتم ذلك إلا بتكاثف جهود كل الجهات المعنية، وإيجاد الحلول الملائمة بما يتوافق وروح المدونة وغاياتها الأساسية وبما يخدم الأسرة بكافة مكوناتها ويحافظ على تماسكها واستقرارها. فليس الهدف هو التفرقة أو تغليب مصالح جهة على أخرى، أو تسييس أو أدجلة هذا المكسب الوطني، بقدر ما هو عمل جماعي إصلاحي يخدم الخلية الأساسية في المجتمع وهي الأسرة.
فالنص القانوني وحده ليس بقادر على أن يؤلف بين أطراف العلاقة الأسرية، لكن وضوحه وبعده عن الغموض الذي تترتب عنه الكثير من التأويلات المغلوطة يظلا مكسبا بيد الطرف الضعيف في العلاقة الزوجية لحماية حقوقه، سواء كان زوجا أو زوجة أو طفلا.
كما أن التطبيق القضائي وحده آلية ستعجز عن حل الإشكاليات التي طفت على أرض الواقع مهما ارتقى في وسائله البشرية واللوجيستية، في غياب معطيات وخلفيات أخرى يجب توافرها لإنجاح تجسيد المدونة على أرض الواقع.
كما أن الإعلام بأنواعه يتحمل مسؤولية كبرى في تجسيد أهداف المدونة وروحها، وسيجد نفسه أمام تحديات كبرى لغرس القيم الدينية والأخلاقية واختراق الموروث الثقافي وتحديات العصر في غياب الوعي العام بحقوق الإنسان، وضعف التشبث بقيم التسامح والمعاشرة بالمعروف، والإرادة وحدها ليست كافية لصنع المعجزات في ظل التطورات المتسارعة التي مست كيان الأسرة .
إنها كل هذه العوامل مجتمعة، دون إهمال المحيط الاقتصادي والاجتماعي والديني في ظل هجمة العولمة الشرسة.
وقد عنت لي في هذه العجالة بعض الملاحظات أعتبرها أرضية متواضعة لمن يريد التعمق فيها بغرض تجاوز بعض المعيقات القانونية أو القضائية التي صادفها التطبيق العملي لهذه المستجدات واستشراف إصلاحات أخرى لمزيد من المكتسبات التي تحقق العدالة والمساواة لأطراف العلاقة الزوجية. منطلقاتنا واحدة، ترتكز على ثوابتنا الدينية والانفتاح على الآخر فيما يعرف دوليا بحقوق الإنسان، والذي عرفته الشريعة الإسلامية قبل المعاهدات الدولية، في مبادئها الكلية وهي العدل والمساواة ورفع الضرر أو جبره، والإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان.
فهل يمكننا الآن في ظل التحولات المجتمعية التي مست كيان الأسرة، وضعف الوازع الديني، وارتفاع مظاهر العنف الأسري بكل تجلياته، وتحديات مواجهة هجمة العولمة، أن نقتصر على عبارات فضفاضة لها بعدها الديني وتخاطب الضمير وليست لها قوة إلزامية؟ وحتى في حال وجود جزاء يضمن قوتها الإلزامية، نواجه بتأثير"صفة الزوجية" على الجزاء الجنائي، إما بعدم الاعتداد بها في تقرير العقوبة، أو جعلها سببا معفيا من المسؤولية تارة أو ظرفا مخففا تارة أخرى، وآثار وتداعيات ذلك على حقوق الأطراف.
إننا نتفق جميعا على أن هناك إجماعا وطنيا على إيجابيات هذه المدونة كإطار قانوني لتنظيم الأسرة، وهذا أمر واقعي عكسته ردود الفعل المرحبة بالمدونة داخليا ودوليا. ونحن الآن ندخل مرحلة أخرى تشكل رهان الساعة، مسترشدين بالإصلاحات الكبرى لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وعلى رأسها الإصلاحات الدستورية الأخيرة، وبتعليمات صاحب الجلالة التي رسم فيها معالم الإصلاح القضائي وتأسيس مفهوم جديد للعدالة.
فإصلاح الأسرة رهين بإصلاح المنظومة السياسية في ظل دولة الحق والقانون، وإصلاح القضاء ودوره الفعال في التطبيق السليم لمقتضياتها.
لكن هناك خطوات أخرى يمكن عن طريق توضيح معالمها في مجهود جماعي أن تخفف العبء عن كاهل القضاء، باستشراف آليات أكثر نجاعة وحماية لتماسك الأسرة واستقرارها، ولن يتحقق ذلك إلا بالبحث عن معوقات هذا التطبيق سواء كانت نابعة من النص القانوني نفسه أو البيئة التي يخاطبها أو مدى الوعي بنصوصه وفهمها.
بداية، يتعين علينا استعراض أهم المكتسبات التي جاءت بها مستجدات مدونة الأسرة، سواء من الناحية القانونية أو الإجراءات التي تم تفعيلها لمواكبتها، لننتقل إلى العوائق التي صادفتها أثناء تجسيدها على أرض الواقع، ثم نختم ببعض المقترحات في أفق مراجعة نرجوها محققة لفسلفة المشرع ورغبته في وضع أسس صلبة لتحقيق المودة والرحمة بين أطرافه لاستقرار الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع.
I ـ المستجدات
جاءت مدونة الأسرة بمستجدات موضوعية وأخرى إجرائية
أ ـ من أهم المستجدات القانونية التي أتت بها مدونة الأسرة كما وردت في ديباجتها، والتي تعتمد محاور ثلاثة تجسد أهدافها الأساسية وهي حماية حقوق المرأة وضمان حقوق الطفل وصيانة كرامة الرجل، المقتضيات التالية:
1ـ تسمية المدونة " بمدونة الأسرة ":
إن اختيار اسم مدونة الأسرة كما ورد شرحه في الدليل العملي الذي أصدرته وزارة العدل ، قد جاء لإبراز الصفة المؤسساتية للأسرة وما يترتب عن ذلك من التركيز عليها بهدف حفظ كيانها وصيانة حق كل فرد منها، وإشعاره بالواجبات الملقاة على عاتقه داخلها في إطار من التوازن بين الحقوق والالتزامات المتبادلة بينهم، وهو ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس بقوله "وبصفتنا ملكا لكل المغاربة فإننا لا نشرع لفئة أو جهة معينة، وإنما نجسد الإرادة العامة للأمة التي نعتبرها أسرتنا الكبرى" .
ـ فهي مدونة للمرأة والرجل وليست مدونة تحابي المرأة على حساب الرجل ؛
ـ وهي مدونة تهتم بالطفل، وهو ما غفلت عنه مدونة الأحوال الشخصية قبل التعديل؛
ـ وهي مدونة تهتم بحقوق المرأة وبصيانة كرامة الرجل تحقيقا للمساواة بين الأطراف.
كما أن تخلي مشرع مدونة الأسرة عن تسمية "مدونة الأحوال الشخصية" إقرار منه بعدم تطابق هذا المفهوم الغربي مع الأحكام الشرعية المضبوطة بالكتاب والسنة والإجماع، والتي يجب أن يتقيد بها في العلاقات الأسرية بحكم مرجعيتنا وثوابتنا.
2ـ الرعاية المشتركة بين الزوجين:
جاءت المادة 4 م.أ بتوجه جديد في تعريفها للزواج يعتمد المساواة في تسيير شؤون الأسرة، حيث نصت على أن الزواج "ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة، على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة.
وهكذا خطا المشرع خطوة جريئة بتخليه عن مفهومي الطاعة والقوامة اللذين فسرا من طرف بعض الفقه المتشدد تفسيرات مجحفة بالمرأة بسبب هيمنة العادات والتقاليد وتأثرهم بها في آرائهم حول هذين المبدأين، بما يخالف مفهومهما في الشريعة الإسلامية والذي يعتمد التكامل والتشاور والمساواة .
3ـ تحديد سن الزواج في 18 سنة للرجل والمرأة على حد سواء، مع إمكانية تخفيضه بإذن من قاضي الأسرة بمقرر معلل، وغير قابل لأي طعن.
وبهذا المقتضى لم يعد هناك، كمبدأ أساسي، مجال للتفرقة بين الفتاة والفتى بناء على المؤشر الجنسي، وهو مكسب هام جاء استجابة للمطالب النسائية بتوحيد سن الزواج حفاظا على حق الفتاة الصغيرة في تمكينها من إكمال تمدرسها وتفادي السلبيات الناتجة عن الزواج المبكر وتبعاته كالحمل المبكر ومخاطره وتعريضها للعنف الزوجي لصغر السن وعدم القدرة على تحمل المسؤولية الأسرية بالنسبة للقاصر من الزوجين، إضافة إلى محاولة توحيد سن الزواج بسن الرشد القانوني والسن القانوني للتصويت وغيرها، وإن تعرض الخروج عن هذا المبدأ بتزويج الأقل من 18 سنة"عند الاقتضاء"، للعديد من الانتقادات خصوصا في السنتين الأخيرتين كما سنرى فيما بعد.
4 ـ الولاية: وهي حق للمرأة الرشيدة حسب اختيارها ومصلحتها. وللرشيدة أن تعقد زواجها بنفسها أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها.
وبذلك منحت المدونة للمرأة الرشيدة الحق في التخيير بين أن تزوج نفسها بدون ولي، أوتفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها، كما تم النص على ذلك في المادتين 24 و25 من مدونة الأسرة.
وهذا مقتضى يحقق مصلحة الزوجة واستقرار الأسرة كان منصوصا عليه منذ 1957 بطريقة محتشمة، ثم تراجع عنه تعديل مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1993، لتعود مدونة الأسرة لتجسيده في المادتين المذكورتين كمكسب للمرأة ناضلت من أجله ولسنوات، الجمعيات النسائية وفعاليات المجتمع المدني.
وقد خرجت مدونة الأسرة في تبنيها هذا المقتضى عن المذهب المالكي الذي يعتبر الولاية شرطا لصحة العقد، آخذة بالمذهب الحنفي، وهو رأي لبعض فقهاء المذهب الشافعي أيضا ، اعتبارا أن قضايا العصر والتطورات الهائلة التي يعرفها لايمكن أن يسعها فقه مذهب واحد، وإنما تسعها أصول الإسلام كاملة، واجتهادات علمائه أجمعين، واعتمادا على أحد تفاسير الآية الكريمة القاضية بعدم إجبار المرأة على الزواج بغير من ارتضته بالمعروف، وهي الآية 232 من سورة البقرة: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
وبذلك تكون مدونة الأسرة قد اختارت موقفا وسطا، فهي أبقت على الولاية ولم تسقطها بالمرة، نظرا للموروث الثقافي المتجذر في عقلية المجتمع المغربي الذي يرى بأن في تقرير الولاية رفعا لشأن الفتاة وسندا لها عند حصول نزاعات بينها وبين الزوج، وفي نفس الوقت، خير الرشيدة بين أن ترتضي الولاية أو تزوج نفسها بنفسها.
وتبين إحصائيات وزارة العدل لسنة 2010 العدد الضئيل من الزيجات التي تستغني فيها الفتاة عن الولاية، ما يؤكد أن الموروث الثقافي في بلدنا يلزمه وقت طويل ليضعف تأثيره على العقليات .
5ـ التعدد:
استغرق هذا المقتضى حيزا هاما من الوقت من لدن اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل المدونة حسب الأصداء التي تسربت بعد صدورها، وقد تم التنصيص على مقتضياته في المواد من 40 إلى 46 من المدونة، حيث نصت المادة 40 على أنه: "يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها".
وبمقتضى هذه المادة أصبحت إمكانية التعدد شبه مستحيلة، عندما ربطه المشرع بشروط صارمة، تحت مراقبة وموافقة القضاء.
وتجد حالة المنع المنصوص عليها في الفقرة الأولى سندها الشرعي في الآية الكريمة: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، وأن الحق سبحانه نفى هذا العدل في قوله تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم".
أما الحالة الثانية فتجد سندها في القاعدة القانونية "العقد شريعة المتعاقدين" اللذين عليهما احترام ما التزما به في العقد، وبقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " مقاطع الحقوق عند الشروط ".
وقد سمحت المدونة استثناء لمريد التعدد تقديم طلب إلى المحكمة، متضمنا بيان الأسباب المبررة لطلبه، ومرفقا إياه بما يثبت وضعيته المادية، وقيدت ذلك بضوابط وإجراءات صارمة، خصوصا وأن التجربة أبانت عن تعسف الكثيرين من مريدي التعدد في استعمال هذه الرخصة وعدم التزامهم بالجانب الأخلاقي والوازع الديني الذي يشترطه النص وهو:
ـ ضرورة العدل بين الزوجات، والعدل المقصود هو العدل المادي، أي القدرة المادية للراغب في التعدد في تحقيق معيشة متساوية بين زوجاته وأطفاله من أي واحدة منهن؛
ـ ضرورة توفر أسباب جدية و موضوعية، كمرض الزوجة مرضا معديا أو إصابتها بإعاقة ذهنية أو جسدية تمنعها من القيام بواجباتها، أو استحكام النفور بين الزوجين.
وهكذا تكون مدونة الأسرة:
ـ قد منعت التعدد في حال اشتراط الزوجة عدم التعدد أو عدم توفر العدل؛
ـ وسمحت به في نفس الوقت بشروط صارمة بما يحقق المقاصد الشرعية من تقريره، ومواجهة التعسف في استعماله.
كما خيرت الزوجة الأولى بين البقاء مع الزوج المتعدد أو طلب التطليق، وحقها في التعويض إذا تبين للمحكمة استعمال الزوج للتعدد بقصد الإضرار والتعسف.
6ـ الشروط الإرادية في عقد الزواج :
جعلت الشريعة الإسلامية للإرادة دورا بارزا كأساس تدور حوله غالبية القواعد التي تنظم أحكام العقد من وقت إنشائه حتى تنفيذه، وليس صحيحا ما يعترض على ذلك من القائلين بأن سلطان الإرادة في الشريعة الإسلامية مشلول بجعلية الآثار، أي أن آثار العقد تترتب بجعل الشارع، فللإرادة عكس هذا القول، مكان بارز في العقد في إطار عدم الخروج على أمر نهى عنه الشارع أو حرمه .
وقد كان هناك اتجاه عام في الفقه المغربي نادى بتبني الموقف الفقهي الذي يرى الأخذ بالشروط الصحيحة التي لا تخالف النظام العام للأحوال الشخصية عند مناقشته لثغراتها والتطبيق القضائي لمقتضياتها ، ومن ضمنها موقف المشرع المغربي في ظل مدونة الأحوال الشخصية من الشروط في عقد الزواج ، الذي جاء محدودا وغير ملزم ، بحكم المرجعية الفقهية للمذهب المالكي الذي يقر بجواز الشروط التي لا تخالف مقتضى عقد الزواج، لكنه لا يجعلها ملزمة، وهذا راجع لسيادة مبدأي الطاعة والقوامة على جل مقتضيات مدونة الأحوال الشخصية آنذاك، و لأن في إلزام الزوج بتنفيذ الشرط الاتفاقي حدا من سلطاته المستمدة من المبدأين حسب تفسيرهما الفقهي .
وقد سار القضاء المغربي في تجسيد ذلك متأثرا بالمذهب المالكي، باعتباره الشروط غير ملزمة، وعدم إلزام الزوج بتنفيذها، وهو ما لا تقول به الشريعة الإسلامية التي تحث على الوفاء بالعهود ، الأمر الذي دفع مشرع مدونة الأسرة إلى اتخاذ خطوة إيجابية ترد الاعتبار لأهمية الشروط في عقد الزواج، خاصة منها تلك التي تحقق مصلحة لأحد طرفي العلاقة الزوجية أو كليهما دون أن تخل بمقتضى عقد الزواج، وذلك بالأخذ بالمذهب الحنبلي وجعل الشروط الاتفاقية بين الزوجين شروطا ملزمة، بل إن المشرع سار في هذا المستجد إلى نهايته عندما أضاف إلى أنواع التطليق، التطليق للإخلال بالشرط.
وهكذا يكون المشرع قد حقق مطلبا هاما نادى به قبل التعديل وبسنوات عديدة بعض أساتذتنا الأجلاء في المغرب والكثير من فعاليات المجتمع المدني المغربي، وكذا مطالب الحركات النسائية المقدمة إلى اللجنة الملكية لمراجعة المدونة. وهو ضرورة إدخال مبدأ سلطان الإرادة في قانون الأسرة لإيجاد نظام أسري يقوم على فكرة الاختيار، بمقتضاه يتم منح الأفراد حق التقرير بإرادتهم في بعض مسائل الأسرة شديدة الحساسية مثل تعدد الزوجات والولاية والنفقة والطلاق ومساعدة الأهل وعدم الانتقال إلى بلد آخر أو اختيار المسكن أو متابعة الدراسة أو العمل خارج البيت ... وهو ما تحقق فعلا بموجب الفقرة الأولى من المادة 48 من مدونة الأسرة ، وتم تطبيقه في التعدد بمنح الزوجة حق اشتراط عدم التعدد عليها في المادة 40، والاتفاق على استثمار الأموال وتوزيعها بين الزوجين بمقتضى المادة 49، وكذا حق الزوجة في اشتراط تمليكها الطلاق.
يتضح مما سبق أن لإدراج إرادة الطرفين في عقد الزواج أو عند انفصامه آثارا إيجابية في التخفيف من المشاكل التي قد تنهض حائلا دون التوافق بين الزوجين وتوسع الهوة بينهما أثناء الزواج، أو تزيد من حدة النزاع والعنف عند انفصامه.
7ـ فصم الرابطة الزوجية:
خصت مدونة الأسرة لتنظيم انفصام الرابطة الزوجية الكتاب الثاني، المواد من 70 إلى 141. وأهم ما جاءت به يتعلق بالطلاق والتطليق، بحيث أن الطلاق لم يبق بيد الزوج وحده، بل أصبح للزوجة بدورها الحق في الطلاق حسب المادة 78م.أ، وربطت الحالتين بمدى توفر شروطه وكل ذلك تحت رقابة القضاء .
كما استحدثت حالات أخرى لطلب التطليق من طرف الزوجة:
ـ كالتطليق للشقاق في المواد من 94 إلى 97،الذي يتصدر حالات التطليق حسب إحصائيات وزارة العدل لسنة 2010 ، وهو ما سنناقشه فيما بعد؛
ـ والطلاق الاتفاقي برضا الزوجين معا، وهو صورة حضارية لفصم الرابطة الزوجية سجل في سنة 2010 ارتفاعا هاما .
كما تم توسيع حق المرأة في طلب التطليق وذلك في حالات:
ـ إخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج؛
ـ الإضرار بالزوجة مثل عدم الإنفاق أو الهجر أو العنف وغيرها من مظاهر الضرر؛
ـ التطليق لسجن الزوج؛
ـ الإبقاء على جميع أنواع الطلاق والتطليق والخلع المعروفة سابقا، مع بعض التفصيلات التنظيمية، من أهمها أن القاضي قبل أن يأذن بالإشهاد على الطلاق يقوم وجوبا بمحاولة الصلح إلا في حالة التطليق للغيبة، وإذا كان بين الزوجين أبناء يكرر محاولة الصلح ثانية، وإذا فشلت يحدد القاضي للزوج مبلغ الواجبات المالية التي تلزمه لزوجته وأبنائه ليودعها في صندوق المحكمة قبل أن يأذن القاضي بالإشهاد على الطلاق، أو يعتبر متراجعا عن طلبه إذا لم يضع المبلغ المطلوب.
والمدونة في هذا المجال لم تخرج عن قواعد الفقه الإسلامي، إذ أبقت على مبدأ المحافظة على استقرار الأسرة عندما سنت إجراءات معقدة في إمكانية اللجوء إلى الطلاق كأبغض الحلال عند الله من جهة، وأقرت من جهة أخرى حالات جديدة له كلما كانت هناك استحالة في استمرار العلاقة الزوجية تطبيقا للقاعدة الفقهية "لاضرر ولا ضرار"، وتعزيزا للمساواة بين الجنسين، وحماية للزوجة من تعسف زوجها في ممارسة الطلاق.
وهكذا تتلخص مكتسبات مدونة الأسرة فيما يتعلق بفصم الرابطة الزوجية في:
"إباحة لطرفي العقد على السواء في الفرقة تحت المراقبة الفعلية للقضاء وطبقا للضوابط الشرعية للحيلولة دون التعسف في استعمال هذا الحق".
8ـ الحضانة:
تم إدراج المقتضيات المتعلقة بحقوق الطفل تجاه أبويه والواردة في اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب ضمن مدونة الأسرة، وأقرت مسؤولية الدولة في اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأطفال. وهكذا اعتبرت الحضانة من واجبات الأبوين ما دامت العلاقة الزوجية قائمة بينهما (المادة 164).
ومراعاة لمصلحة المحضون، تم إقرار أحكام جديدة تهدف إلى وضع إطار قانوني جديد يتضمن حلولا عملية لمشاكل حضانة الأطفال في حال انحلال ميثاق الزوجية، وتتلخص أهم هذه الأحكام في:
ـ حق الأم في الاحتفاظ بحضانة أبنائها؛
ـ عدم إسقاط هذا الحق عنها في حالة الزواج إلا بشروط ؛
ـ إعطاء الأولوية في الحضانة للأم ثم للأب ثم لأم الأم، ثم إذا تعذر ذلك يوكل إسناد الحضانة للقاضي للبت فيه وفق مصلحة المحضون؛
ـ جعل تكاليف الحضانة مستقلة عن النفقة وواجبات الرضاع، وكذلك عن سكن المحضون، بحيث اعتبرت أن توفير السكن للمحضون واجب مستقل عن باقي الواجبات ويجب أن يراعى فيه الوضع الاجتماعي الذي كان يعيشه الطفل قبل الطلاق؛
ـ للمحكمة حق مراقبة وضعية المحضون وتتبع شؤونه عن طريق الاستعانة بتقارير المساعدات الاجتماعية، وصلاحيتها في إعادة النظر في الحضانة كلما تعلق الأمر بمصلحة المحضون.
وتجدر الإشارة إلى أن دور النيابة العامة كطرف أصلي كما نصت عليه المادة 3 من قانون الأسرة يبدو واضحا بكل تجلياته في العمل على احترام هذه المقتضيات، وخاصة المتعلقة منها بالطفل كما سيتبين لاحقا.
9 ـ حقوق الطفل:
يستطيع المتأمل للمادة 54 من مدونة الأسرة التي خصصها المشرع لحقوق الطفل، أن يستشف منها تأثره بالاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب في 1993، وهي مقتضيات لا تختلف عما جاءت به شريعتنا الإسلامية في الحفاظ على حياة الطفل وتعليمه وتأديبه ورعايته، فالإشكالية لا تتعلق بالنص بقدر ما تتعلق بتفعيله على أرض الواقع.
وهو ما عملت مدونة الأسرة على ضمان تحقيقه بجعل النيابة العامة طرفا أصليا في هذا الجانب.
10 ـ النسب:
نصت المادة 143 من مدونة الأسرة ، على مبدأ اعتبار البنوة شرعية بالنسبة للأب والأم إلى أن يثبت العكس.
كما نصت على إقرار ثبوت البنوة بالنسبة للأم واعتبارها بنوة شرعية بالنسبة لها في حالة الزوجية والاغتصاب والوطء بشبهة، والإقرار، مع إمكانية الاستعانة بخبرة طبية كوسيلة للإثبات ، هذه الأخيرة التي تعتبر إضافة مهمة تعكس الانفتاح على التطور العلمي في مجال الإثبات وحماية مصلحة الطفل وحقوقه المشروعة في التعرف على أبويه وفي حمل اسم عائلي أسوة بغيره، للتقليص من حالات أطفال الشوارع، ورفعا للمعاناة والحرمان عن الأطفال في مثل هذه الحالات، مع الإشارة إلى أن هذا المقتضى الهام لا يستفيد منه في الوقت الحالي إلا الحمل الناتج عن الخطبة المتوفرة على شروطها القانونية.
11 ـ تدبير الممتلكات المحصلة أثناء الزواج:
المبدأ هو الإبقاء على قاعدة استقلالية الذمة المالية لكل من الزوجين، وأن للمرأة ذمة مالية مستقلة عن زوجها، مع إقرار جواز الاتفاق بين الزوجين على إيجاد إطار لتنظيم تدبير واستثمار أموالهما المكتسبة، وذلك في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، مع إلزام العدول بإخبار المتعاقدين بهذا المقتضى أثناء تحرير العقد.
ويجد هذا المقتضى سنده في ما يعرف في الفقه الإسلامي بمبدأ الكد والسعاية، وقد أقر المشرع هذا المكسب رغبة منه في ملاءمة القانون مع حقيقة معاشة، وهي أن الزواج يخلق مجموعة مشتركة من المصالح المادية من خلال مساهمة الزوجة في توفير الدعم الأسري، سواء عن طريق عملها المأجور أو اشتغالها داخل البيت. وبالتالي فالعدالة تقتضي مشاركتها في اقتسام ما تم توفيره في حالة الوفاة أو الطلاق.
وتبقى القاعدة أن الزوج هو المكلف بالإنفاق على الزوجة وعلى أطفاله منها، وأنها في حال مشاركته في الإنفاق إما بسبب مرضه أوعجزه أو عطالته عن العمل أو سجنه، أو ساهمت بشكل أو بآخر في تنمية ثروتهما بعد الزواج فلها الحق في اقتسام هذه الممتلكات عند انفصام الرابطة الزوجية أو وفاة الزوج، مع إثبات ذلك بجميع وسائل الإثبات حال النزاع.
12 ـ المساواة في توزيع الحقوق والتحمل بالواجبات
مكسب كرس المساواة بين الزوجين في تبادل الحقوق والتحمل بالالتزامات ، بتخلي المشرع عن التوزيع المجحف بالمرأة في مدونة الأحوال الشخصية ، خاصة الفصلان 35 و36 منها ، وذلك بحكم مرجعيته الفقهية التي تسودها مبادئ الطاعة والقوامة في تفسيرات بعيدة عن مفهوميهما في الشريعة الإسلامية ، من قبيل إلزام الزوجة بالإحصان والعفة دون الزوج ، في حين أن الشريعة الإسلامية خاطبت كلا من الزوج والزوجة بهذا الالتزام ورتبت عند الإخلال به عقوبة الجلد في قوله تعالى :" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " ، و الرجم في السنة الفعلية للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام .
وهكذا قام مشرع مدونة الأسرة بإعادة النظر في هذا التوزيع بمقتضى المادة 51 من مدونة الأسرة ، اهتداء بقول الرسول عليه الصلاة والسلام " النساء شقائق الرجال في الأحكام ".
13 ـ إدراج مبادئ المسؤولية المدنية وعيوب الرضى وتعزيز الجزاءات
ظلت القواعد العامة للمسؤولية المدنية مستبعدة من نطاق مدونة الأحوال الشخصية ، متأثرة في ذلك بالمرجعية الفقهية التي يهيمن عليها مبدآ الطاعة والقوامة ، والتي لا ترتب عند الإخلال بالالتزامات الزوجية سوى حق المتضرر في طلب فصم الرابطة الزوجية . كما كان هناك تغييب لعيوب الرضى كالتدليس، وغياب جزاءات رادعة للمخل من الزوجين إلا ما ندر .
وجاءت مدونة الأسرة بمستجدات أهمها إدماج مبدأ التعويض عن الأضرار ، وكذا التعويض عن التطليق للشقاق عندما يتبين للقاضي المسؤول عنه من الزوجين ، كما أدخلت معايير لتقدير المتعة جعلتها في مصاف التعويض ، وتم الاعتداد بالتدليس في العديد من المواد وترتيب جزاء جنائي لمرتكبه طبقا للمادة 361 ق.ج بطلب من الزوجة.
وكلها مستجدات تجد أصولها في الفقه الإسلامي ، فالتعويض هو ما يعرف فقها بالضمان ، والتدليس هو ما يعرف بالتغرير ، وكتب الفقه الإسلامي حافلة بأحكامهما ، بما يضمن حقوق المتضرر من الزوجين كل ذلك في تطبيق لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تنهى عن الإضرار " لا ضرر ولا ضرار " وتنهى عن التدليس والتغرير والغش .
14 ـ الوصية الواجبة
أصبح بإمكان الحفيد والحفيدة من جهة الأم على غرار أولاد الابن الحق في حصتهم من تركة جدهم، على أساس ألا تتجاوز حصتهم الثلث طبقا للمادتين 369 إلى 372،. ليرفع المشرع بذلك التفرقة بين أبناء الابن وأبناء البنت في الوصية الواجبة.
ومن المستجدات الهامة كذلك جعل النيابة العامة طرفا أصليا في قضايا الأسرة، وهو مكسب هام في إطار مدونة الأسرة يضفي على بنودها مصداقية كبرى ويحيط تطبيقها بحماية أشمل مما كان في السابق بتعزيز تطبيقها قضائيا.
ب ـ المستجدات من ناحية التطبيق
يجب التنويه هنا بجهود وزارة العدل لتفعيل مضمون مستجدات مدونة الأسرة، متسلحة بأهدافها وروحها التي برزت واضحة في ديباجة المدونة، وذلك بتفعيل قضاء الأسرة وتجميع الإشكاليات القانونية الناجمة عن تطبيق المدونة بمختلف المحاكم وتبويبها وعرضها للمناقشة؛ هذه الإشكاليات التي عرضت على العموم كنتيجة للأيام الدراسية التي استدعي لها القضاة المشرفون على قضاء الأسرة، والتي دونت خلاصتها واقتراحات الحلول التي أسفرت عنها في تقرير ختامي طبع في كتيب نشرته مجلة قضاء الأسرة في عددها الأول يوليوز 2005؛ دون إغفال الإجراءات والتدابير الفعالة لتهييء المناخ الصالح لتطبيق مضامين المدونة لوجيستيا وبشريا، والعمل على تتبع تطبيق مقتضياتها بإصدار سنوي للإحصائيات المتعلقة بذلك، آخرها إحصائيات 2010 التي لم تنشر بعد.
إضافة إلى إصدار الدليل العملي لمدونة الأسرة، والعمل على تزويد محاكم قضاء الأسرة بما تحتاج إليه من وسائل التطبيق الناجع لمواجهة تحدياته، وذلك بتوفير الأماكن المناسبة لمحاكم الأسرة في مختلف محاكم المملكة، والإشراف على تكوين القضاة وفق روح المدونة وأهدافها الرامية إلى الحفاظ على استقرار الأسرة وتماسكها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فما فتئت الوزارة المعنية تقوم بعقد شراكات مع مؤسسات أجنبية وعربية تهتم بالشأن الأسري للاستفادة من خبراتها وتجاربها، إضافة إلى القيام بخطوات مهمة في إدماج الوساطة الأسرية داخل أقسام الأسرة، لكن الأرقام التي تكشف عنها وزارة العدل تظهر ضآلة نسبة حالات الوساطة سواء من طرف المحاكم أو الحكمين أو مجلس العائلة أو أنواع أخرى من الصلح.
كما تمت تجربة الاستعانة بالمساعدات الاجتماعيات في خمسة أقسام لقضاء الأسرة بخمس مدن مغربية أعطت نتائج إيجابية، وسيتم تعميم التجربة على كل أقسام قضاء الأسرة كما جاء على لسان وزير العدل السابق الأستاذ محمد الناصري، ومدير الشؤون المدنية بالوزارة الأستاذ إبراهيم الأيسر.
وبطبيعة الحال، مازالت هناك جهود يجب أن تبذل؛ فأكثر من 300.000 قضية تعرض سنويا على المحاكم، بمعدل 10.000 قضية لكل قاض؛ ما يمثل نقصا ملحوظا في الأطر القضائية وعبئا كبيرا عليها، ويضع جامعاتنا وكليات الحقوق ومعاهد ومدارس الدراسات الإسلامية خاصة، أمام مسؤولية تكوين طلبتها تكوينا منهجيا يمزج بين النظري والتطبيقي وبين الأصالة والمعاصرة في الدراسات القانونية والفقهية والدولية والمقارنة، بالنظر لمرجعية مدونة الأسرة طبقا للمادة 400 م.أ.
وختاما نشير للجهود المبذولة من طرف المشرع فيما يتعلق بالإجراءات، بتقليص الآجال المتوقعة في قانون المسطرة المدنية الحالي بخصوص تنفيذ الأحكام الصادرة بشأن المسائل المتعلقة بقانون الأسرة، وهو مكسب هام لصالح الزوجات والأطفال ولو أنه تشوبه معوقات كثيرة سنعرض لها لاحقا.
II ـ المعوقات:
رغم ما يبدو من نتائج إيجابية للتعديل الذي جاءت به مدونة الأسرة، ورغم الجهود المبذولة من طرف الجهات المختصة لتفعيلها وتسهيل تطبيقها على أرض الواقع، ورغم أن جلها يمكن استشراف تأصيله الشرعي بقليل من البحث والتروي، إلا أنه يتبين أن هناك العديد من المعوقات التي ما تزال تواجه تطبيقها منذ صدورها إلى الآن، سنحاول أن نعرض لبعضها، انطلاقا من كتابات وملاحظات ودراسات وتوصيات ولقاءات للعديد من المهتمين من قضاة وأساتذة جامعيين وباحثين وجمعويين وأصحاب المهن القضائية والقانونية خلال الندوات والموائد المستديرة التي يحضرونها أو يشاركون فيها، وما تخرج به من توصيات نتاج معايشتهم للمشاكل الأسرية بحكم تخصصاتهم، واعتمادا على ما أفرزه التطبيق القضائي خلال هذه الفترة الكافية لوضع تقييم لها، أو تبعا لبعض الثغرات التي شابت نصوصها من قبيل الغموض أو التناقض ألخصها كالتالي:
أ ـ غياب اعتماد مقاربة شمولية للإصلاح تنطلق من وجود بيئة ملائمة لنص تشريعي يجب أن تتوفر في المخاطبين به القدرة على استشراف أهدافه وروح نصوصه، وذلك بالعمل أولا على تغيير العقليات، والتمييز بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين العادات والتقاليد المتجذرة في موروثنا الثقافي والتي تلصق بهتانا بالشريعة الإسلامية، إضافة إلى ضرورة الاعتناء بتوفير البيئة الاقتصادية الملائمة، والتوعية بأهمية الدور التربوي للأسرة والمدرسة والمجتمع، وتحسيس الجهات المختصة من جمعيات نسائية وفعاليات مهتمة بالشأن الأسري بفلسفة النص ومقاصده الأساسية التي تستهدف تماسك الأسرة واستقرارها لا العمل على التفرقة، دون إغفال عوامل أخرى وجدت ضمن سياق تعثر إنزال مقتضيات قانون الأسرة الجديد على أرض الواقع، وكلها معوقات في بقائها إفراغ لمضمون مدونة الأسرة من أهميتها لعدم استفادة الناس من الحماية التي تكفلها لهم هذه المقتضيات.
ب ـ عدم فهم مضامين المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة وتشويه روح نصوصها بالتأويلات المغلوطة، سواء من المخاطبين بها أو من بعض من يتحملون دور التوعية والإصلاح بين أطراف العلاقة الزوجية، وقد بدت معالم ذلك واضحة منذ بداية تطبيق مدونة الأسرة، وتزايدت حدة ذلك في السنتين الأخيرتين، حيث تعالت الأصوات متهمة مدونة الأسرة بأنها السبب وراء عزوف الشباب عن الزواج، وأنها وراء ارتفاع نسب التطليق، خاصة التطليق للشقاق، وأنها تشكل تمييزا واضحا للمرأة على حساب كرامة الرجل، وأنها صارت تقاسمه أمواله ولها الحق في الاشتراط ومنعه من التعدد وإدخاله السجن، إلى غير ذلك من التأويلات المغلوطة التي جعلت المدونة مشجبا تعلق عليه كل المشاكل الأسرية، بل أصبحت تبرر عند البعض من الرجال العنف الأسري والزوجي كرد فعل لثورة الرجل على هذه المكتسبات، وتضع عدة علامات استفهام حول دور الجهات المختصة بالتوعية والتحسيس بمضامين المدونة، ومسؤولية قيام المهتمين والمتخصصين بعملية تأصيل لهذه المستجدات لتقف في وجه كل من يحاول التشكيك في إيجابياتها أو في مرجعيتها الإسلامية.
إن تغلغل هذه الأفكار المغلوطة في ذهن المخاطبين بأحكام مدونة الأسرة نتيجة المعرفة السطحية بمستجداتها ، من شأنه أن ينحرف بها عن القصد الأساسي للمشرع في حمايته لاستقرار الأسرة وتماسكها، ومن شأنه أن يطرح تساؤلات عدة حول الغاية من وراء هذه البلبلة والتغليط، بل إن أصابع الاتهام قد وجهت لبعض الجمعيات النسائية ومراكز الاستماع في تحميلها هذه المسؤولية، بمساهمتها في التفكك الأسري والدفع بالنساء إلى ردهات المحاكم للمطالبة بالتطليق والتعويض عن الضرر كما يروج حاليا.
وجهة نظر قابلة للنقاش، إذ ليس صحيحا أن كل الجمعيات النسائية ومراكز الاستماع لها هذا التحامل على الزوج والدفع بالزوجة إلى المحاكم. ونرى من وجهة نظر متواضعة أن الأمر ناجم عن المفاهيم المغلوطة التي ذكرت سابقا، وعن جهل بروح النص وغاياته حتى لدى بعض المختصين. كما أن هناك حالات من العنف الأسري بصفة عامة، والعنف الزوجي بصفة خاصة، ما تزال خارج التجريم لطابع "الزوجية" الذي يعفي من المساءلة أو يخفف العقوبة . كما أن تميز النزاعات الأسرية بمسطرة خاصة يجعل الشكوى بيد المتضرر لا بيد النيابة العامة مما يمكن الجاني من الإفلات من العقاب، مع الإشارة إلى أن بعض تلك الجرائم كالعنف الزوجي، قد تصل إلى حد لا يجدي فيه إصلاح ولا صلح، ويبقى الانفصال الحل الوحيد مصداقا لقوله تعالى: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
لذا فإن الأمر يتطلب النظر بشمولية إلى موضوع المعيقات بكل تجلياتها، إذ أن المسؤولية مشتركة بين المشرع والقضاء والجمعيات والإعلام والتعليم والمواطن نفسه، ولا يمكن تحميلها لجهة معينة أو للنص القانوني أو حتى لأجهزة تطبيقه.
ج ـ تدارك الثغرات القانونية، وهذا يتطلب أن يخطو المشرع خطوة أكثر جرأة لتجسيد بعض المفاهيم الأساسية التي تصدرت المدونة دون وجود إطار قانوني لها، ما جعلها نوعا من الشعارات المعنوية الظرفية التي لا تتمتع بالقوة الإلزامية في التطبيق، أو مواد أدرجت مصطلحات دون تحديد معايير تطبيقها، أو مواد أدرجت بعض المؤسسات دون وجود إطار قانوني لها، بل هناك مواد تتعارض فيما بينها وتتناقض، نورد أمثلة عنها كالتالي:
§الرعاية المشتركة بين الزوجين (م4 م.أ)، وهي من العبارات الفضفاضة التي لا تتمتع بأي إلزامية إلا في جانبها المعنوي، والظاهر أن قصد المشرع من الرعاية في هذه المادة يقتصر على الرعاية المادية، أما الرعاية المعنوية فهي التزام بين الزوجين لا يستلزم النص عليه وكان موجودا في مدونة الأحوال الشخصية السابقة وإن يختلف الالتزام به باختلاف عقليات المخاطبين به وأخلاقياتهم ومدى قوة الوازع الديني لديهم.
فالملاحظ أن الرعاية المادية في المواد اللاحقة بالمدونة تجعلها على عاتق الزوج الملزم بالإنفاق، عدا إذا استثنينا المادة 189 المتعلقة بإنفاق الزوجة حال عسر الزوج، مع إهمال المشرع للحالة التي يكون فيها كلا الزوجين معسرا، وإن تدارك المشرع هذه الثغرة بإصداره قانون صندوق التكافل العائلي الذي يظل تفعيله رهينا بصدور نصوصه التنظيمية.
وتبقى الرعاية المادية بين الزوجين حسب الصياغة التي جاءت في م 4، رعاية اختيارية ولا يترتب عن الامتناع عنها أي جزاء، والتطبيق القضائي منعدم في تفعيل هذا المقتضى.
ونعتقد أن هذه المادة تخاطب ذوات الدخل كان قارا أو مؤقتا أو موسميا، خصوصا إذا علمنا أن هذا المقتضى يبرز تطبيقه خاصة في الإنفاق على الأطفال حال عسر الزوج والزوجة موسرة، ما يترتب عنه ضرورة تدخل المشرع لتحديد مفهوم "عمل الزوجة" و"الزوجة الموسرة".
فهناك زوجات موسرات ولا يعملن خارج البيت، وهناك زوجات تقمن بأشغال الطرز والحياكة وغيرها من الأعمال المدرة للمال، وهناك زوجات يفوق دخلهن دخل الزوج، وبالتالي فإنه في غياب تحديد المشرع معايير لمفهوم العمل واليسر، سيصعب على القضاء تجسيد أهداف هذه المادة وغاية المشرع من وضعها؛
§ نسب الحمل الناجم عن الخطبة في المادة 156، هي من المستجدات التي أثارت الكثير من النقاش، بل تم اعتبارها من طرف العديد من الناس نوعا من شرعنة السفاح.
فما هي غاية المشرع من تقرير هذا المقتضى الذي يبدو متناقضا في تركيبته، مثيرا للتساؤل حول فلسفته وأهدافه؟؟
إن المتتبع لعملية المخاض العسيرة التي مر بها وضع تعديلات المدونة رغم ما كان يطبع أعمال اللجنة الملكية من سرية ، والتي تم استخلاصها من تغيير في رئاستها، يعكس اختلافات الرأي داخلها بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الحداثي ، في وجود اتجاه وسط كان يحاول دون شك التوفيق بين القطبين المتعارضين، ويمكننا المغامرة بالقول بأن المادة المذكورة كانت نتاج صياغة هذا الاتجاه الوسط لإرضاء الاتجاهين، ما جعله يخرج نصا قانونيا مفبركا، فلا هو بالخطبة وإن ذكرها، ولا هو بالزواج حيث يفتقد الشكلية وهي التوثيق وهو ليس شرطا لصحة عقد الزواج.
إن المتمعن في قراءة هذا النص سيلاحظ دون شك هاجس حماية الحمل المترتب عن الخطبة، وهذا مطلب الاتجاه الحداثي بحكم مصادقتنا على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل من جهة، والرغبة من جهة أخرى في عدم إثارة حفيظة الاتجاه المحافظ ، بأن أضفى المشرع المغربي على الخطبة صفة الزواج غير الموثق ،وهو زواج شرعي تنقصه الشكلية المتمثلة في عقد الزواج المكتوب ، وبالتالي فالحمل الناتج عنه سيكون حملا شرعيا وليس سفاحا.
والدليل على أن الموضوع لا يتعلق بالخطبة، الشروط التي حددها المشرع لتحقق نسب الحمل الناتج عنها والمصطلحات التي اعتمدها في ذلك. فهناك إيجاب وقبول، وهما مصطلحان لا نجدهما إلا في عقد الزواج، ولهما شروط وآثار قانونية واضحة لا تصل في قوتها الإلزامية للرضائية في الخطبة التي جعل المشرع للطرفين الحق في العدول عنها في أي وقت ، وتظل تواعدا بالزواج وليست زواجا بشروطه وأركانه .
إضافة إلى الصيغة التي جاءت بها المادة 156 في تعرضها "للظرف القاهر" الذي حال دون توثيق "عقد الزواج"!!، وهي نفسها الصيغة الموجودة بالمادة16 من مدونة الأسرة ، فما هو هدف المشرع وغايته من حشر هذه الصيغة المتعلقة بتوثيق عقد الزواج في الخطبة ؟ ناهيك عن ضرورة اشتهار الخطبة بين الأسرتين، وموافقة ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء؛
والشهرة وموافقة الولي عند الاقتضاء، هي من شروط عقد الزواج كما أنها صيغ وردت في مواده ، خاصة نوعه المعروف عندنا " بالفاتحة "وهو زواج شرعي تترتب عنه كل آثاره .
كما أن المشرع في المادة 9 من مدونة الأسرة تعرض لتقديم الخاطب الصداق أو جزءا منه ، والمعروف فقها وعرفا أن الصداق شرط لعقد الزواج وليس شرطا في الخطبة ، ونعتقد أن المشرع في هذه المادة كان ربما يمهد في نظرنا المتواضع لخلق أرضية لا تثير الاتجاه المحافظ وتحمل الخطبة مفهوما أقرب للزواج غير الموثق منه إلى الخطبة التي تظل تواعدا بالزواج وليس زواجا ،وبالتالي سهولة تقبل نسب الحمل الناتج عنه إلى الخطيب للشبهة .
وباستعراض الموقف الفقهي العام من الشبهة ، نجده قد قيد من حالات الشبهة وإن أجازها لرد الحد، بينما نجد المشرع المغربي قد توسع في مفهومها وحدد لها شروطا لتستوعب الحمل الناجم عن الخطبة حتى لا يعتبر سفاحا.
والخطبة لمن يريد التعمق في الموضوع لا تدخل في حالات الشبهة التي تعرض لها الفقهاء ، إضافة لما يتبين من المادة 156 من أن هاجس حماية الحمل وحماية الأطفال كان وراء اعتماد المشرع لااتجاه الفقه القديم في الإقرار الذي يعتبر موجبا للحوق النسب.
لذا يمكن القول إن المشرع بهذه التركيبة الشاذة بين الخطبة والزواج لم يشرعن السفاح، ولكنه حاول إرضاء الاتجاهين، الحداثي والمحافظ، على حساب وضوح وشفافية النص وتركه عرضة للتأويل ، الأمر الذي قد يحيد به عن الهدف بتمرير آثار خطبة لا تتوفر على شروطها حماية لسمعة المخطوبة من طرف والديها ، حتى ولو ولم يكن لهما بها علم،وكانت "خطوبتها" قبل اكتشاف الحمل علاقة غير شرعية .
ومن وجهة نظر متواضعة ، نرى أن المادة 156 تتعلق بزواج غير موثق وليس بالخطبة التي تظل تواعدا بالزواج لا يرقى لمرتبة العقد، وذلك لإرضاء الاتجاه الحداثي من جهة( حماية الطفل ) ، وعدم إثارة حفيظة الاتجاه المحافظ من جهة أخرى ( خطبة تتوافر فيها شروط الزواج الشرعي ) ، وما إسباغ المشرع على الخطبة صفة الشبهة والتوسع في شروطها إلا نهج مبالغ فيه لإخفاء هذا الالتفات حول المصطلحات ، وسيظل مثيرا للعديد من الإشكاليات ، والعديد من التساؤلات حول الطريقة التي اعتمدت في هذا النص، والاتجاه الفقهي الذي تم الرجوع إليه فيه ، خصوصا في غياب تحديد المصطلحات تحديدا سليما، وفي غياب الأعمال التحضيرية للمدونة.
كما يحق لنا التساؤل أمام كل هذا ، حول ما إذا كان من حق المخطوبة أن تعتبر بمثابة الزوجة وترفع دعوى ضد الخطيب إذا مارس عليها نوعا من أنواع العنف المعاقب عليه؟ ودافعنا إلى هذا التساؤل ما سيلاحظه كل مهتم عند قراءة مشروع قانون تجريم العنف الزوجي الذي أشار إلى تعريف "المعنف" بأنه "الزوج أو الزوج السابق، الخطيب أو الخطيب السابق".
وهل إذا غاب عنها يمكنها أن ترفع دعوى ضده لهجرها؟
وهل إذا لم ينفق عليها أن ترفع عليه قضية نفقة، والكل يعلم أن النفقة تجب بالزوجية لا بالخطبة ، خصوصا وأن المادة 156 تتعلق بالنسب وليس بتوثيق الزوجية ؟؟؟؟؟
وهل إذا طلبت من "الخطيبين" وثائق تثبت شرعية علاقتهما لأسباب مختلفة، وأمام عدم وجودها ، ألن يتعرضا للمتابعة بتهمة الفساد إلى حين إثبات العكس وما يستتبع ذلك من تشويه لسمعتهما ؟
فلماذا لا يخطو المشرع المغربي خطوة جريئة ويعيد النظر في المادة 16 التي سينتهي التمديد فيها قريبا ، وكذا المادة 156 وما تحمله من غموض، بوضع مادة شاملة لإثبات النسب وسماع دعوى الزوجية معا ،مع اعتماد شروط لتطبيقها تضمن عدم التحايل وتمرير زيجات القاصرين أو التهرب من إذن القاضي في منح رخصة التعدد كما تبين ذلك أثناء التطبيق ، خصوصا إذا علمنا أن المادة 16 وضعت أساسا لسماع دعوى الزوجية في حالة عدم توثيق عقد الزواج بسبب " الظرف القاهر " لضمان الحقوق القانونية الناتجة عن عقود الزواج . وهو ما سيتم غالبا في حالة الحمل الناجم عن الخطبة ونسبه للخطيب ، بتوثيق الخطيبين لزواجهما واعتماد " الظرف القاهر " في ذلك ، خصوصا وأن بعض المحاكم سجلت تساهلا مفرطا في مفهوم الظرف القاهر لدرجة أصبحت كل دعوى ترفع لسماع الزوجية تنتهي بالتوثيق ، في الوقت الذي تتشدد قلة من المحاكم في مفهومه ما جعل الأحكام متناقضة فيما بينها ويتطلب تدخلا حاسما من طرف المشرع ، خصوصا وأننا الآن أمام ارتفاع ظاهرة خطيرة وهي"المساكنة غير الشرعية" وتناسلها خاصة في المدن الكبرى ، فكيف سيتم تطويقها والقضاء عليها ؟ وهل سيصبح التساهل في مفهوم الظرف القاهر معبرا لهذا النوع من المساكنة لشرعنته بتوثيقها أو شرعنة الحمل الناجم عنها عندما يتعرض أصحابها للمتابعة بتهمة الفساد ؟؟؟؟
الحقيقة أن الإبقاء على هذا الخلط سيدفعنا إلى التهافت وإلى إثارة اللغط حول مدونة الأسرة ويشكك في مرجعيتها المستمدة من ثوابتنا، وهو ما تخوف منه المشرع دون شك باستبعاد ذكر الاتفاقيات الدولية من المرجعية الأساسية للمدونة في المادة 400، حتى لا يتهم بتأثره بالغرب، فإذا به يواجه الآن بسبب صياغته المتناقضة في هذا النص بما تخوف منه.
وعليه ، فقد حان الوقت لإعادة النظر في هذا النص القانوني، بتوضيح الهدف منه وفلسفته، خصوصا في غياب صدور الأعمال التحضيرية لمدونة الأسرة حتى الآن للوقوف في وجه المعترضين على النص وعلى المدونة ككل، وهو تجن لا سند له، خصوصا إذا علمنا أن جل المستجدات لها سند شرعي في الشريعة الإسلامية وليست خضوعا لجهة دولية معينة.
فإذا استثنينا المادة 54 المتعلقة بحقوق الطفل والمستمدة من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل ـ مع أن ما جاء بها يوافق حماية الشريعة الإسلامية للطفل قبل أن تقررها الاتفاقيات الدولية ـ فإن باقي المستجدات لمن يهمه أمر البحث والتنقيب في بطون كتب الفقه الإسلامي يستطيع بشيء من الجهد أن يجد سندها في الفقه الإسلامي، ولا مبرر للتحامل عليها وتعليق مساوئها على مشجب تأثير تشريعات الغرب على قوانيننا، بل إن ما يجب مواجهته بواقعية هو ترسخ الموروث الثقافي وتشييء المرأة والنظر إليها بدونية ومقاومة كل ما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة وعدم الإضرار، وهي الأسس التي تعتمدها الشريعة الإسلامية في مبادئها الكلية قبل أن تعرفها الاتفاقيات الدولية.
هذا الاتجاه المتحامل على المدونة، المتغافل عن أسباب أخرى تشكل العائق الحقيقي أمام تطبيقها، كثقل الموروث الثقافي ونقص التربية وضعف الوازع الديني في العلاقات الأسرية، إضافة إلى إكراهات الجانب الاقتصادي والاجتماعي، يبدو في تصاعد قد يؤثر على إشعاع نص قانوني حظي بتنويه وإجماع وطني ودولي. لذا على المشرع المغربي أن يتخذ خطوة جريئة لتوضيح موقفه من بعض المستجدات التي أثارت إشكاليات على أرض الواقع من قبيل المادة 156، ونبذ الالتفاف حول المصطلحات وتحميلها فوق ما تحتمله بتوضيح الغاية من هذه الصيغة .
§تحديد سن الزواج في 18 سنة، والإذن بزواج الأقل من ذلك "عند الاقتضاء"، أصبح معبرا لزيجات القاصرين دون تحديد حد أدنى لهذا الاستثناء. وهكذا تحول الاستثناء إلى قاعدة كما تشير إلى ذلك معطيات وزارة العدل، حيث يمثل نسبة 10% من نسبة الزيجات، وهي نسبة ترتفع سنة بعد اخرى بدل أن تتراجع، حيث تتم تلبية حوالي 90% من طلبات الإذن بالزواج. وهي مأساة يجب وضع حد لها حماية لشريحة من الطفلات تغتصب طفولتهن بسبب العامل الاقتصادي والاجتماعي لأسرهن أو الخوف عليهن من الانحراف، وهي عوامل يجب أن تتحمل مسؤوليتها الدولة لا طفولة بريئة توضع على مذبح كقربان، رغم ما تدافع به وزارة العدل من أن نسبة زواج القاصرات منخفض، إلا أنه موجود وبحدة في المجتمع القروي، حيث ينخفض السن الأدنى للزواج أحيانا إلى 13 سنة، ويستغنى عن إذن القاضي بقراءة الفاتحة في بعض المناطق القروية بالمغرب. ورغم ما في تزويجهن من خلفيات ذكرناها تجعل أسرهن أمام خيار صعب وهو أخف الضررين، إلا أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لا يجب أن تنهض مبررا أمام الدفع بالطفلات إلى حياة زوجية تفتقد كل مقوماتها، وأهمها الإحساس بالمسؤولية والكفاءة الجسدية لتحمل الزواج وتبعاته، وتجعلهن الشريحة الأكثر تعرضا للعنف الزوجي، إضافة لتعريض حياتهن للخطر بسبب الحمل المبكر.
§ قيود التعدد دفعت بكثير من الراغبين فيه إلى تجاوز الإذن القضائي باستغلال المادتين 16 و 156 من مدونة الأسرة، وهما اللتان تعتبران الآن من القنوات التي يتم بواسطتهما التحايل على القانون في مسألة تعدد الزوجات الواردة في المدونة والتي جعلت من منع التعدد قاعدة وتشددت في شروط الإذن بتعدد الزوجات، لكنها سمحت بتوثيق علاقة الزواج من امرأة ثانية، خاصة عندما يكون هناك حمل، وبذلك يتم الالتفاف على القانون لخرق حقوق الزوجة الأولى باستعمال القانون لغير غاياته وأهدافه وهي الحفاظ على حقوق الزوجة وحقوق الأطفال.
فسلوك بعض الأزواج طريق التحايل والتدليس يعفيهم من طلب الإذن في التعدد، لكنه يعرضهم لجزاءات جنائية عند علم الزوجة الأولى بالأمر وهو ما يجهله أغلبية الأزواج. فلا تجد الزوجة التي تعرضت لهذا التدليس والاحتيال سوى اللجوء إلى الجمعيات النسائية والحقوقية لمساعدتها على إيجاد حل توافقي مع الزوج الذي غالبا ما يرفض الانصياع، ولا يبقى أمامها إلا القضاء لاقتضاء حقها وحقوق أبنائها، أو الصمت على واقع مر لم تستطع النصوص القانونية بثغراتها حمايتها منه، خصوصا إذا علمنا أن جل الأزواج الذين يلجأون إلى هذه الطرق غير القانونية سرعان ما يهملون الزوجة الأولى وأبناءها ويرمون بهم إلى الضياع، سيما إذا تابعتهم الزوجات بتهمة التدليس ؛ والصحافة المقروءة حافلة بهذه الأمثلة من الخروقات والتحايل على النص التشريعي .دون إغفال خرق الإذن القضائي بتجاوزه عن طريق المادة 156 في حالات أخرى تتطلبه .
§ ضرورة إعادة النظر في مفهوم الشقاق وغاياته الشرعية كما وردت في الآية الكريمة: " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ".
فالغاية من التطليق للشقاق في الآية الكريمة محاولة الحكمين إصلاح بينهما إذا بدت بوادر الشقاق أو خيف حدوثه، فأين نحن من هذه الحكمة في الإصلاح ورأب الصدع، بعد أن تحولت مسطرة الشقاق إلى مسطرة فراق مؤكد إلا ما ندر، وصارت قناة وممرا سحريا للعديد من صور التطليق الأخرى التي تستبعدها الأطراف المعنية لصعوبة الإثبات أو طول المساطر وتعقدها، ما يفسر ارتفاع نسبته التي وصلت حسب إحصائيات وزارة العدل لسنة 2010 إلى أكثر من 65%، خصوصا وقد بينت التجربة عدم التفعيل الجدي لآليات الصلح الموجودة الآن، بل وتغييب بعضها كالمجلس العائلي، واتخاذ تدابير وخطوات محتشمة نحو تبني آلية الوساطة الأسرية دون العمل على وضع إطار قانوني لها، كما تجدر الإشارة إلى أنه في حالة رفض الزوجة للتعدد ولم تطالب بالتطليق وإصرار الزوج عليه، تطبق المحكمة من تلقاء نفسها مسطرة الشقاق... وفي هذا خرق لمقتضيات المسطرة المدنية م 3، إذ يتعين على المحكمة أن تبت في حدود طلبات الأطراف ولا يسوغ لها أن تغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات التي توجب على القاضي ألا يحكم إلا بطلبات المعنيين بالأمر.
§ تدبير الأموال المشتركة بين الزوجين؛
وهو مقتضى جديد جاءت به مدونة الأسرة يجد سنده في الفقه الإسلامي فيما يعرف بالكد والسعاية، وليس مفهوما مستوردا من الغرب أو من الاتفاقيات الدولية كما سبق ذكره، أو تميزا منحته المدونة للمرأة كما فهمه أغلبية الرجال ودفعهم لطلب فصم الرابطة الزوجية خوفا من استيلاء زوجاتهم على أموالهم، أو دفع بعض الزوجات في المقابل إلى طلب الطلاق رغبة في تجريد الرجل من ممتلكاته.
فمدونة الأسرة كرست في المادة 94 الاجتهاد القضائي في مجال الكد والسعاية، إلا أن الشكل الذي صيغت به هذه المادة، والحرية التي أعطيت للأزواج من أجل العمل بها أو رفض ذلك، والصلاحية التي منحت للقضاء للتقرير في مصير هذه الثروة في حالة إذا لم يكن هناك اتفاق بين الزوجين، لن يحقق الأهداف المرجوة من هذا المقتضى، إذ لم تسبقه ولم تله أي توعية بمضامينه، مما جعل الأسر المغربية تعزف عن تطبيقه تلقائيا لجهلها بخصوص توثيق الشروط المتفق عليها لتدبير الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية إلا في حالة النزاع وإشكاليات الإثبات المطروحة على أرض الواقع، أو لاعتقادهم بأن هذا العقد الملحق مخالف للشريعة الإسلامية ومستورد من الغرب، أو لجهل الزوجة التي تكد وتسعى بالحقوق الممنوحة لها قانونا. والدليل على ذلك أنه بعد مرور أكثر من سبع سنوات على دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ لم تسجل سوى نسبة ضئيلة من الوثيقة الملحقة بعقد الزواج .
فالمشكل إذن يوجد في عدم وضوح النص، بل في عدم إجباريته بعبارة أوضح، وفي خطأ تأويله، وفي الموروث الثقافي الذي يرفض منح المرأة حقوقها والنظر إليها بدونية تصل إلى حرمانها من نتاج كدها وتعبها.
§إشكاليات تنفيذ أحكام النفقة في الواقع العملي
تشير بيانات وزارة العدل إلى أن التجربة أبرزت إشكالات حقيقية في كيفية تحديد النفقة من ناحية، والكثير من أحكام النفقة لا تجد طريقها إلى التنفيذ، ولا تضمن قوت الآلاف من الأطفال إما بسبب عسر الزوج أو بسبب ظاهرة التملص و اللامسؤولية التي تجعل بعض الآباء يفضلون التحايل على القانون بدل توفير حياة كريمة لأبنائهم، وهذا ما يدعو إلى المناداة بإصدار النصوص التنظيمية لتفعيل صندوق التكافل العائلي الذي دعا جلالة الملك محمد السادس إلى إحداثه في خطاب 10 أكتوبر 2003 أمام البرلمان، والذي صدرت بعض نصوصه التنظيمية وإن لم تبد بعد بوادر تفعيلها ، ونعتقد أ، الأمر يتعلق بالتمويل ، لذا نأمل الكثير من الاتفاقية التي عقدتها وزارة العدل مع صندوق الإيداع والتدبير في أفق تفعيل مقتضيات هذا الصندوق.
§ صعوبة تنفيذ الشرط الاتفاقي بسبب ظروف قاهرة ، أو عوامل خارجة عن الإرادة تجعل الشرط مرهقا لمن التزم به، وآثار ذلك على العلاقة الزوجية واستمرارها. وأكبر مثال على ذلك الفقرة الثانية من المادة 48 من مدونة الأسرة التي تباينت الآراء بخصوص تفسيرها، حيث نصت على أنه:" إذا طرأت ظروف أو وقائع أصبح معها التنفيذ العيني للشرط مرهقا، أمكن للملتزم به أن يطلب من المحكمة إعفاءه منه أو تعديله مادامت تلك الظروف أو الوقائع قائمة، مع مراعاة أحكام المادة 40.
فماذا يعني استثناء المادة 40 من نظرية الظروف الطارئة ؟ هذه المادة التي تنص على أنه "يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها ".
وما هو الحل عندما تشترط الزوجة على زوجها عدم التعدد ويصبح هذا الشرط مرهقا له بسبب ظروف قاهرة كمرضها أو جنونها أو عجزها عن الوفاء بالتزاماتها الزوجية أمام منع واضح له من الاستفادة من مقتضيات المادة 48؟ هل تحال القضية على الشقاق بأمر من المحكمة أم بطلب ممن أرهق بهذا الشرط؟ وهل له الحق في ذلك في غياب نص قانوني واضح ؟ وهل ليس أمام الزوج إلا أن يطلق الزوجة ليتزوج بعد ذلك مع تحمله التبعات المادية للطلاق ومنها التعويض، والكل يعلم أن القوة القاهرة تعدم المسؤولية؟
لا نجد جوابا لهذه الإشكالية، وعلى المشرع أن يتدخل بقواعد واضحة تحل إشكالية الشرط المرهق وكيفية تعديله أو إلغائه إذا جدت ظروف قاهرة تجعل الوفاء به صعبا أو مستحيلا ويعممها على اشتراط الزوجة عدم التعدد عليها .
§ المتعة والتعويض في مدونة الأسرة
ثارت على الساحة القانونية في السنة الأخيرة مناقشات فقهية وقانونية في أعقاب صدور القرار رقم 123 بتاريخ 21/9/2011 الصادر عن المجلس الأعلى( محكمة النقض حاليا ) ، والذي يخلص إلى حرمان كل امرأة طلبت التطليق للشقاق من استحقاق المتعة، بحجة أن المادة 97 من مدونة الأسرة التي تتكلم عن التطليق للشقاق تحيل بشأن المستحقات المترتبة للزوجة عند انفصام الزوجية إلى المواد 83 و84 و85 المتعلقة بالطلاق لا التطليق ـ مع أن الإحالة المذكورة وردت دون تحديد أو تخصيص ـ وهو القرار الذي زكي بتعليق مؤيد للقرار المذكور ، معتبرا هذا التوجه الجديد المعبر عنه، هو الذي يجب أن تسير عليه المحاكم.
وقد تعرض القرار المذكور لانتقاد العديد من المهتمين ، بل اعتبره البعض زلزالا قوض مكسبا هاما جاءت به مدونة الأسرة وهو تمتيع كل المطلقات دون تمييز بين من طلقت بإرادة الزوج أو من طلبت التطليق ، وذلك اعتمادا على المذهب الظاهري في الموضوع .
لذا من الضروري أن يتدخل المشرع بنص واضح يفسر مفهوم الإحالة في المواد 83 و84 و85 لوضع حد للبلبلة التي نجمت عن القرار المذكور والذي قد يؤدي تعميمه على باقي المحاكم إلى الكثير من الإشكاليات التي ستثور عند تطبيقه من قبيل :
ـ إن الإحالة على كتاب الطلاق فيما يتعلق بالمستحقات وترك علامة استفهام أمام مستحقات طالبات التطليق سيدفع إلى تبني ما جاء به قرار المجلس الأعلى وتعميمه على جل المحاكم ، وهو تراجع صارخ لمكسب تم تجسيده لسنوات من قبل المحاكم بمختلف درجاتها قبل صدور هذا القرار ، وهو تمتيع جميع المطلقات دون استثناء، متخليا عن المذهب الشافعي الذي تأثرت به مدونة الأحوال الشخصية والتي كانت تقصر الاستفادة بالمتعة لمن طلقت من جانب الزوج ويحرمها منها إذا كان طلب التطليق من طرفها .
ـ وهل يحق للقضاء أن يتعدى حدود التفسير إلى تعطيل العمل بنص قانوني؟
ـ بما أن المشرع قد رفع المتعة لدرجة التعويض في تعديل 1993 وذلك بإدراج معايير جديدة لتقديرها ،فهل يجوز لطالبة التطليق للشقاق الحصول على المتعة والتعويض معا إذا تبين للقاضي أن الزوج هو المتسبب في الشقاق ؟
ـ وكيف تم تمتيع المطلقات دون تمييز منذ صدور مدونة الأسرة إلى حين صدور القرار المذكور دون أن يفسر النص القانوني بهذه الطريقة ؟
ـ وإذا ما تم تعميم ما جاء بالقرار المذكور على جل المحاكم ...ما مصير الأموال التي قدمت من الأزواج للمطلقات كمتعة لهن عند الطلاق ؟ وهل سيتم استردادها بأثر رجعي ؟؟؟
§ غياب الدقة والتقنية واختلاف المنظومة القانونية المغربية في مجال مدونة الأسرة عن المنظومة القانونية لنفس المجال لدول المهجر ، وخصوصا الغربية منها . ومن أمثلة المشاكل المطروحة في هذا المجال تعذر حضور شاهدين مسلمين لإبرام عقد الزواج وكذا التنصيص على ذلك ضمنه طبقا للمادة 14 من مدونة الأسرة حتى يكون العقد المبرم صحيحا ومرتبا لآثاره . والغالب أن هذا المقتضى لا يتم احترامه ، وهو ما يثيره القضاة والمحامون في العديد من المناسبات .
§ الصعوبات التي تعترض مسطرة الصلح
بالرغم من أن مستجدات مدونة الأسرة جاءت بهدف تفعيل مسطرة الصلح عن طريق الدور الذي يمكن أن يلعبه قاضي الأسرة في النزاعات الزوجية ، فثمة عوامل تؤثر على نجاح هذه المسطرة كقلة القضاة ، مع ما يوازيه من كثرة الملفات المعروضة للبث على أقسام قضاء الأسرة ، حيث أن إجراءات الصلح في مساطر الطلاق أصبحت عاجزة عن تحقيق الأهداف المتوخاة منها للسرعة التي تتم بها ، وغياب متخصصين لمعرفة أسباب الخصام وخلفياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية .
أما تطبيق مسطرة الصلح على المغاربة بالخارج ، فإن مدة إجرائها تطول، وقد تتعدى السنة ، لأن المحكمة المغربية تحيل الملف على القنصلية التي يوجد بها مقر الزوجين ، ويتعقد الأمر أكثر إذا كان مقرهما تابعا لقنصليتين مختلفتين ، إذ أن القاضي المغربي في هذه الحالة يقرر إجراء الصلح بالمحكمة المغربية ، وهذا ما يرهق الطرفين ويعرقل بالتالي مسطرة الصلح ، دون إغفال تغييب المجلس العائلي من هذه الآليات ، حيث سجلت وزارة العدل في إحصائياتها لسنة 2010 ندرة الالتجاء إليه كآلية للصلح صارت شبه حبر على ورق .
§تدخل النيابة العامة بصفتها طرفا أصليا في كل ما يتعلق بقضايا الأسرة ، وهو مقتضى فعال لضمان تطبيق بنود مدونة الأسرة ، لكن يظهر من خلال المواد التي تعرضت لأدوار النيابة العامة ، أن أغلب اختصاصاتها تتمحور حول حالة انعدام النزاع، أي ما هو تنظيمي إداري لا يتطلب حضورها، أو في حالات أخرى الاقتصار على استنتاجاتها ، ولا يتجلى دور النيابة العامة كطرف أصلي إلا في حالات معدودة تهم أساسا طرد أحد الزوجين من بيت الزوجية ، أو كل ما يتعلق بحماية حقوق الطفل .
وحتى في حالة تدخلها عند طرد أحد الزوجين الآخر وإرجاعه، لا نجد توضيحا للمسطرة المتبعة في ذلك ولا تحديد لإجراءات ضمان سلامتها ، دون إغفال الصعوبات التي تواجهها النيابة العامة في هذه الحالات، وتأثير ذلك على كبرياء الزوج وإحساسه بالمساس بسلطته، مما يدفعه إلى تصرفات مؤذية بالزوجة حال رجوعها لبيت الزوجية رغما عنه، وضرورة إيجاد بديل فعال أو اتخاذ تدابير تقي الطرف المطرود من ردود فعل الطرف الآخر عند تدخل النيابة العامة، والحال أن المادة 121 من مدونة الأسرة ، والمتعلقة باتخاذ القاضي لتدابير وقائية حال النزاع من شأنها احتواء هذه الإشكالية ، وفي حال تعذر تطبيقها لعدم توفر حماية عائلية للزوجة المطرودة ، وهي الحالة الغالبة ، يرجع للدولة دور توفير مأوى للزوجات وأطفالهن ، أو تدخل المشرع لتحميل الزوج المتسبب في الطرد مصاريف الإيواء كجزاء على تصرفه المخل بحسن المعاشرة .
III ـ الآفـــــــــــــاق
يتبين مما سبق عرضه أن واقع تطبيق مدونة الأسرة رغم مرور أزيد من سبع سنوات على دخولها حيز التنفيذ مازالت تواجه بعض الإكراهات والإشكالات ، مما يتطلب جهودا مضاعفة من طرف الجميع ، وتوفر الرغبة في الإصلاح وليس الهدم ، وذلك :
ـ بالربط بين النضال من أجل التطبيق السليم للمدونة ، وبين النضال من أجل إصلاح القضاء بتحسين ولوج المواطن إليه ، وترسيخ مفهوم جديد للعدالة ، وهو الورش الضخم الذي يحظى الآن باهتمام الجميع وخاصة المسؤولين عن جهاز العدالة بتعليمات سامية من صاحب الجلالة نصره الله.
ـ الاستمرار في عملية تكوين القضاة في علوم أخرى مثل التواصل وعلم النفس الاجتماعي ، وإعادة التكوين بالنسبة للقضاة القدامى بما يتناسب مع التطورات المجتمعية التي عرفتها الخلية الأساسية للمجتمع ، وتوعية القضاة بأهداف النص وغاياته الأساسية ،
ـ التخفيف من أعباء القضاء بإشاعة ثقافة التسامح والتصالح ، وذلك عن طريق وضع إطار قانوني للوساطة الأسرية ، بل وجعلها إجبارية قبل المرور أمام القضاء كما هو العمل لدى بعض التشريعات العربية كالأردن.، مع إعادة النظر في آليات الصلح الحالية بما يحقق الاستقرار الأسري ويقلل من حالات تفككه، وهنا يبرز دور المهتمين والباحثين والفقهاء والمختصين في الشأن القانوني والقضائي في نقد واقع آليات الصلح الحالية أمام ارتفاع نسب الطلاق والتطليق في السنوات الأخيرة، وآثارها السلبية على الأطفال،
ـ دور المساعدات الاجتماعيات في التخفيف من النزاعات الزوجية وامتصاص الانفعالات الناجمة عن الظروف المشار إليها سابقا ما أمكن ذلك، وهذا يتطلب إصدار قانون منظم لهذا الإطار يجعله يقوم بالأعمال الموكولة إليه على أساس قانوني واضح ، يعتمد التركيز على استحضار مبادئ الشريعة الإسلامية في الرحمة والمودة والمعاشرة بالمعروف ، والتبليغ عن حالات العنف بأشكاله ، حتى تتدخل الجهات المختصة بالزجر والعقاب عند الضرورة ،أو إنهاء علاقة زوجية شرها أكثر من خيرها ، خاصة وأن الأطفال أول من يكون في مواجهة مباشرة أمام صراع غير متكافئ بين الزوجين ، وتداعيات ذلك على تكوين شخصيتهم وطريقة تعاملهم مع الجنس الآخر في المستقبل ،
ـ إيجاد عقوبات بديلة أقرب إلى إعادة التأهيل منها إلى الردع الجنائي، والاستئناس في ذلك بالقانون المقارن، دون إهمال مراجعة القانون الجنائي بما يكفل حماية أقوى للمعنف بإضافة مواد تجرم العنف الأسري عامة والعنف الزوجي خاصة، وذلك عندما يصل حدا لا يفيد فيه الإصلاح أو لا يتناسب مع العقاب البديل ، ويشكل تكراره خطرا على ضحيته، بل وتعزيز كل ذلك بإجراءات حمائية تمنع وقوعه والعمل على التدخل لإيقاف وقوعه إذا كانت أو سبقت ذلك بوادر بإمكانية حدوثه.
ـ توجيه العمل الجمعوي للتوعية واستنهاض القيم الإسلامية في التسامح والتآزر لدى الأطراف المتنازعة، والتدخل الفعال عندما يكون النزاع مصحوبا بأعمال العنف بأشكاله الجسدي والنفسي والجنسي.
ـ دور الإعلام في التوعية بمقاصد التعديل الذي مس قانون الأسرة؛ والذي تبين خلال السبع سنوات ونيف أنه دور قاصر. فباستثناء السنة الأولى التي صحبتها ضجة إعلامية تفتقر للمنهجية السليمة في التوعية، نستطيع القول إن الإعلام المغربي قد فشل في حملة التعريف بمحتوى مدونة الأسرة وفي إطلاع الأسر على حقوقها وواجباتها، سواء لدى الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء إلا ما ندر، الأمر الذي عكس آثارا سيئة على نص هذا القانون وإثارة البلبلة والتشكيك حوله.
لقد كان من المفروض على الإعلام أن يقوم بدوره المنوط به، بأن يتم التعريف بالمقتضيات التي جاءت بها مدونة الأسرة بالطرق الملائمة للمغاربة الموجودين داخل المغرب وكذا للجالية المغربية بالخارج التي انتظرت طويلا الالتفاتة التي جاءت بها المدونة الجديدة للأسرة بخصوصها، مع الأخذ بعين الاعتبار مستواهم الثقافي ونسبة الأمية لديهم، ولن يتم ذلك إلا بوضع استراتيجية متكاملة لعملية التحسيس بمضامين المدونة لمواجهة ردود الفعل المتباينة تجاهها. لذا يجب على إعلامنا بأنواعه الاعتماد على أشخاص ذوي كفاءات متنوعة في هذا الميدان لارتباط مشاكل الأسرة بالقانوني والاقتصادي والاجتماعي والديني والنفسي والطبي.
ـ مسؤولية الجهات المختصة ورجال الدين من فقهاء وعلماء في العمل على غربلة مقتضيات الشريعة من ترسبات التقاليد والموروثات والعادات التي اكتسبت، بفعل الوقت، قوة أكبر بالمقارنة مع بعض النصوص الشرعية.
ـ مراجعة بعض النصوص وتعديلها بما يضمن استقرار الأسرة بالشكل المرجو من هذا التعديل، وخصوصا تلك التي أثارت إشكاليات على أرض الواقع أو ساهم تأويلها الخاطئ في الرفع من الفرقة أو كانت صياغتها غامضة مما أدى إلى إهمال تطبيقها وضياع حقوق أصحابها، أو جاءت فضفاضة وغير ملزمة والتي تم التعرض لبعضها أعلاه .
ـ أما فيما يتعلق بزواج القاصر فنقترح التنصيص على إجبارية الخبرة والبحث الاجتماعي، وتوحيد العمل القضائي حتى يصبح زواج القاصر بالفعل، استثناء بجميع المقاييس في أفق القضاء عليه، واتخاذ إجراءات زجرية في حق الولي الذي يثبت ضده أنه زوج من يتولى أمرها قبل السن القانوني، دون اللجوء إلى طلب إذن المحكمة، ووضع عقوبات تأديبية لمن ثبت أنه منح الإذن لأقل من 18 سنة، أو التدخل تشريعيا لوضع حد أدنى للزواج وهو 17 سنة ، أو اتخاذ الخطوة الشجاعة بإلغاء الاستثناء وهذا ما انتبهت إليه العديد من التشريعات العربية التي حسمت في الأمر وحددت سن الزواج في 18 سنة فقط.
ـ التفكير في حل جذري لفئة كبيرة من الأطفال لن تستفيد من المادة 156 من مدونة الأسرة، وهم الأطفال الناتجون عن زنا المحارم أو الاغتصاب أو العنف الجنسي كيفما كان نوعه؛ هؤلاء الأطفال المرشحون لأن يكونوا الفريسة السهلة للمستغلين لظروفهم لغايات عديدة تثيرها المنظمات المهتمة بحقوق الطفل وطنيا ودوليا، ويعرضهم لكل أشكال الحرمان والهجرة السرية والانحراف عندما يكبرون.
ـ استنطاق الإحصائيات التي أشرفت على إعدادها وزارة العدل، حيث نشرت وزارة العدل أرقاما ونسبا لحصيلة سنوات من التطبيق الفعلي لمدونة الأسرة آخرها إحصائيات 2010، تحمل دلالات كبيرة وتمثل مادة خاما بالنسبة للدارسين والمهتمين والمتتبعين. وهي أرقام يجب استنطاقها من الناحية القانونية والعملية واستشراف ارتفاع نسبها أو انخفاضها اعتمادا على المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني والأخلاقي.
ـ إنشاء محكمة لقضاء الأسرة بدلا من الاكتفاء بأقسام لقضاء الأسرة والتي غالبا ما تعرف اكتظاظا مهولا يعرقل الوصول إلى إصلاح ذات البين بين الأزواج، بل يؤدي إلى تعنتهما وارتفاع حدة الخصام بينهما.
ـ ضمان سرعة معالجة الملفات المتراكمة باحترام الآجال وضمان حسن تنفيذ الأحكام.
ـ الرفع من مستوى التوعية بفلسفة المشرع وراء هذه المستجدات، والتي تتلخص فيما عبر عنه صاحب الجلالة بعدم تحريم حلال أو تحليل حرام، وضمان حماية حقوق المرأة والأطفال وصيانة كرامة الرجل.
ـ الاستمرار في الجهود المبذولة لتلافي الإشكاليات التي نجمت عند تطبيقها قانونيا وعمليا، والحفاظ على إيجابيات هذا المكسب الوطني بالعمل الممنهج والمستمر وفق خطة واضحة تشارك فيها جميع الجهات المختصة.
ـ دور النظام التعليمي في زرع ثقافة حقوق الإنسان لدى الطفل منذ مراحل تعليمه الأولية وتحفيزه على التعاطي مع مبادئ المساواة وتفادي الإضرار بالغير واحترام الآخر دون تمييز جنسي، وإعادة الاعتبار لمنظومة القيم لدينا المبنية على الود والرحمة والتعامل بإحسان.
ـ إدماج الاتفاقيات الدولية في مرجعية مدونة الأسرة ووقف مغالطة استبعادها لتلافي رد فعل الاتجاه المحافظ كما نعتقد، وذلك بتوضيح موقعنا كبلد منخرط في المنظومة الدولية من مرجعيتنا الإسلامية التي تصدرت ديباجة الدستور، والحسم بأفضلية التشريع الداخلي أو الاتفاقيات الدولية كما فعلت العديد من الدول.
ـ اعتماد الاجتهاد التنويري الذي يراعي روح الإسلام ومقاصده، ويأخذ بعين الاعتبار تطور المجتمع وتحدياته، وذلك بتجاوز الاجتهادات الفقهية المتشددة بفعل هيمنة العادات والتقاليد، واعتبار الزواج نظام تشارك وتشاور وتساكن وميثاق غليظ، وليس عقدا يخول الزوج سلطات تمس بإنسانية المرأة وكرامتها ويحصر أدوارها في الاستمتاع والإنجاب وخدمة البيت وتأديبها بالضرب إن لم تطع أوامره، وتوعية الزوجة في المقابل بأن إلغاء مفهوم الطاعة والقوامة لا يعني أبدا المساس بكرامة الزوج والتعنت في معاملته، فكلاهما يكمل الآخر على أساس من الاحترام والرغبة في الاستمرار والتشارك في تربية الأطفال.
إن مجمل الملاحظات أعلاه تبرز بوضوح الفراغ الهائل في التوعية بمضامين مدونة الأسرة وفلسفتها، ومدى تطبيق روح نصوصها، وإلصاق النتائج السلبية التي تكشف عنها الإحصائيات بها وحدها، كجسم قانوني جاء لينظم العلاقة الأسرية على أسس من العدل والمساواة ـ وإن أثبت الواقع المعيش وجود ثغرات في نصوصه أو صعوبات في تطبيقه أو نقص في آليات تفعيله ـ وذلك بإغفال عدة عوامل أهمها التربية والوازع الديني والجانب الاقتصادي والاجتماعي للمخاطبين بها ومدى وعيهم بمضامينها، وأن القانون والقضاء مهما صلحا وتطورا فلن يكونا سوى عنصرين يكملان باقي العناصر الأخرى، ولن يفلح وجودهما وحدهما مهما تقدمت آليات تفعيلهما في غياب الأخرى.