مباشرة بعد إقرار التعديل الدستوري لسنة 2011 الذي منح القضاة حق الانتماء إلى الجمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، بادر مجموعة من القضاة ومعظمهم من الشباب، إلى التحضير لتأسيس جمعية ينضوون فيها من أجل الاستفادة من الحقوق التي وردت في الدستور، حيث تم تتويج خطوتهم هذه بالدعوة إلى الالتئام بإحدى المؤسسات العمومية، من أجل انتخاب مكتب مسير للجمعية التي ينوون إحداثها ترجمة لما جاء في الوثيقة الدستورية
لكن أملهم خاب لما منعتهم وزارة الداخلية من التجمع في المكان المحدد رغم استكمالهم لكل الإجراءات القانونية، ورغم المجهودات الكبيرة التي تحمّلها القضاة ومنهم من جاء من مناطق بعيدة عن مدينة الرباط. بيد أن القضاة لم يتوانوا في الدفاع عن حقهم، ولم يتراجعوا عن خطوتهم ،فعقدوا جمعهم التأسيسي في الشارع العام وأفرزوا مكتبا مسيّرا لجمعيتهم، التي لا زالت تؤدي عملها إلى حدود كتابة هذه الأسطر رغم كل العراقيل الخارجية والداخلية، كما باشر بعض القضاة حقهم الدستوري بالانتماء إلى بعض الجمعيات القائمة التي تُعنى بحقوق المواطنين وتهدف إلى رصد واقع العدالة في المغرب. لكن ما الذي حدث حتى أصبح القضاة عرضة للإقالات والتنقيلات التعسّفية والإحالة على المجالس التأديبية بسبب أنشطتهم العلمية أو ممارستهم لحرية التعبير المكفولة دستوريا أو انخراطهم في هيئات مدنية لا هي سياسية ولا هي نقابية؟
ما "جريمة" هؤلاء الذي حاولوا ترجمة بنود الوثيقة الدستورية التي تمس
وضعهم، وأرادوا أن يكون لهم رأي في القوانين التنظيمية التي تتعلّق بمهنتهم؟
الواقع أن بوادر التضييق على القضاة ليست وليدة اليوم، بل قد لاحت مؤشراتها في النص الدستوري نفسه الذي منع على القضاة الانخراط في نقابات من شأنها النهوض بأوضاعهم المهنية وتحسين ظروف عملهم على غرار ما هو موجود في كل الدول المتقدمة، وحتى الدول السائرة في طور الانتقال نحو الديمقراطية، كما هو حال القضاء في تونس. أما المؤشر الثاني فقد تمثل في منع القضاء من تأسيس ناديهم بطريقة عادية، واضطرّهم المنع إلى الوقوف في الشارع العام وكأنهم ليسوا مواطنين مغاربة لديهم الحق في الاستفادة من المؤسسات العمومية.
لذلك نجد ما يحدث اليوم لبعض القضاة الذين يجتهدون من أجل المشاركة في النقاش العمومي حول قضايا لهم فيها رأي، ويحرصون على تقديم صورة جديدة عن القضاة والعمل القضائي للمواطنين المغاربة عكس الصورة المرتبطة بالنظرة السلبية التي ينظر بها المواطن للقضاة المكرّسة منذ عقود خلت، حيث ارتبطت صورة القاضي بالرشوة والقسوة والتعالي وعدم التدقيق في الأحكام والتسرّع وغيرها من الصور النمطية السلبية عن عمل القضاة، كما حاول بعض القضاة النجباء مراكمة المعارف الضرورية لعمل القضاء دون الاقتصار على ما في بطون المدونات القانونية، وإنما استكمال دراساتهم العليا وتحصيل أرفع الشواهد العلمية، والانفتاح على التجارب المقارنة، وهو ما انعكس على بعض القرارات الصادرة عن المحاكم المغربية، التي أصبحنا نلمس فيها نوعا من التطور والمواكبة كما هو حال أحكام العديد من القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها (قضية الفيضانات، منح المرأة السلالية حقها في الإرث...).
لم يقتصر عمل القضاة المجتهدين على تجويد الأحكام الصادرة عنهم، بل حاولوا المساهمة في توعية الرأي العام بخصوص العديد من القضايا، بأن أصبح لبعضهم مقالات دورية يُبرزون فيها مواقفهم من قضايا لديهم فيها رأي بحكم تجربتهم من قبيل المسائل التي تهم القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، والتعديلات المدخلة على القانون الجنائي، والمشاركة في البرامج الاعلامية التي تستهدف توعية المواطنين. كما أتاح الخروج الإعلامي والمدني لبعض القضاة الفرصة للتعرف على المجتمع بشكل جيد وملامسة المقاربات الجديدة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ومطلب المحاكمة العادلة، ونزاهة القضاء، كما أتاح الفرصة أمام أفراد المجتمع المدني للتعرف عن قرب على إكراهات عمل القضاة، وتفهم بعض مطالبهم، مما ساهم في رفع العديد من الحواجز المانعة للمعرفة والتواصل الإيجابي الذي يخدم منظومة العدالة في المغرب.
إلى هنا تبدو الأمور جيدة وفي صالح الجميع، لكن أن تحدث إقالات لقضاة من عملهم، وتنقيلات غير مفهومة، وإحالات على التأديب، وانتقادات وزير العدل للقضاة في وسائل الإعلام، فهذا للأسف ليس مستساغا، سيما وأن الجامع بين جل هؤلاء الذين يتعرّضون للتضييق هو الانتماء إلى "نادي القضاة" أو المساهمة في الحوار العمومي من خلال المشاركة في الندوات وكتابة المقالات والدراسات، كما أن المشترك بين جل هؤلاء –إن لم نقل كلهم – أنهم بعيدون عن الارتشاء والزبونية والفساد وإلا لما كانت لهم الجرأة على المواجهة والتصدي لقرارات التضييق، فالذي يستطيع أن يقول كلمة "لا" ويكون له رأي في ما يحدث غالبا ما يتجنب أي عمل يسيء إلى صورته التي يحرص على أن تكون ناصعة. كما أن السيد وزير العدل الذي لطالما رأى أن هؤلاء يتركون "أعمالهم ويتفرغون لكتابة المقالات" ما كان ليستنجد بهذه التهمة المتهافتة لو أنه وجد أثناء تفتيشه في ملفات القضاة - الذين أصبحت له معهم "معارك" خاصة - قضايا تتعلّق بفساد الذمم، والابتعاد عن النزاهة المفروضة في القضاة.
ختاما يمكن القول: إن المشكلة اليوم ليست مع القضاة الذين يحرصون على ترجمة البنود الدستورية والاستفادة من حقوقهم بصفتهم مواطنين عليهم واجبات ولديهم حقوق، بل مشكلة العدالة في المغرب تكمن في النصوص الدستورية التي لا زالت بعيدة عن تكريس استقلالية القضاء، وفي النصوص القانونية التي تريد أن تجعل من القاضي إمّا آلة صماء لإنتاج الأحكام بصرف النظر عن مضمونها، وإما أداة لمعاقبة من لا ترضى عنهم السلطة، وفي الظروف غير المناسبة التي يزاول فيها القضاة عملهم (ضعف البنية التحتية، عدم تناسب الأجور مع مهنة القاضي، قلة الموارد البشرية، تراكم الأحكام....). أما أن يمتلك بعض القضاة زمام أمورهم، ويعقدون العزم على النهوض بمهنتهم بما في ذلك المشاركة في تجويد النصوص القانونية التي تؤطّرهم، والمطالبة بتحسين أوضاعهم، وانتقاد بعض السلوكات السياسية والسلطوية التي تريد أن تجعل منهم كائنات محنّطة، فإن ذلك أمر يدلّ على حيوية وجدية عمل القضاة الذين أخذوا على عاتقهم التصدي للقيام بهذه المهمة الصعبة التي تستنزف عقولهم وجيوبهم وأوقاتهم . فلو كانوا أرادوا ما هو موجود وواقع فعلا "لساروا جنب الحائط" وغرّدوا لقوانين السلطة وقراراتها وراحوا "يضخّمون أرصدتهم".
لكن أملهم خاب لما منعتهم وزارة الداخلية من التجمع في المكان المحدد رغم استكمالهم لكل الإجراءات القانونية، ورغم المجهودات الكبيرة التي تحمّلها القضاة ومنهم من جاء من مناطق بعيدة عن مدينة الرباط. بيد أن القضاة لم يتوانوا في الدفاع عن حقهم، ولم يتراجعوا عن خطوتهم ،فعقدوا جمعهم التأسيسي في الشارع العام وأفرزوا مكتبا مسيّرا لجمعيتهم، التي لا زالت تؤدي عملها إلى حدود كتابة هذه الأسطر رغم كل العراقيل الخارجية والداخلية، كما باشر بعض القضاة حقهم الدستوري بالانتماء إلى بعض الجمعيات القائمة التي تُعنى بحقوق المواطنين وتهدف إلى رصد واقع العدالة في المغرب. لكن ما الذي حدث حتى أصبح القضاة عرضة للإقالات والتنقيلات التعسّفية والإحالة على المجالس التأديبية بسبب أنشطتهم العلمية أو ممارستهم لحرية التعبير المكفولة دستوريا أو انخراطهم في هيئات مدنية لا هي سياسية ولا هي نقابية؟
ما "جريمة" هؤلاء الذي حاولوا ترجمة بنود الوثيقة الدستورية التي تمس
وضعهم، وأرادوا أن يكون لهم رأي في القوانين التنظيمية التي تتعلّق بمهنتهم؟
الواقع أن بوادر التضييق على القضاة ليست وليدة اليوم، بل قد لاحت مؤشراتها في النص الدستوري نفسه الذي منع على القضاة الانخراط في نقابات من شأنها النهوض بأوضاعهم المهنية وتحسين ظروف عملهم على غرار ما هو موجود في كل الدول المتقدمة، وحتى الدول السائرة في طور الانتقال نحو الديمقراطية، كما هو حال القضاء في تونس. أما المؤشر الثاني فقد تمثل في منع القضاء من تأسيس ناديهم بطريقة عادية، واضطرّهم المنع إلى الوقوف في الشارع العام وكأنهم ليسوا مواطنين مغاربة لديهم الحق في الاستفادة من المؤسسات العمومية.
لذلك نجد ما يحدث اليوم لبعض القضاة الذين يجتهدون من أجل المشاركة في النقاش العمومي حول قضايا لهم فيها رأي، ويحرصون على تقديم صورة جديدة عن القضاة والعمل القضائي للمواطنين المغاربة عكس الصورة المرتبطة بالنظرة السلبية التي ينظر بها المواطن للقضاة المكرّسة منذ عقود خلت، حيث ارتبطت صورة القاضي بالرشوة والقسوة والتعالي وعدم التدقيق في الأحكام والتسرّع وغيرها من الصور النمطية السلبية عن عمل القضاة، كما حاول بعض القضاة النجباء مراكمة المعارف الضرورية لعمل القضاء دون الاقتصار على ما في بطون المدونات القانونية، وإنما استكمال دراساتهم العليا وتحصيل أرفع الشواهد العلمية، والانفتاح على التجارب المقارنة، وهو ما انعكس على بعض القرارات الصادرة عن المحاكم المغربية، التي أصبحنا نلمس فيها نوعا من التطور والمواكبة كما هو حال أحكام العديد من القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها (قضية الفيضانات، منح المرأة السلالية حقها في الإرث...).
لم يقتصر عمل القضاة المجتهدين على تجويد الأحكام الصادرة عنهم، بل حاولوا المساهمة في توعية الرأي العام بخصوص العديد من القضايا، بأن أصبح لبعضهم مقالات دورية يُبرزون فيها مواقفهم من قضايا لديهم فيها رأي بحكم تجربتهم من قبيل المسائل التي تهم القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، والتعديلات المدخلة على القانون الجنائي، والمشاركة في البرامج الاعلامية التي تستهدف توعية المواطنين. كما أتاح الخروج الإعلامي والمدني لبعض القضاة الفرصة للتعرف على المجتمع بشكل جيد وملامسة المقاربات الجديدة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ومطلب المحاكمة العادلة، ونزاهة القضاء، كما أتاح الفرصة أمام أفراد المجتمع المدني للتعرف عن قرب على إكراهات عمل القضاة، وتفهم بعض مطالبهم، مما ساهم في رفع العديد من الحواجز المانعة للمعرفة والتواصل الإيجابي الذي يخدم منظومة العدالة في المغرب.
إلى هنا تبدو الأمور جيدة وفي صالح الجميع، لكن أن تحدث إقالات لقضاة من عملهم، وتنقيلات غير مفهومة، وإحالات على التأديب، وانتقادات وزير العدل للقضاة في وسائل الإعلام، فهذا للأسف ليس مستساغا، سيما وأن الجامع بين جل هؤلاء الذين يتعرّضون للتضييق هو الانتماء إلى "نادي القضاة" أو المساهمة في الحوار العمومي من خلال المشاركة في الندوات وكتابة المقالات والدراسات، كما أن المشترك بين جل هؤلاء –إن لم نقل كلهم – أنهم بعيدون عن الارتشاء والزبونية والفساد وإلا لما كانت لهم الجرأة على المواجهة والتصدي لقرارات التضييق، فالذي يستطيع أن يقول كلمة "لا" ويكون له رأي في ما يحدث غالبا ما يتجنب أي عمل يسيء إلى صورته التي يحرص على أن تكون ناصعة. كما أن السيد وزير العدل الذي لطالما رأى أن هؤلاء يتركون "أعمالهم ويتفرغون لكتابة المقالات" ما كان ليستنجد بهذه التهمة المتهافتة لو أنه وجد أثناء تفتيشه في ملفات القضاة - الذين أصبحت له معهم "معارك" خاصة - قضايا تتعلّق بفساد الذمم، والابتعاد عن النزاهة المفروضة في القضاة.
ختاما يمكن القول: إن المشكلة اليوم ليست مع القضاة الذين يحرصون على ترجمة البنود الدستورية والاستفادة من حقوقهم بصفتهم مواطنين عليهم واجبات ولديهم حقوق، بل مشكلة العدالة في المغرب تكمن في النصوص الدستورية التي لا زالت بعيدة عن تكريس استقلالية القضاء، وفي النصوص القانونية التي تريد أن تجعل من القاضي إمّا آلة صماء لإنتاج الأحكام بصرف النظر عن مضمونها، وإما أداة لمعاقبة من لا ترضى عنهم السلطة، وفي الظروف غير المناسبة التي يزاول فيها القضاة عملهم (ضعف البنية التحتية، عدم تناسب الأجور مع مهنة القاضي، قلة الموارد البشرية، تراكم الأحكام....). أما أن يمتلك بعض القضاة زمام أمورهم، ويعقدون العزم على النهوض بمهنتهم بما في ذلك المشاركة في تجويد النصوص القانونية التي تؤطّرهم، والمطالبة بتحسين أوضاعهم، وانتقاد بعض السلوكات السياسية والسلطوية التي تريد أن تجعل منهم كائنات محنّطة، فإن ذلك أمر يدلّ على حيوية وجدية عمل القضاة الذين أخذوا على عاتقهم التصدي للقيام بهذه المهمة الصعبة التي تستنزف عقولهم وجيوبهم وأوقاتهم . فلو كانوا أرادوا ما هو موجود وواقع فعلا "لساروا جنب الحائط" وغرّدوا لقوانين السلطة وقراراتها وراحوا "يضخّمون أرصدتهم".