تمة ثلاثة ملاحظات تفرض نفسها عند الحديث عن المسالك النظرية لأفاق الجامعة.
الملاحظة الأولى. تتمثل في أن النقاش العمومي حول الجامعة والمسألة العلمية ليس وليد الزمن الراهن وإنما يعود إلى فترات عريقة من تاريخ المغرب، بالرغم من أن النقاش قبل وبعد الاستقلال انحصر في مجالات طبقية ونخبوية همت العلماء وفئة الطلبة ومراكز القرار السياسي . فالأزمة التي يعاني منها قطاع التعليم العالي والبحت العلمي هي أزمة ترجع إلى أسباب تاريخية وسياسية وموضوعية وليست أزمة ظرفية عابرة حيث سيبقى خطاب الأزمة لصيق بهذا القطاع ، فخطاب التأزم, يتجدد في كل مرة وحسب الظروف . وهنا أشير إلى بعض الجوانب التي تحدد طبيعة النقاش التاريخي حول الجامعة.
_ الجانب الاول ارتبط باستقلالية الجامعة حيث لم يكن النظام السياسي أو ما يعرف آنذاك حسب المصطلح المتداول في الأدبيات المؤسسة للسوسيولوجيا السياسية والأنتربولوجيا السياسية بالمغرب بمفهوم المخزن، لم يكن هذا الأخير يقدم إعانات مالية لجامعة القرويين ،بل كانت تحصل على مواردها المالية من الأوقاف أو لصالح علمائها، وكثيرا ما كانت تلتجئ سلطات المخزن إلى الاقتراض من إدارة القرويين ،حيث
مثلا بلغت ميزانية القرويين في عهد الموحدين مليون وستمائة ألف درهم ،وكان يخصص وقف خاص لكل عالم أي منصب مالي لكل عالم، الشيء الذي كان يعود على علماء القرويين بالسعة في الرزق مما يجعلهم يتفرغون لمهامهم التعليمية.
_ الجانب الثاني. يتعلق بحرية العلماء والطلبة بالرغم من إشراف قاض مدينة فاس على تعيين العلماء و إدارة ميزانية القرويين ،فان العلماء حافظوا على حريتهم في مجال التدريس، بل أكثر من ذلك كان العلماء بمثابة فاعل رئيسي في المشهد السياسي، فمثلا المولى عبد الحفيظ بويع أولا بمراكش ولكن الأمر لم يتم له إلا بعد بيعة مدينة فاس وجامعتها الكبرى. كذالك الطلبة كانوا يتمتعون بحرية نسبية خاصة فيما يتعلق باختيارهم للعلماء الذين يحضرون دروسهم ، واختيارهم للوقت المناسب كما كانوا يتمتعون بحرية الولوج إلى الجامعة والخروج منها.
يرجع تاريخ تدخل" النظام السياسي" في إدارة جامعة القرويين إلى عهد الملك سيدي محمد بن عبد الله الذي اصدر منشور إلى قاض مدينة فاس السيد التاودي بن سودة يحدد فيه المواد التي يجب تدريسها مستبعدا غيرها ،وهذا التدخل كان يسعى أساس إلى التوجيه الإيديولوجي لخريجي الجامعة والتحكم في مسار التغيير.
لما جاء الحسن الأول ،أصبح يعين العلماء بدل قاض مدينة فاس مما انعكس سلبا على مرد ودية جامعة القرويين ، وتأثرها بالأزمة السياسية والمالية التي احتدت مع بداية القرن العشرين . وقد ساء وضع العلماء وانخفض عددهم من 425 سنة 1830 الى 101 سنة 1908 وحجزت رواتبهم بعد ذلك.
وهذا ما قاد إلى بروز اقتراحات إصلاحية في إطار الحركة الدستورية الإصلاحية حيث خرج مشروع الدستور الذي وضعته جماعة لسان المغرب الذي يهدف إلى تنظيم التعليم وعصرنته.
الملاحظة الثانية. وهي مكملة للملاحظة الأولى مفادها أن هناك شبه إجماع من لدن المسؤولين والمقررين والفاعلين والباحثين على مختلف مراتبهم بوجود هذه الأزمة . والاقتناع بضرورة الإصلاح ،لكن الخلاف يبقى قائما حول طبيعة مدخلات الإصلاح الشمولي.
أما الإصلاحات الجزئية التي انفردت بها الإدارة المركزية والوزارة الوصية بوضعها فلم تزد الوضع إلا تعقيدا وسوءا.
وهنا يمكن الإشارة إلى مسلسل التقويم الهيكلي الذي شرع في تطبيقه مع بداية الثمانينات بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية المانحة بالرغم من رفض رؤساء الشعب والنقابة الوطنية للتعليم العالي ومعارضة شديدة من لدن الطلبة باعتباره إصلاحا جزئيا (مرسوم 18 يناير 1991 المتعلق بالإصلاح التربوي وبالتعليم العالي والبحث العلمي) .
_ تعذر صدور ميثاق وطني للتعليم
الميثاق الوطني لتربية والتكوين
التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم لسنة2008
تقرير البنك الدولي حول التنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2007 _2008 وإطلاق ما سمي بالبرنامج الاستعجالي.
التصريح الحكومي المؤرخ في 24اكتوبر 2007،حيث التزم فيه الوزير الأول بإعداد مخطط استعجالي .
البرنامج الحكومي لسيد عبد الإله بنكيران الذي يهدف إلى تطوير منظومة التعليم العالي وتوسيع طاقاته الاستيعابية وتحسين جودته .
الملاحظة الثالثة. ترتبط بالفورة إلى يعرفها النقاش العمومي حول التعليم العالي ،والتي تظهر في منابر متعددة ،بعضها جديد كل الجدة مثل مواقع التواصل الاجتماعي كالفايسبوك والتويتر واليوتيوب ، والى كون بعضها على الأقل متحرر من أشكال الرقابة التقليدية القبلية ،كل هذا فتح المجال لتنوع واسع في أشكال التعبير عما يحس بله المواطنون بشكل عام والطلبة والأساتذة بشكل خاص . هذه الحرية لم تهم فقط التوجه التعليمي للدولة والبرنامج التعليمي للوزارة الوصية ، وإنما اتسعت لتشمل محاور جزئية ، كالنقاش حول تدبير رؤساء الجامعة وعمداء الكليات وبعض مسئوولي سلك الماستر وبعض التخصصات . وبالتالي أصبحت هذه المواقع الاجتماعية ،والتي يعتبر الطالب محورها الرئيسي تساهم بشكل قوي في عقلنة ومراقبة السياسة العمومية التعليمية ،وطرح بدائل تسعى لإيجاد مخارج للحالات التي تعرفها الجامعة في المغرب.
على ضوء هذه الملاحظات ،يمكن أن نتساءل عن الملامح الكبرى والخطوط العريضة للمسالك النظرية لأفاق الجامعة؟
المسلك الأول .العقل الأستراتيجي
إن التخطيط هو المرأة التي ينعكس عليها مستقبل الدولة وهنا يمكن الإشارة إلى التخطيط التربوي بصفة عامة ، وتخطيط التعليم العالي والبحث العلمي بصفة خاصة، ولكي يكون هذا الاخير فعالا، لابد وأن ينبني على مقاربة تشاركية تجعل الطالب محورها الجوهري ،بالإضافة إلى ذلك ،لابد وأن يكون التخطيط قادرا على التنبئ بشكل موضوعي ، و قادرا على التنظير المؤسس علميا وآستشراف المستقبل،
النقاش الدائر حول الجهوية ، المنصوص عليه في الفقرة الرابعة من الفصل الأول من دستور 29 يوليوز2011 الذي ينص على أن (التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة....)
وفي ذات السياق نجد أن أجندة النظام السياسي في المغرب تراهن على نجاح مبادرة الحكم الذاتي، في ظل غياب ربط التخطيط الجامعي بالقطب الجهوي أو ما يسمى بالمركبات الجامعية الجهوية التي تأخذ بعين الاعتبار حاجة الجهة وخصوصيتها إلى الأطر الصغرى و المتوسطة والعليا ، بمعنى تطابق مخرجات التعليم الجهوي مع احتياجات سوق العمل المحلية ،و في ظل غياب قانون إطار يوضح إنشاء المؤسسات الجامعية يلاحظ أن الدولة مازالت تعتمد على منطق المغرب النافع والمغرب غير النافع، بالإضافة إلى ذلك، فالدولة مازالت رهينة ومقيدة بهاجس المخاطر الأمنية في إنشاء الجامعات وترسيخ سياسة وتشتيت المؤسسات الواحدة إلى حلقات مفقودة (مثلا جامعة محمد الاول وجدة ،جامعة القاضي عياض مراكش,,,).
المسلك الثاني. دمقرطة وحكامة القطاع التعليمي . في ظل النقاش العمومي الدستوري. يطوف على السطح الفصل 31 من الوثيقة الدستورية ل29يوليوز2011و ذلك من خلال التنصيص على"... آستفادة المواطنات والمواطنين ، على قدم المساواة في الحق وفي الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة..."
وعليه،من المفترض أن يكون هناك تكافئ للفرص أمام جميع المواطنين الراغبين ويجب مأسسة بعض الظواهر المخلة لمبدأ تكافئ الفرص كمأسسة ملفات الانتقالات والتسجيلات الخارجة للآجال القانونية , وبالتالي فأفاق الجامعة رهينة بتطوير حاكمتها من خلال إعادة النظر في تدبيرها الإداري.
المسلك الثالث. ضرورة ربط التعيين في مناصب المسؤولية (رؤساء الجامعات ، العمداء ،المدراء )بالكفاءة والنزاهة. تماشيا مع منطوق القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق مقتضيات الفصلين 49و92 من دستور2011.إن التعيين في مناصب المسؤولية ، يجب أن يستند إلى شروط علمية أكاديمية وخبرة إدارية علمية ، بالإضافة إلى النزاهة والقيم الأخلاقية ، وحتى يتم التاكد من توفر هذه الشروط ، لابد من إدخال وإدماج الطلبة ضمن لجنة البت في الترشيحات لمناصب المسؤولية في الجامعة وهذا مايسمى بديمقراطية المجموعة .
المسلك الرابع. ضرورة العودة إلى نظام الإجازة الرباعية ,وإقرار نظام السنة الجامعية بدل نظام السداسيات . نظرا لضعف أستيعاب الطلبة للمقرر المعتمد خلال فترة زمنية وجيزة،وسطحية المعارف ، بالإضافة إلى إعادة النظر في مادة اللغة والتواصل والمعلوميات باعتبارها مواد استنزفت الوقت والمساحات المخصصة من حيث القاعات والمدرجات.
المسلك الخامس.الجامعة الباحثية لعل أخر ما يفكر فيه رؤساء وعمداء الجامعات في المغرب،هو إعطاء الأولوية للمكتبة الجامعية ورصيدها الوثائقي ومقتنياتها من كتب ودوريات وخدمات .
إذا كانت الجامعة قاطرة المعرفة ،فان مكتبات هذه الجامعات تمثل المحرك الذي يجر القاطرة،فالمكتبة الجامعية مطالبة اليوم بتوفير الخدمات التقليدية التي تفتقدها الجامعة المغربية(كتب،مجلات،وثائق...) وفي نفس الوقت توفير خدمات جديدة يفرضها التطور التكنولوجي من قبيل:_ استعارة كتاب أو دورية من جامعة أخرى في المغرب إذا لم تكن مكتبة الطالب الباحث تتوفر عليها ،وذلك عبر اللجوء إلى خدمة الإعارة الالكترونية المباشرة .
المسلك السادس. إعادة النظر في" طابو" المجانية المطلقة: تاريخيا إذا كانت مسألة المجانية قد حالت دون صدور الميثاق الوطني للتعليم ، فان المساواة بين المواطنين غير المتكافئين اقتصاديا هو بحد ذاته إجحاف وحيف وضرب لمبدأ العدالة الاجتماعية ،لذلك وجب دعم ومساعدة الطلبة الفقراء الذين لا يستطيعون الإنفاق على التعليم العالي من خلال دفع مساهمة الأغنياء في دعم التعليم العالي.
تأسيسا على المسالك السابقة المومأ إليها، يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
الخلاصة الأولى: تتعلق بأن تجاوز أزمة نظام التعليم العالي مرتبطة بوضع تصور جديد وشمولي ينبني على إستراتيجية وطنية يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ،باعتبار أن الأزمة شمولية وبنيوية وتحتاج إلى حل بنيوي وجذري .
الخلاصة الثانية. مقتضاها أن نفس الخلاصات التي تتردد دائما في مختلف التقارير على مرة السنوات( كأن الظروف البيداغوجية لا تعرف التطور والنقص في البنيات والتجهيزات والتأطير ...) في حين لا نجد في هذه التقارير مؤشرات ومعطيات تتعلق بالواقع اليومي داخل الجامعة، لا نجد شيئا عن بعض الطلبة الذين يأتون إلى الجامعة فارغي البطون وبالتالي لا يمكن لهم المواكبة والإبداع.
لا نجد شيئا عن الطلبة الذين يأتون إلى الجامعة ولا يحصلون على حي جامعي ولا يتوفرون على منح دراسية،لذلك ينبغي التفكير في الواقع اليومي للطالب ودعمه ماديا ومعنويا .
سيفقد الطالب سيادته المنصوص عليها دستوريا في الفصل الثاني من الوثيقة الدستورية ل 29 يوليوز2011 ، ولاستعادتها يتعين أن يكون متنورا ،و لكي يكون متنورا وجب أن يتلقى تكوينا مناسبا" فنخوبية المعرفة والقوة هما الثديان المغذيان للسلطوية".