MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




استقـلالية النيابة العامّة في المغـرب

     

فريد أمعـضشو



استقـلالية النيابة العامّة في المغـرب
مما لا شكّ فيه أن الجهاز القضائي مكوّن أساسٌ في أي دولة؛ بالنظر إلى الأدوار الطلائعية التي يضطلع بأدائها في مجال تطبيق القانون، وضمان حماية الحقوق والحريات الأساسية. لذا، فقد أوْلَتْه مختلِف المجتمعات الحديثة والمعاصرة اهتماما خاصّا. وتحظى مؤسسة النيابة العامة بموقع متميز وقاعِدي ضمن هذا الجهاز الحيوي، على أنّ فعاليته الحقيقية لن تحصل إلا باستقلاليته الفعلية؛ كما هو الشأن في العديد من الديمقراطيات اليوم. وتعدّ هذه الاستقلالية شرطا رئيساً للمحاكَمة المُنْصِفة؛ كما نص على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان [المادة 10]، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية [م 14]. وقد التحق المغرب بتلك التجارب الديمقراطية، ولاسيما منذ صدور القانون رقم 33.17، الذي تم بموجبه فصْل النيابة العامة عن وزارة العدل؛ فتحقق استقلال السلطة القضائية عن نظيرتها التنفيذية بالفعل تنفيذاً لِما ورد في دستور المملكة الحالي (2011)، وفي القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، وتفعيلا لِما دعت إليه، وأوصت به هيآت وقُوى عدة طالما ناضلت من أجل ذلك الاستقلال. فأين تتجلى استقلالية النيابة العامّة في التجربة القضائية المغربية الحالية، ولاسيما على مستوى تدبيرها وعملها وما تقوم به من إجراءات؟ وما حدود تلك الاستقلالية؟ وما أبعادها وآثارها على منظومة العدالة؟

وقبل محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات المترابطة، يحْسُن بنا التعريف بالنيابة العامة (Le parquet)، وإلقاء نظرة على تاريخها بعُجالة، وبيان مركزها القانوني. فهي تشير إلى نوع من القضاء الخاص، يمثل المجتمع، وينوب عنه في تطبيق القانون، وتحقيق الأمن القضائي، ومحاربة الجريمة، وحماية الحقوق والحريات. وبخلاف مَنْ حاول إرجاع ظهور هذه المؤسسة القضائية إلى العهد الروماني، يذهب أكثر الباحثين إلى أنها نشأت في القرن الـ14م بفرنسا، في عهد الملك فيليب الخامس، وكانوا يُسمُّون أفرادَها بـ"رجال المَلِك"؛ لأن مهمتهم آنذاك كانت تنحصر في تمثيل الملك داخل المحاكم، والنيابة عنه، والدفاع عنه وعن ممتلكاته. وكان هؤلاء الوكلاء يُرافِعون عن الملك الفرنسي، وهم وقوفٌ، على مَبْعدةٍ من الخصوم ومن قضاة الحُكم. ومن هنا، أتتْ تسمية النيابة العامة بـ"القضاء الواقف". وأدْخِل رجالُ الملك، فيما بعْدُ، ضمن تشكيلة هيأة المحكمة. وعرف المغرب هذا الجهاز القضائي منْ جراء احتكاكه بأورُبا، في أوائل العقد الثاني من القرن الـ20، عقب فرْض الحماية عليه؛ وذلك بمقتضى ظهير 12/08/1913، بيد أنه لم يتعدَّ إبّانئذٍ نطاق المحاكم العصرية الفرنسية. وأشارت كلمة سامِيّة ألقاها الملك الراحل محمد الخامس بالرباط، في يونيو 1958، بمناسبة توزيع ظهائر تولية قضاة جُدُد للنيابة العامّة مناصبَهم، إلى الجهاز المذكور باسم "وظيف وكلاء الدولة". ومن المعلوم أن المشرّع المغربي وضع، بعد الاستقلال، قانون المسطرة الجنائية (1959)، مستنْسِخاً إيّاه، بصورة شبه حرفية، من التشريع الجنائي الإجرائي الفرنسي لسنة 1958، ناقِلا منه مهامّ النيابة العامة نقلا متطابِقاً تماماً. وقد أدخلت تعديلات على ق. م. ج. المغربي، همّت جوانب عديدة منه، ضِمْنَها عملُ النيابة العامة، وإجراءاتها، وعلاقتها بالسلطة التنفيذية... والملاحظ أن المسطرة الجنائية المغربية، المعمول بها حاليا، أفردت للنيابة العامة البابَ 3 من القسم 1 من الكتاب 1 المتعلق بـ"التحري عن الجرائم ومعاينتها". وقد أثير نقاش كثير حول المركز القانوني للنيابة العامة، واختلفت الآراء بشأنه اختلافاً تحكّمت فيه جملةُ اعتبارات ومتغيّرات؛ فأيّد بعضُهم قضية تبعية النيابة العامة لوزير العدل استناداً إلى الفصل 56 من ظهير 1974 حول النظام الأساسي لرجال القضاء - الذي أعطى وزيرَ العدل صلاحيات واسعةً في المجال القضائي؛ من حيث تعيينُ القضاة وترقيتهم ونقلهم وتأديبهم وعزلُهم... - مؤكِّدين صعوبة، بل عدمَ إمكانية تنزيل مبدإ استقلالية القضاء عمليّا. في حين دافع آخرون عن استقلالية النيابة العامة عن السلطة التنفيذية؛ كما يتضح من قراءة إحدى توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، وبعض مُخْرَجات الحوار الوطني الموسّع الذي أطْلِق بهدف القيام بإصلاح شامل وعميق لمنظومة العدالة ببلادنا. وقد أكد دستور 2011 هذه الاستقلالية (الفصلان 107 و109)، علما بأنه خصَّ السلطة القضائية بباب كامل، واستقلالَ القضاء ضِمْنَه بستة فصول بَعد أن كان مُشارا إليه بنصّ وحيد فقط في دستور 1996. ورسّخها بوضوحٍ القانون 33.17، الصادر عام 2017، والمتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، وبسَنّ قواعدَ لتنظيم رئاسة هذه النيابة. ومن هنا، فقد حسَم المشرّع المغربي في المركز القانوني لهذه المؤسسة، التي يصفها بعضهم بـ"دولة القضاة"، بأنْ جَعلها مستقلة عن وزير العدل.

وسنتتبّع مظاهر هذه الاستقلالية من الداخل؛ من خلال عمل النيابة العامة ومهامّها، وما يصدر عنها من إجراءات. على أنّ استقلاليتها تلك يمكن رصدها تجاه الإدارة، والقضاء الجالس، وأطراف الخصومة الجنائية. فالنيابةُ العامّة - بوصفها ممثلةَ المجتمع والدولة - تتولى إقامة الدعوى العمومية، وممارستها من خلال الطعون في الأحكام والقرارات والأوامر القضائية الصادرة بشأنها، ومراقبتها إلى نهايتها [المادة 36 م.ج]. كما تتلقى الشكايات والوشايات والمَحاضر [م 40]، وتأمر بضبط المشتكَى بهم وتقديمهم أمام العدالة [م 49]، كما تساهم في البحث والتحري عنهم [م 78]، وتأمر بردّ الأشياء المحجوزة لمن له الحق فيها، وبإرجاع الحالة، في حالة الاعتداء على الحيازة، إلى ما كانت عليه [م 40 - م 49]، وتُشْرف على تنفيذ مسطرة الصلح الجنائي بين المتخاصمين [م 41]، وتُصْدِر أوامرَ دوليةً بالبحث وإلقاء القبض على المجرمين [م 40]، وتأذن بالتسليم المراقَب [2-82]، وتسحب جواز سفر المشتبَه فيه، وتغلق الحدود في وجهه، مدةً من الزمن، إذا اقتضت ذلك ضرورةُ البحث التمهيدي [م 40 - م 49]، وتتخذ التدابير الكفيلة بحماية ضحايا الجريمة [5-82] والشهود والخبراء [6-82] والمبلّغين عن الجرائم [9-82]. كما تشرف النيابة العامة على ضُبّاط الشرطة القضائية التابعين لدائرة نُفوذها، وتسيّرهم، وتراقبهم، وتُنقّط أداءهم [م 45]. ولها سلطة تقديم ملتمَسات؛ كالتماس إيقاف سير إجراءات الدعوى العمومية [م 372]، واتخاذ قرار حفظ القضايا حسب تقديرها [م 40]، وطلب التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجَزة بوسائل الاتصال عن بُعْد وتسجيلها وحَجْزها إذا اقتضت ذلك ضرورة البحث [م 108-116]... إلخ. فمن خلال تأمل هذه الوظائف والمهام، يتبين أن منها ما هو تقليدي، ومنها ما هو حديث أمْلته ظروف مستجِدّة، فرضت توسيع نطاق عمل النيابة العامة، وصلاحياتها.

ونص القانون 33.17، في مادّته الثانية، على جملةٍ من اختصاصات رئاسة النيابة العامة؛ إذ أقرّت حلولَ الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيساً للنيابة العامة، محلَّ وزير العدل في ممارسة الاختصاصات التي كانت ممنوحة لهذا الأخير، والمتعلقة بإشرافه على النيابة العامة، وعلى قُضاتها، بما في ذلك إصدار الأوامر والتعليمات الكتابية القانونية الموجّهة إليهم طبقاً للنصوص التشريعيّة الجاري بها العمل. كما يحلّ رئيس النيابة العامة محلّ وزير العدل في الإشراف على عمل هذه النيابة، ومراقبتها في ممارسة صلاحياتها المرتبطة بممارسة الدعوى العمومية، ومراقبة سَيْرها في إطار احترام مضامين السياسة الجنائية طبقاً للتشريعات الجاري بها العمل، وفي السهر على حُسن سير الدعاوى في مجال اختصاصها، وفي ممارسة الطعون المتعلقة بهذه الدعاوى، وفي تتبُّع القضايا المعروضة على المَحاكم التي تكون النيابة العامة طرَفاً فيها.

وإذا أمْعَنّا النظر في عمل جهاز النيابة العامة، رئاسةً وقضاةً وأعضاءَ، فإننا نلْمَس، بوُضوح، مدى الاستقلالية التي أمسى يتمتع بها في ظل دستور 2011، والقوانين التنظيمية الجديدة ذات الصلة بالقضاء عامة، وبمؤسسة النيابة العامة خاصةً؛ هذه الاستقلالية جعلت أداءَه يتميز بكثير من الفاعلية والنجاعة، وقراراتِه بقدْرٍ كبير من الموضوعية والسّداد، كما ارتقت بعمل قضاة هذا الجهاز درجاتٍ مقارنةً بما كان عليه الأمرُ فيما مضى. وقد عُدّت هذه الاستقلالية مظهرا بارزا لنُضج منظومة العدالة بالمغرب، ومقدمة ضرورية لاستقلالية السلطة القضائية برمّتها عندنا، وخطوة مهمة في طريق بناء دولة الحق والقانون، وضمانة أساسية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم؛ الأمرُ الذي بوّأ قضاءَنا، بصفة عامة، مكانة محترَمة داخليا وخارجيا؛ بحيث صار يُقدَّم، في محيطه الإقليمي والعربي والإفريقي، بوصفه تجربة ناجحة - إلى حدّ ما - في مجال استقلالية النيابة العامة عن السلطة التنفيذية. ولم يتحقق ذلك، في الواقع، إلا بفضْل دعوات ومَطالب ونِضالات، استمرت سنوات طويلة، قادتها قُوى حيّة في البلد؛ من هيآت المجتمع المدني، وفعاليات حقوقية وقضائية، ونخبة مثقفة، وأساتذة باحثين، وأحزاب سياسية، ومنابر إعلامية، وغيرها.

وتثار، بصدد الحديث عن استقلالية النيابة العامة بالمغرب، جملةُ تساؤلات وإشكاليات؛ منها ما يتعلق بتوزُّع مهامّ هذه المؤسسة بين ما هو قضائي وما هو إداري؛ فهي سلطة قضائية خاصة تحرص على تطبيق القانون، وتتوخى صون الحقوق والحريات، وتتمتع بمكانة مميزة ضمن التنظيم القضائي [م 37 م.ج]، مثلما تمثل الدولة سعْيا إلى الحفاظ على استقرار المجتمع وأمْنه، كما يخضع قضاتها لمبدإ التسلسل الرئاسي؛ فيتلقَّوْن التعليمات من السلطة التي يتبعون لها إداريا، والتي تكون غالبا شفوية لِما تتطلبه كثيرٌ من القضايا من سرعة البتّ، وذلك لا يطرح مشكلا ما دامت صادرة عن السلطة التي يتبع لها قاضي النيابة العامة بمناسبة ممارسته مهامه، ولا تخالف المقتضيات القانونية ألبتّة، عِلماً بأنه ملزَمٌ بتطبيق القانون على نحْوٍ سليم تحت إشراف ومراقبة رئيس النيابة العامة ورُؤسائه التسلسُليّين الأعلَيْن [م 1، فق2، من قانون 33.17]، ورغم أن الدستور [ف 110-2] فرض على قضاة النيابة العامة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتْبعون لها. ومنها ما يتعلق بربط مسؤولية هذا الجهاز بالمحاسبة، في ظل وجود مَنْ دافع عن عدم إخضاع قضاتها للمساءلة. وتجدر الإشارة، ها هنا، إلى إمكانية محاسبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية أعضاء النيابة العامة عن الأخطاء المِهْنيّة التي يرتكبونها، وإلى إمكانية تجريح القضاة في بعض الحالات. وأثار بعضهم قضية الرقابة على عمل النيابة العامة، التي فهموا منها عدم تحقق استقلاليتها المأمولة، وكونَها محدودة في حقيقة الأمر، وهي رقابة قضائية إما قبلية عن طريق الإذن أو الإشعار من لدن قضاء الموضوع، وإما بَعدية؛ كما في حالات الصلح التي يتوقف إتمامها على مصادقة رئيس المحكمة الابتدائية، والرقابة على عمل النيابة العامة من خلال مؤسسة قاضي تطبيق العقوبات [م 596]. كما أن ثمة رقاباتٍ أخرى على هذا العمل، وفي طليعتها الرقابة الملكية؛ باعتبار أن "الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية" [ف107-2 من الدستور]، علاوة على الدور الرقابي الذي بات يلعبه الإعلام والمجتمع المدني والنشطاء الحقوقيون على أعمال النيابة العامة وقراراتها، لاسيما وأن القانون قد ألزم رئيس النيابة المذكورة بإعداد تقارير سنوية عن عمل هذه المؤسسة، ونشْرها للعموم في "الجريدة الرسمية"؛ للاطّلاع عليها، وتسجيل ملاحظات ومآخِذ عليها إذا لوحِظ فيه تقصير أو نقص...

إن استقلال النيابة العامة، الذي انطلق بالمغرب رسْمِيّا بتاريخ 07/10/2017، يجسِّد، بالفعل، الرغبة في تحقيق مطلب مهمّ، نُودي به منذ سنوات، من قِبل عدة جهات وفعاليات، وهو استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل بمقتضى قانون 33.17، الذي يمثل الخطوة الأولى الضرورية نحو استقلال القضاء برُمّته، على أنّ هذا الفصل لا يعني إطلاقاً خلق قطيعة بين السلطات والمؤسسات، ولا إلغاءَ التعاون بينها، بل إن هذا التعاون ضروريّ، وهو مبدأ دستوري ثابت، شريطة ألاَّ يُخِلّ بالتوازن بين السُّلط. وعلى الرُّغم من ظهور كتابات، في الآونة الأخيرة، عن استقلالية النيابة العامة، فإنّنا نسَجِّل نقصًا ملحوظا في تلك التي تتناول هذا الجهاز من داخله؛ بالوقوف على كيفية تدبيره، وتتبع عمله ومهامه، ولاسيما الجديدة، وبيان الإجراءات التي يقوم بها في سياق التحرّي عن الجرائم والمُجْرمين، وفي شتى أطوار التقاضي والمحاكمة، وفي أفق تحقيق العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب. وعلى الرغم من كل ما تحقق في هذا الصدد، فإنّ تعزيز مبدإ استقلالية النيابة العامة يظل في حاجة إلى عمل إضافي، وإلى تضافُر الجهود؛ للرقي بأدائه إلى مستويات أفضل نشْداناً للاستقلالية الحقيقية التامّة بين هذا الجهاز وبين السلطة التنفيذية، التي بَسَطت سيطرتها عليه أرْداحاً متطاولة من الز



السبت 27 يوليوز 2024

تعليق جديد
Twitter