تعتبر محطة فاتح يوليوز 2011 بالنسبة للمغاربة عموما، و للمتتبعين للشأن الدستوري و السياسي و كذا الاجتماعي خصوصا، بادرة نوعية بالمقارنة مع شهدته أوضاع دول مجاورة و آلت إليه من تدهور على مستويات. إذا اعتبرنا سلفا أن الأحداث العامة المصاحبة للتغييرات في الأنظمة السياسية لهذه الدول لها أثر في إرساء قواعد حكم وحكامة جديدين، فإن التجربة الدستورية الخامسة للمملكة أسست لتبلور فكر سياسي جديد يقوم على أساس تسوية الملفات بالرجوع إلى النصوص التشريعية و التنظيمية من جهة، و على أساس اختصاص كل مؤسسة دستورية،من جهة أخرى. و الجدير بالذكر أن الحكومة المنصبة بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة ورثت جملة من الملفات المتسمة بالتعقيد و الاختلالات المتباينة، هذه الملفات حضيت باهتمام و تتبع متزايدين من طرف فئة تنتظر التنزيل الواقعي لمضامين الدستور الجديد على مختلف الأصعدة. و يعتبر الصعيدين الاقتصادي و الاجتماعي حاملي الملفات التي ينتظر المواطن المغربي أن تسوى و تنعكس على أوضاعه العامة، لكن بعض الملفات تتسم بنوع من التداخل و التعقيد و تعدد المقررين وغياب أو غموض أو حتى تقادم النصوص القانونية المتعلقة بتقنين هذه الملفات ما يحول دون تقديم تصور و حلول على المدى القصير.
إن التحدي الكبير الذي يواجه أي حكومة جديدة هو تحقيق الإقلاع الاقتصادي و بلوغ مستوى نمو كفيل بوضع حد لتفاقم المشاكل كالبطالة و عجز الميزان التجاري و اقتصاد الريع، على سبيل المثال لا الحصر. و إن الحكومة و البرلمان بمبادرتهما باقتراح قوانين لتنظيم قطاع لم يسبق لقوانين أن نظمته أو لتغيير و تتميم قوانين موجودة، يجب أن يراعيا ما خلفت مقتضيات هذه النصوص من أثار و ما أكسبت من حقوق للغير. هذه المعطيات المختلفة تستدعي تقسيم هذه الورقة إلى مبحثين:
المبحث الأول :مفهوم اقتصاد الريع و الحق المكتسب.
المبحث الثاني : علاقة اقتصاد الريع بالحق المكتسب : مطلب الإلغاء و السيناريوهات المحتملة.
المبحث الأول :مفهوم اقتصاد الريع و الحق المكتسب.
تحتم الضرورة المنهجية قبل كل دراسة أو تحليل لظاهرة ما تقديم تعريف للمفاهيم المؤطرة، بناء على هذا المعطى سيتم في مطلب أول تعريف اقتصاد الريع وبيان مجالاته و عناصره، و في مطلب ثان سيتم تقديم المفهوم القانوني للحق المكتسب و أثاره.
المطلب الأول : مفهوم اقتصاد الريع و عناصره.
يمكن في البداية تعريف اقتصاد الريع بأنه كل تحصيل للأرباح بطريقة غير صحيحة، معتمدا على أداة من أدوات الفساد، و هو انتقاص من الرأسمال الوطني و ليس زيادة و لا استثمارا فيه. و هو بذلك يخلق أيضا خللا في آليات التنافس وتكافؤ الفرص في المجتمع وتطوير الثروة الوطنية. ففي المغرب الذي يهمنا في هذه الورقة، فإن اقتصاد الريع يعتمد على أدوات تختلف عن تلك الأدوات المعتمدة في دول عربية بترولية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن مأذونيات نقل المسافرين و استغلال مقالع الرمال تجني أرباحا دون أن تؤدي مستحقات الضرائب و الرسوم المعمول بها. في السياق ذاته، فمأذونيات النقل و استغلال المقالع بصفة عامة هي إجازة دون وجود مبرر قانوني من التشريع الساري العمل به لبعض الفئات في كراء هذه الرخص للفاعلين الحقيقيين في إحدى هذه المجالات مقابل أجر شهري أو سنوي لا تنظمه مقتضيات تشريعية و لا تنظيمية ولا تراقبه جهة ولا سلطة، و إنما يكون موضوع اتفاق ين المكتري و المكري دون أن يقوم هذا الأخير بأي مجهود استثماري فعلي.
فعلى صعيد أخر، يتميز المغرب بأهمية اقتصاده غير المراقب " Economie Non Observée(ENO) "، و يقصد به حسب التعريف المقترح من طرف مديرية الإحصائيات بالمندوبية السامية للتخطيط (Haut Commissariat au Plan)كل الأعمال الاقتصادية صعبة المراقبة، هذه الأعمال يمكن تجميعها ضمن ثلاثة أصناف أساسية هي بصورة مختصرة :
• الاقتصاد غير المشروع " L'économie illégale " : يقصد به جملة الأعمال الاقتصادية المنتجة المحرمة قانونا كتجارة المخدرات و الدعارة و بيع الأعضاء البشرية، إلخ؛
• القطاع غير المنظم " Le secteur informel " : هذا القطاع يجمع كل الوحدات الاقتصادية التي لا تخضع لنظام محاسباتي كامل و بادر المكتب الدولي للشغل(Bureau International du Travail) من جهته بصياغة تعريف إحصائي للقطاع غير المنظم، وهو القطاع المتكوّن من وحدات اقتصاديّة صغيرة جدّا تنتج منافع وخدمات بهدف خلق الشغل وضمان الدّخل. وهي تشترك في عدد من الخصائص التي من بينها الحجم المتواضع لرأس مالها، وندرة اليد العاملة المؤهّلة لديها، ودرجة نفاذها المحدود للأسواق المنظّمة وللتّكنولوجيا، ومداخيلها الضّعيفة وغير المنتظمة؛
• الاقتصاد الخفي " L'économie souterraine " : ينصرف إلى كافة الأعمال الاقتصادية المشروعة التي لا يتم الكشف عنها للسلطات الضريبية و التي قد تدخل ضمن حساب الناتج الداخلي الخام (Produit Intérieur Brut) كجرائم التهرب الضريبي التي تندرج ضمنها عائدات اقتصاد الريع بما فيها عائدات تأجير المأذونيات وعائدات استغلال المقالع بمختلف أنواعها، بل و إن الأمر لا ينحصر عند هذه النقطة، أي أنه و في إطار ما يسمى بالاقتصاد الموازي تبرم صفقات غير مراقبة قانونيا و ماليا و هو ما يخص على سبيل الذكر أعمال رخص أعالي البحار. على هذا الصعيد، فإن خزينة الدولة تتحمل خسارة بملايير الدولارات من جراء هذه الأعمال الاقتصادية السرية.
و فيما يخص قطاعات الريع و مجالاته، فإنه يستمر في عدة قطاعات حيوية كالنقل و السكر و الزيت و العقار، و تمتد مجالاته إلى تفويت أراضي لشركات معينة لأغراض فلاحية أو للتعمير و إلى منح تصاريح الصيد و مأذونيات النقل بأنواعه و إلى تسعير ماء السقي و إلى سعر احتساب فاتورة الكهرباء و إلى سن الإعفاءات الضريبية في قطاعات اقتصادية كفيلة بضمان مداخيل هامة لخزينة الدولة.
يمكن القول إجمالا أن اقتصاد الريع، باعتباره عائقا للاقلاع الاقتصادي بامتياز، يعد انشغالا حديث العهد لدى الأوساط المعنية و المتتبعة سواء من الأغلبية الحكومية أو من المعارضة. هذه الأخيرة تؤكد على ضرورة محاربة هذا الخلل الاقتصادي و ليس فقط الاكتفاء بنشر لوائح المستفيدين كما هو الشأن بالنسبة لرخص النقل البري و استغلال مقالع الرمال و التفتيت. على هذا الصعيد، يجب العمل على ضمان الحقوق الفردية و الحقوق العامة و معالجة هذا المشكل في إطار قانوني أو بعبارة أخرى في إطار عدم جواز مساس قانون جديد بالحقوق المكتسبة، و إلا كان ذا أثر رجعي فيمتنع تطبيقه. فما هو الحق المكتسب؟ و ما هي أثاره القانونية؟
المطلب الثاني : مفهوم الحق المكتسب و أثاره.
على الرغم من انتشار و تداول مفهوم الحق في الحقل القانوني إلا أنه يبقى غامضا و منتقدا إذا اقترن بالمكتسب في إطار عدم رجعية القوانين، فأصحاب النظرية التقليدية في التصدي لمشكل تنازع القوانين في الزمان، من جهة، عملوا على التفرقة بين الحق المكتسب و مجرد الأمل. فعند البعض من أنصار هذه النظرية يعتبر حقا مكتسبا الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائيا بحيث لم يعد في الإمكان لا نقضه و لا نزعه دون رضاء، فلا يمكن أن تعترض له قوانين جديدة. و هو بالنسبة للبعض الأخر الحق الذي يقوم على سند قانوني و يخول صاحبه مكانة المطالبة و الدفاع عنه أمام القضاء. و أما مجرد الأمل، بصورة مختصرة، فهو عندهم مجرد ترقب و رجاء لدى الشخص في أن يكتسب في يوم من الأيام حقا من الحقوق و قد يأتي ذلك اليوم مخيبا لذلك الرجاء. و في السياق نفسه و لتوضيح مفهوم الحق المكتسب و ربطه بموضوع الورقة، يمكن القول أن مجموع المستفيدين من مأذونيات النقل البري على سبيل المثال، على صعيد المملكة، أصبحوا أصحاب حقوق قائمة على سند قانوني بالرجوع الى الجهة أو السلطة التي منحت هذه المأذونيات. كما لا يمكن أن يعترض لها قانون جديد بالحبس و الإلغاء أو بالنزع كرها أو بالمنع من ترتيب آثار مالية لفائدة الفئة المالكة دون مزاولة فعلية للنشاط الاقتصادي.
و من جهة أخرى، و نظرا للانتقادات التي حطمت الى حد ما أسس النظرية التقليدية السالفة الذكر ظهرت النظرية الحديثة لمبدأ عدم رجعية القوانين، فطبقا لمضمون هذه النظرية يتحدد نطاق تطبيق قانون جديد بالنظر الى وجهين :
• وجه سلبي : يتجلى في انعدام الأثر الرجعي للقانون الجديد و عدم امكانية سريان مقتضى من مقتضياته على ما رتب من آثار قانونية؛
• وجه ايجابي : إجمالا، يتمثل في الحافز المباشر لهذا القانون، أي أن هذا الأخير يسري على ما سيقع بعد نفاذه فلا يكون ذا اثر رجعي على ما ترتب من آثار وإنما يمس ما نشأ أو انقضى من المراكز التي رتبها القانون القديم على الوقائع القانونية التي تمت في ظل القانون الجديد.
انطلاقا من اللمحة المختصرة التي تناولت مضمون النظريتين التقليدية و الحديثة لعدم رجعية القانون، يتشكل، احتمالا و ليس وجوبا، درع قانوني يصد أية مبادرة لتعديل أي نص سابق أعطى بعض الفئات امتيازات و حقوقا تجاه الآخرين. في السياق نفسه، لا يمكن نفي وجود الحقوق المكتسبة و لا يمكن نفيها و نزعها عن فئة معينة كلما دفعت أفكار و التزامات إلى المطالبة بسن قانون جديد أو تعديل أخر دون مراعاة للحقوق المكتسبة ودون احترام لسيادة القانون و دون الحرص على تكريس سلامة أعمال الإدارة و دون السعي لاستقرار النصوص و الأحكام التشريعية إلا للضرورات القصوى و لما فيه مصلحة استقرار المجتمع. و بناء على ما سبق و ارتباطا بموضوع الورقة، أضحى لزاما طرح أسئلة من قبيل : هل يشكل تدبير عائق اقتصاد الريع عامة و مسألة مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع خاصة أولوية حكومية و وطنية ؟ هل يمكن للوزارات المختصة بمعية رئيس الحكومة الإقدام على حرمان المستفيدين ذوي الحقوق من حقوقهم ؟ هل الفئة البرلمانية، المطالِبة بإجراءات تدبيرية تتجاوز الكشف عن لوائح المستفيدين، على وعي قانوني بمطلبها ؟ ما هي السيناريوهات المحتملة لتدبير سليم لهذا الملف ؟
المبحث الثاني : علاقة اقتصاد الريع بالحق المكتسب : مطلب الإلغاء و السيناريوهات المحتملة.
لقد تم طرح جملة من الأسئلة في المطلب الأخير تتوخى الإجابة عن جوهر إشكالية الورقة، أسئلة ستسلط الضوء على سلامة مطلب إلغاء المأذونيات و رخص استغلال المقالع(المطلب الأول)، وستقدم وفق تقسيم خاص السيناريوهات المحتملة لتدبير ملف مأذونيات النقل البري( المطلب الثاني) في أفق أن تتناول أوراق أخرى، في مقبلات الأيام، باقي أشكال اقتصاد الريع.
المطلب الأول : سلامة مطلب إلغاء رخص مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع.
يمثل اقتصاد الريع عموما و مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع خصوصا حجر عثرة أمام الإصلاحات المأمولة و أمام الإقلاع الاقتصادي المتوخى، و الظاهر أن الريع و الطبقة المستفيدة منه شكلا دائما عبئا على الحكومات المتوالية، بدرجات متفاوتة، و مطلب حل اجتماعي ملح إلى هذه اللحظة. إن إقدام وزارة التجهيز و النقل على الكشف عن لوائح الفئة المستفيدة من مأذونيات النقل البري بأشكاله و رخص استغلال المقالع عبر تراب المملكة، إجراء إداري صرف و سليم بالرجوع الى القاعدة التي تفيد أن إجراءات السلطة الإدارية( الوزير سلطة سياسية و إدارية) تتسم بالسلامة. علاوة على ذلك، لا يفترض أن تقوم هذه الأخيرة بخطوات غير محسوبة النتائج لما يتوفر لها من كفاءات بشرية و موارد مادية و مالية تمكنها من الاحاطة المندمجة بأبعاد نازلة من النوازل كالملف المتعلق بموضوع الورقة.
فإلى غاية اللحظة و من جهة، لم ينبثق من الحكومة الحالية اجراء يمس مكتسبات الأشخاص المستفيدة، كيفما كانت درجة و نوع الاستفادة، رغم تزايد أصوات المطالبين بالتدخل للحسم في هذا الموضوع بصورة سريعة، و من جهة أخرى، أكدت رئاسة الحكومة و السلطة الوزارية المختصة عدم إمكانية المساس بحقوق الأفراد المكتسبة على السواء و على جميع الأصعدة. و بهذا الصدد، يجدر التأكيد على هذا المطلب مطلب ممكن إذا صدر عن فئة غير ملمة بالمادة القانونية كفاية، و لكن من الملاحظ أن هذا المطلب أصبح موضوع أسئلة برلمانيين معينين تحوم حول المطالبة بعدم الاقتصار على نشر جملة هذه اللوائح وبالعمل على أجرأة حلول آنية لا تستبعد سحب و نزع هذه الرخص و في القريب العاجل. إجمالا، من المفترض أن تكون مطالب هذه الفئة البرلمانية مستجيبة للمقتضيات القانونية، بما في ذلك مسألة الحقوق المكتسبة، و أخذة بعين الاعتبار المسألة الاجتماعية الراهنة. هنا أمكن طرح التساؤل التالي : ما مدى جدية هذا المطلب إذا انبثق من قبل فئة تمثل السلطة التشريعية المفروض أن تمتلك من الرصيد القانوني ما يكفي لضمان مصداقية مطلبها أم أن مطلبها ينحو منحى أخر يستهدف تسليط الضوء و الاستقطاب لا غير؟ على هذا المستوى، وجبت الإشارة إلى أن الوزارة المختصة بإقدامها، أولا، على الكشف عن اللوائح السالفة الذكر فإنها، ثانيا، ستعمل على تدبير الملف تدبيرا يستجيب من جهة، لانتظارات و لتطلعات المتتبعين، ومن جهة أخرى، للحقوق المكتسبة الناتجة عن التمتع بهذه المأذونيات. فما هي إذن السيناريوهات المحتملة لتدبير سليم لهذا الملف مع استحضار المعطى القانوني المدروس ؟
المطلب الثاني : السيناريوهات المحتملة لتدبير ملف المأذونيات.
إن عرض السيناريوهات الممكنة لتدبير مشكل مأذونيات النقل البري، حصرا و كشكل من أشكال اقتصاد الريع بالمغرب، لا يهدف إلى تقديم حلول قد تكون الدولة عاجزة عن تصورها و بلورتها، بقدر ما يتوخى فهم تأخر الجهات المعنية عن المضي قدما على هذا المستوى. فمن خلال هذا الطرح، سيكون من الصعب ، في هذه الورقة، الالمام و الإحاطة بجميع السيناريوهات المحتملة الكفيلة بوضع مقترحات حلول لهذا العائق الاقتصادي.
إن الوزارة المعنية، وعيا قانونيا منها، إذا لم تبادر إلى العمل على تجاوز المكتسبات القانونية لمالكي المأذونيات السالفة الذكر، فإنها ستكون في مرحلة التشاور مع كافة المتدخلين في القطاع و إعداد التصورات الممكنة لحل هذا المشكل. و انطلاقا من هذه الحيثيات التقديمية، تبقى كل السيناريوهات محتملة و نعرض بعضا منها وفق تقسيم يتناول في فرع أول مبادرات المستفيدين من الرخص الممكنة، و في فرع ثان مبادرات وزارة النقل و التجهيز المحتملة :
الفرع الأول : مبادرات المستفيدين الممكنة و المأمولة.
إن المستفيد من مأذونية (أو مأذونيات) النقل البري للمسافرين سيكون المحرك الأساسي لحل المشكل من عدمه، و سيكون انخراطه و تجاوبه مع خطة الوزارة قاعدة أساس لرأب الصدع الحاصل. و بصورة مختصرة و من أجل التبسيط البناء، سيتم استعراض المبادرات الممكنة في هذا الشأن في النقاط التالية :
أ- من ناحية الاستثمار :
المستثمر الفعلي للمأذونية : يجب أن يستمر في استغلال الرخصة و ينضبط للقوانين الجديدة التي ستنظم قطاع النقل مستقبلا؛
المستثمر غير الفعلي للمأذونية : يتوقع أن يتنازل رضائيا و نهائيا عن الرخصة(أو الرخص).
ب- من ناحية عدد المأذونيات :
المستفيد من مأذونية واحدة : يجب أن يستمر في الاستفادة من امتيازات رخصته شريطة أن يكون مستثمرا فعليا؛
المستفيد من مأذونيتين فما فوق : من ناحية أولى وأخذا بعين الاعتبار شرط الاستثمار الفعلي، يمكن للمستفيد في هذه الحالة أن يحتفظ برخصة واحدة و يتنازل عن الباقي، و من ناحية ثانية و دون شرط الاستثمار الفعلي، يمكن للمعني بالأمر أن يحتفظ بواحدة وجوبا و يتنازل عن عدد من المأذونيات يفوق ما سيتبقى في ملكيته.
ت- من ناحية الخضوع للضريبة :
المستثمر الفعلي للمأذونية : يجب أن يخضع لضريبة معقولة تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الاقتصادية و الظروف الاجتماعية العامة؛
المستثمر غير الفعلي و/أو المستفيد من رخص عديدة: في هذه الحالة، يجب على المعني أن يقبل و يخضع لضريبة خاصة تقررها السلطة المختصة مع إلزامه بتحمل واجبات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مناصفة مع الناقل(الأجير الفعلي).
الفرع الثاني: السيناريوهات المحتملة التنزيل من طرف الوزارة المكلفة.
إن كشف وزارة النقل و التجهيز عن لوائح المأذونيات أثار جدلا واسعا بين الأوساط المتتبعة المطالبة بإجراءات حكومية لتدبير ما بعد هذا الكشف. و في ما يخص الرخص الممنوحة، كشفت الوزارة المكلفة أن 24% من 3681 رخصة ممنوحة غير مستغلة، و 70% من الرخص المستغلة تخضع للاستغلال غير المباشر، الشيء الذي أصبح معه لزاما اتخاذ خطوات لإعادة قطاع النقل الطرقي للأشخاص المهنيين و اعتماد دفتر تحملات لاستغلال النقل الجماعي بالعالم القروي. و حول ما بعد خطوة الكشف عن اللوائح، يمكن أن تتبلور سيناريوهات أهمها :
إبقاء الوضع على ما هو عليه من جهة ملكية المأذونيات و اعتماد دفاتر تحملات جديدة لاستغلال خدمات النقل الطرقي البري و نقل المستخدمين لحساب آخرين و النقل المدرسي لحساب الغير و النقل الجماعي للأشخاص بالعالم القروي. و جدير بالإشارة أن هذا السيناريو يبقى قابل التصريف إلا أنه سيتطلب وقتا أكثر سيجعل من هذا الملف إرثا تنقله حكومة إلى حكومة؛
سحب الرخص نهائيا من فئة المستغلين غير المباشرين أو المتمتعين بأكثر من رخصة، و من شأن هذا السيناريو غير المحتمل أن يمس بالحقوق المكتسبة و أن يرتب آثارا اجتماعية غير محمودة رغم ما تتمتع به الوزارة المعنية من امتيازات السلطة العامة؛
منح المستفيدين غير المزاولين فترة للعودة إلى العمل الفعلي قبل السحب، إلا أن هذا السيناريو تعترضه إكراهات متعلقة بعدد الرخص و بنوعية و عمر الفئة المالكة لهذه الرخص. ذلك أن المالك لمأذونية واحدة مستغلة بطريقة غير مباشرة يمكنه أن يباشر استغلال رخصته شخصيا إذا لم تعترضه إحدى الإكراهات المذكورة، و إلا فإن هذا السيناريو يبقى غير ممكن. و بخصوص المالك لأكثر من مأذونية، فإن إمكانية الاستغلال المباشر تبقى غير واردة إلا لرخصة أو رخصتين على الأكثر، ما يبقي إمكانية السحب واردة في هذه الحالة.
على سبيل الختم، يمكن القول بأن الوضع الراهن للمملكة يستدعي نوعا من التريث في تدبير ملفات تراكمت و تعاقب الحكومات التي سعت إلى عدم المساس و الخوض في جملة ملفات ظلت محل غموض للرأي العام. على أي، إن الحكومة الحالية مستفيدة من الوضع الجهوي و الوطني لمرحلة ما قبل و ما بعد دستور فاتح يوليوز 2011 لتباشر تدبير ملفات عالقة وصعبة. و إن ملف المأذونيات و المقالع إذا استأثر بمتابعة فئة مهمة من المغاربة و كان محل خرجات إعلامية للوزير المكلف، سيبقى تدبيره رهينا بعامل الزمن و بعامل انخراط الفئة المستفيدة في الاستجابة لمبادرات القطاع الوصي، هذا و يجب في كل الحالات استحضار الحقوق المكتسبة لهذه الفئة. بصورة مقتضبة، يمكن القول إجمالا أن هذا الملف سيشهد تطورات نوعية خلال هذه الولاية الحكومية و هو ما يستدعي في كل الأحوال الأخذ بعين الاعتبار محددات الملف القانونية و الاجتماعية و الحقوقية. و إن البرلمان كسلطة تشريعية، و في إطار تدبير الملف، مطالب بإعداد نصوص قانونية، من جهة، و بتسريع التصويت عليها، من جهة أخرى. كما ان الوزارة الوصية مطالبة بدورها بإعداد دفاتر تحملات جديدة تنظم قطاع النقل البري، من ناحية، واستغلال المقالع، من ناحية أخرى. فما الذي ستحمله الأيام المقبلة بخصوص هذا الملف ؟
إن التحدي الكبير الذي يواجه أي حكومة جديدة هو تحقيق الإقلاع الاقتصادي و بلوغ مستوى نمو كفيل بوضع حد لتفاقم المشاكل كالبطالة و عجز الميزان التجاري و اقتصاد الريع، على سبيل المثال لا الحصر. و إن الحكومة و البرلمان بمبادرتهما باقتراح قوانين لتنظيم قطاع لم يسبق لقوانين أن نظمته أو لتغيير و تتميم قوانين موجودة، يجب أن يراعيا ما خلفت مقتضيات هذه النصوص من أثار و ما أكسبت من حقوق للغير. هذه المعطيات المختلفة تستدعي تقسيم هذه الورقة إلى مبحثين:
المبحث الأول :مفهوم اقتصاد الريع و الحق المكتسب.
المبحث الثاني : علاقة اقتصاد الريع بالحق المكتسب : مطلب الإلغاء و السيناريوهات المحتملة.
المبحث الأول :مفهوم اقتصاد الريع و الحق المكتسب.
تحتم الضرورة المنهجية قبل كل دراسة أو تحليل لظاهرة ما تقديم تعريف للمفاهيم المؤطرة، بناء على هذا المعطى سيتم في مطلب أول تعريف اقتصاد الريع وبيان مجالاته و عناصره، و في مطلب ثان سيتم تقديم المفهوم القانوني للحق المكتسب و أثاره.
المطلب الأول : مفهوم اقتصاد الريع و عناصره.
يمكن في البداية تعريف اقتصاد الريع بأنه كل تحصيل للأرباح بطريقة غير صحيحة، معتمدا على أداة من أدوات الفساد، و هو انتقاص من الرأسمال الوطني و ليس زيادة و لا استثمارا فيه. و هو بذلك يخلق أيضا خللا في آليات التنافس وتكافؤ الفرص في المجتمع وتطوير الثروة الوطنية. ففي المغرب الذي يهمنا في هذه الورقة، فإن اقتصاد الريع يعتمد على أدوات تختلف عن تلك الأدوات المعتمدة في دول عربية بترولية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن مأذونيات نقل المسافرين و استغلال مقالع الرمال تجني أرباحا دون أن تؤدي مستحقات الضرائب و الرسوم المعمول بها. في السياق ذاته، فمأذونيات النقل و استغلال المقالع بصفة عامة هي إجازة دون وجود مبرر قانوني من التشريع الساري العمل به لبعض الفئات في كراء هذه الرخص للفاعلين الحقيقيين في إحدى هذه المجالات مقابل أجر شهري أو سنوي لا تنظمه مقتضيات تشريعية و لا تنظيمية ولا تراقبه جهة ولا سلطة، و إنما يكون موضوع اتفاق ين المكتري و المكري دون أن يقوم هذا الأخير بأي مجهود استثماري فعلي.
فعلى صعيد أخر، يتميز المغرب بأهمية اقتصاده غير المراقب " Economie Non Observée(ENO) "، و يقصد به حسب التعريف المقترح من طرف مديرية الإحصائيات بالمندوبية السامية للتخطيط (Haut Commissariat au Plan)كل الأعمال الاقتصادية صعبة المراقبة، هذه الأعمال يمكن تجميعها ضمن ثلاثة أصناف أساسية هي بصورة مختصرة :
• الاقتصاد غير المشروع " L'économie illégale " : يقصد به جملة الأعمال الاقتصادية المنتجة المحرمة قانونا كتجارة المخدرات و الدعارة و بيع الأعضاء البشرية، إلخ؛
• القطاع غير المنظم " Le secteur informel " : هذا القطاع يجمع كل الوحدات الاقتصادية التي لا تخضع لنظام محاسباتي كامل و بادر المكتب الدولي للشغل(Bureau International du Travail) من جهته بصياغة تعريف إحصائي للقطاع غير المنظم، وهو القطاع المتكوّن من وحدات اقتصاديّة صغيرة جدّا تنتج منافع وخدمات بهدف خلق الشغل وضمان الدّخل. وهي تشترك في عدد من الخصائص التي من بينها الحجم المتواضع لرأس مالها، وندرة اليد العاملة المؤهّلة لديها، ودرجة نفاذها المحدود للأسواق المنظّمة وللتّكنولوجيا، ومداخيلها الضّعيفة وغير المنتظمة؛
• الاقتصاد الخفي " L'économie souterraine " : ينصرف إلى كافة الأعمال الاقتصادية المشروعة التي لا يتم الكشف عنها للسلطات الضريبية و التي قد تدخل ضمن حساب الناتج الداخلي الخام (Produit Intérieur Brut) كجرائم التهرب الضريبي التي تندرج ضمنها عائدات اقتصاد الريع بما فيها عائدات تأجير المأذونيات وعائدات استغلال المقالع بمختلف أنواعها، بل و إن الأمر لا ينحصر عند هذه النقطة، أي أنه و في إطار ما يسمى بالاقتصاد الموازي تبرم صفقات غير مراقبة قانونيا و ماليا و هو ما يخص على سبيل الذكر أعمال رخص أعالي البحار. على هذا الصعيد، فإن خزينة الدولة تتحمل خسارة بملايير الدولارات من جراء هذه الأعمال الاقتصادية السرية.
و فيما يخص قطاعات الريع و مجالاته، فإنه يستمر في عدة قطاعات حيوية كالنقل و السكر و الزيت و العقار، و تمتد مجالاته إلى تفويت أراضي لشركات معينة لأغراض فلاحية أو للتعمير و إلى منح تصاريح الصيد و مأذونيات النقل بأنواعه و إلى تسعير ماء السقي و إلى سعر احتساب فاتورة الكهرباء و إلى سن الإعفاءات الضريبية في قطاعات اقتصادية كفيلة بضمان مداخيل هامة لخزينة الدولة.
يمكن القول إجمالا أن اقتصاد الريع، باعتباره عائقا للاقلاع الاقتصادي بامتياز، يعد انشغالا حديث العهد لدى الأوساط المعنية و المتتبعة سواء من الأغلبية الحكومية أو من المعارضة. هذه الأخيرة تؤكد على ضرورة محاربة هذا الخلل الاقتصادي و ليس فقط الاكتفاء بنشر لوائح المستفيدين كما هو الشأن بالنسبة لرخص النقل البري و استغلال مقالع الرمال و التفتيت. على هذا الصعيد، يجب العمل على ضمان الحقوق الفردية و الحقوق العامة و معالجة هذا المشكل في إطار قانوني أو بعبارة أخرى في إطار عدم جواز مساس قانون جديد بالحقوق المكتسبة، و إلا كان ذا أثر رجعي فيمتنع تطبيقه. فما هو الحق المكتسب؟ و ما هي أثاره القانونية؟
المطلب الثاني : مفهوم الحق المكتسب و أثاره.
على الرغم من انتشار و تداول مفهوم الحق في الحقل القانوني إلا أنه يبقى غامضا و منتقدا إذا اقترن بالمكتسب في إطار عدم رجعية القوانين، فأصحاب النظرية التقليدية في التصدي لمشكل تنازع القوانين في الزمان، من جهة، عملوا على التفرقة بين الحق المكتسب و مجرد الأمل. فعند البعض من أنصار هذه النظرية يعتبر حقا مكتسبا الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائيا بحيث لم يعد في الإمكان لا نقضه و لا نزعه دون رضاء، فلا يمكن أن تعترض له قوانين جديدة. و هو بالنسبة للبعض الأخر الحق الذي يقوم على سند قانوني و يخول صاحبه مكانة المطالبة و الدفاع عنه أمام القضاء. و أما مجرد الأمل، بصورة مختصرة، فهو عندهم مجرد ترقب و رجاء لدى الشخص في أن يكتسب في يوم من الأيام حقا من الحقوق و قد يأتي ذلك اليوم مخيبا لذلك الرجاء. و في السياق نفسه و لتوضيح مفهوم الحق المكتسب و ربطه بموضوع الورقة، يمكن القول أن مجموع المستفيدين من مأذونيات النقل البري على سبيل المثال، على صعيد المملكة، أصبحوا أصحاب حقوق قائمة على سند قانوني بالرجوع الى الجهة أو السلطة التي منحت هذه المأذونيات. كما لا يمكن أن يعترض لها قانون جديد بالحبس و الإلغاء أو بالنزع كرها أو بالمنع من ترتيب آثار مالية لفائدة الفئة المالكة دون مزاولة فعلية للنشاط الاقتصادي.
و من جهة أخرى، و نظرا للانتقادات التي حطمت الى حد ما أسس النظرية التقليدية السالفة الذكر ظهرت النظرية الحديثة لمبدأ عدم رجعية القوانين، فطبقا لمضمون هذه النظرية يتحدد نطاق تطبيق قانون جديد بالنظر الى وجهين :
• وجه سلبي : يتجلى في انعدام الأثر الرجعي للقانون الجديد و عدم امكانية سريان مقتضى من مقتضياته على ما رتب من آثار قانونية؛
• وجه ايجابي : إجمالا، يتمثل في الحافز المباشر لهذا القانون، أي أن هذا الأخير يسري على ما سيقع بعد نفاذه فلا يكون ذا اثر رجعي على ما ترتب من آثار وإنما يمس ما نشأ أو انقضى من المراكز التي رتبها القانون القديم على الوقائع القانونية التي تمت في ظل القانون الجديد.
انطلاقا من اللمحة المختصرة التي تناولت مضمون النظريتين التقليدية و الحديثة لعدم رجعية القانون، يتشكل، احتمالا و ليس وجوبا، درع قانوني يصد أية مبادرة لتعديل أي نص سابق أعطى بعض الفئات امتيازات و حقوقا تجاه الآخرين. في السياق نفسه، لا يمكن نفي وجود الحقوق المكتسبة و لا يمكن نفيها و نزعها عن فئة معينة كلما دفعت أفكار و التزامات إلى المطالبة بسن قانون جديد أو تعديل أخر دون مراعاة للحقوق المكتسبة ودون احترام لسيادة القانون و دون الحرص على تكريس سلامة أعمال الإدارة و دون السعي لاستقرار النصوص و الأحكام التشريعية إلا للضرورات القصوى و لما فيه مصلحة استقرار المجتمع. و بناء على ما سبق و ارتباطا بموضوع الورقة، أضحى لزاما طرح أسئلة من قبيل : هل يشكل تدبير عائق اقتصاد الريع عامة و مسألة مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع خاصة أولوية حكومية و وطنية ؟ هل يمكن للوزارات المختصة بمعية رئيس الحكومة الإقدام على حرمان المستفيدين ذوي الحقوق من حقوقهم ؟ هل الفئة البرلمانية، المطالِبة بإجراءات تدبيرية تتجاوز الكشف عن لوائح المستفيدين، على وعي قانوني بمطلبها ؟ ما هي السيناريوهات المحتملة لتدبير سليم لهذا الملف ؟
المبحث الثاني : علاقة اقتصاد الريع بالحق المكتسب : مطلب الإلغاء و السيناريوهات المحتملة.
لقد تم طرح جملة من الأسئلة في المطلب الأخير تتوخى الإجابة عن جوهر إشكالية الورقة، أسئلة ستسلط الضوء على سلامة مطلب إلغاء المأذونيات و رخص استغلال المقالع(المطلب الأول)، وستقدم وفق تقسيم خاص السيناريوهات المحتملة لتدبير ملف مأذونيات النقل البري( المطلب الثاني) في أفق أن تتناول أوراق أخرى، في مقبلات الأيام، باقي أشكال اقتصاد الريع.
المطلب الأول : سلامة مطلب إلغاء رخص مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع.
يمثل اقتصاد الريع عموما و مأذونيات النقل البري و استغلال المقالع خصوصا حجر عثرة أمام الإصلاحات المأمولة و أمام الإقلاع الاقتصادي المتوخى، و الظاهر أن الريع و الطبقة المستفيدة منه شكلا دائما عبئا على الحكومات المتوالية، بدرجات متفاوتة، و مطلب حل اجتماعي ملح إلى هذه اللحظة. إن إقدام وزارة التجهيز و النقل على الكشف عن لوائح الفئة المستفيدة من مأذونيات النقل البري بأشكاله و رخص استغلال المقالع عبر تراب المملكة، إجراء إداري صرف و سليم بالرجوع الى القاعدة التي تفيد أن إجراءات السلطة الإدارية( الوزير سلطة سياسية و إدارية) تتسم بالسلامة. علاوة على ذلك، لا يفترض أن تقوم هذه الأخيرة بخطوات غير محسوبة النتائج لما يتوفر لها من كفاءات بشرية و موارد مادية و مالية تمكنها من الاحاطة المندمجة بأبعاد نازلة من النوازل كالملف المتعلق بموضوع الورقة.
فإلى غاية اللحظة و من جهة، لم ينبثق من الحكومة الحالية اجراء يمس مكتسبات الأشخاص المستفيدة، كيفما كانت درجة و نوع الاستفادة، رغم تزايد أصوات المطالبين بالتدخل للحسم في هذا الموضوع بصورة سريعة، و من جهة أخرى، أكدت رئاسة الحكومة و السلطة الوزارية المختصة عدم إمكانية المساس بحقوق الأفراد المكتسبة على السواء و على جميع الأصعدة. و بهذا الصدد، يجدر التأكيد على هذا المطلب مطلب ممكن إذا صدر عن فئة غير ملمة بالمادة القانونية كفاية، و لكن من الملاحظ أن هذا المطلب أصبح موضوع أسئلة برلمانيين معينين تحوم حول المطالبة بعدم الاقتصار على نشر جملة هذه اللوائح وبالعمل على أجرأة حلول آنية لا تستبعد سحب و نزع هذه الرخص و في القريب العاجل. إجمالا، من المفترض أن تكون مطالب هذه الفئة البرلمانية مستجيبة للمقتضيات القانونية، بما في ذلك مسألة الحقوق المكتسبة، و أخذة بعين الاعتبار المسألة الاجتماعية الراهنة. هنا أمكن طرح التساؤل التالي : ما مدى جدية هذا المطلب إذا انبثق من قبل فئة تمثل السلطة التشريعية المفروض أن تمتلك من الرصيد القانوني ما يكفي لضمان مصداقية مطلبها أم أن مطلبها ينحو منحى أخر يستهدف تسليط الضوء و الاستقطاب لا غير؟ على هذا المستوى، وجبت الإشارة إلى أن الوزارة المختصة بإقدامها، أولا، على الكشف عن اللوائح السالفة الذكر فإنها، ثانيا، ستعمل على تدبير الملف تدبيرا يستجيب من جهة، لانتظارات و لتطلعات المتتبعين، ومن جهة أخرى، للحقوق المكتسبة الناتجة عن التمتع بهذه المأذونيات. فما هي إذن السيناريوهات المحتملة لتدبير سليم لهذا الملف مع استحضار المعطى القانوني المدروس ؟
المطلب الثاني : السيناريوهات المحتملة لتدبير ملف المأذونيات.
إن عرض السيناريوهات الممكنة لتدبير مشكل مأذونيات النقل البري، حصرا و كشكل من أشكال اقتصاد الريع بالمغرب، لا يهدف إلى تقديم حلول قد تكون الدولة عاجزة عن تصورها و بلورتها، بقدر ما يتوخى فهم تأخر الجهات المعنية عن المضي قدما على هذا المستوى. فمن خلال هذا الطرح، سيكون من الصعب ، في هذه الورقة، الالمام و الإحاطة بجميع السيناريوهات المحتملة الكفيلة بوضع مقترحات حلول لهذا العائق الاقتصادي.
إن الوزارة المعنية، وعيا قانونيا منها، إذا لم تبادر إلى العمل على تجاوز المكتسبات القانونية لمالكي المأذونيات السالفة الذكر، فإنها ستكون في مرحلة التشاور مع كافة المتدخلين في القطاع و إعداد التصورات الممكنة لحل هذا المشكل. و انطلاقا من هذه الحيثيات التقديمية، تبقى كل السيناريوهات محتملة و نعرض بعضا منها وفق تقسيم يتناول في فرع أول مبادرات المستفيدين من الرخص الممكنة، و في فرع ثان مبادرات وزارة النقل و التجهيز المحتملة :
الفرع الأول : مبادرات المستفيدين الممكنة و المأمولة.
إن المستفيد من مأذونية (أو مأذونيات) النقل البري للمسافرين سيكون المحرك الأساسي لحل المشكل من عدمه، و سيكون انخراطه و تجاوبه مع خطة الوزارة قاعدة أساس لرأب الصدع الحاصل. و بصورة مختصرة و من أجل التبسيط البناء، سيتم استعراض المبادرات الممكنة في هذا الشأن في النقاط التالية :
أ- من ناحية الاستثمار :
المستثمر الفعلي للمأذونية : يجب أن يستمر في استغلال الرخصة و ينضبط للقوانين الجديدة التي ستنظم قطاع النقل مستقبلا؛
المستثمر غير الفعلي للمأذونية : يتوقع أن يتنازل رضائيا و نهائيا عن الرخصة(أو الرخص).
ب- من ناحية عدد المأذونيات :
المستفيد من مأذونية واحدة : يجب أن يستمر في الاستفادة من امتيازات رخصته شريطة أن يكون مستثمرا فعليا؛
المستفيد من مأذونيتين فما فوق : من ناحية أولى وأخذا بعين الاعتبار شرط الاستثمار الفعلي، يمكن للمستفيد في هذه الحالة أن يحتفظ برخصة واحدة و يتنازل عن الباقي، و من ناحية ثانية و دون شرط الاستثمار الفعلي، يمكن للمعني بالأمر أن يحتفظ بواحدة وجوبا و يتنازل عن عدد من المأذونيات يفوق ما سيتبقى في ملكيته.
ت- من ناحية الخضوع للضريبة :
المستثمر الفعلي للمأذونية : يجب أن يخضع لضريبة معقولة تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الاقتصادية و الظروف الاجتماعية العامة؛
المستثمر غير الفعلي و/أو المستفيد من رخص عديدة: في هذه الحالة، يجب على المعني أن يقبل و يخضع لضريبة خاصة تقررها السلطة المختصة مع إلزامه بتحمل واجبات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مناصفة مع الناقل(الأجير الفعلي).
الفرع الثاني: السيناريوهات المحتملة التنزيل من طرف الوزارة المكلفة.
إن كشف وزارة النقل و التجهيز عن لوائح المأذونيات أثار جدلا واسعا بين الأوساط المتتبعة المطالبة بإجراءات حكومية لتدبير ما بعد هذا الكشف. و في ما يخص الرخص الممنوحة، كشفت الوزارة المكلفة أن 24% من 3681 رخصة ممنوحة غير مستغلة، و 70% من الرخص المستغلة تخضع للاستغلال غير المباشر، الشيء الذي أصبح معه لزاما اتخاذ خطوات لإعادة قطاع النقل الطرقي للأشخاص المهنيين و اعتماد دفتر تحملات لاستغلال النقل الجماعي بالعالم القروي. و حول ما بعد خطوة الكشف عن اللوائح، يمكن أن تتبلور سيناريوهات أهمها :
إبقاء الوضع على ما هو عليه من جهة ملكية المأذونيات و اعتماد دفاتر تحملات جديدة لاستغلال خدمات النقل الطرقي البري و نقل المستخدمين لحساب آخرين و النقل المدرسي لحساب الغير و النقل الجماعي للأشخاص بالعالم القروي. و جدير بالإشارة أن هذا السيناريو يبقى قابل التصريف إلا أنه سيتطلب وقتا أكثر سيجعل من هذا الملف إرثا تنقله حكومة إلى حكومة؛
سحب الرخص نهائيا من فئة المستغلين غير المباشرين أو المتمتعين بأكثر من رخصة، و من شأن هذا السيناريو غير المحتمل أن يمس بالحقوق المكتسبة و أن يرتب آثارا اجتماعية غير محمودة رغم ما تتمتع به الوزارة المعنية من امتيازات السلطة العامة؛
منح المستفيدين غير المزاولين فترة للعودة إلى العمل الفعلي قبل السحب، إلا أن هذا السيناريو تعترضه إكراهات متعلقة بعدد الرخص و بنوعية و عمر الفئة المالكة لهذه الرخص. ذلك أن المالك لمأذونية واحدة مستغلة بطريقة غير مباشرة يمكنه أن يباشر استغلال رخصته شخصيا إذا لم تعترضه إحدى الإكراهات المذكورة، و إلا فإن هذا السيناريو يبقى غير ممكن. و بخصوص المالك لأكثر من مأذونية، فإن إمكانية الاستغلال المباشر تبقى غير واردة إلا لرخصة أو رخصتين على الأكثر، ما يبقي إمكانية السحب واردة في هذه الحالة.
على سبيل الختم، يمكن القول بأن الوضع الراهن للمملكة يستدعي نوعا من التريث في تدبير ملفات تراكمت و تعاقب الحكومات التي سعت إلى عدم المساس و الخوض في جملة ملفات ظلت محل غموض للرأي العام. على أي، إن الحكومة الحالية مستفيدة من الوضع الجهوي و الوطني لمرحلة ما قبل و ما بعد دستور فاتح يوليوز 2011 لتباشر تدبير ملفات عالقة وصعبة. و إن ملف المأذونيات و المقالع إذا استأثر بمتابعة فئة مهمة من المغاربة و كان محل خرجات إعلامية للوزير المكلف، سيبقى تدبيره رهينا بعامل الزمن و بعامل انخراط الفئة المستفيدة في الاستجابة لمبادرات القطاع الوصي، هذا و يجب في كل الحالات استحضار الحقوق المكتسبة لهذه الفئة. بصورة مقتضبة، يمكن القول إجمالا أن هذا الملف سيشهد تطورات نوعية خلال هذه الولاية الحكومية و هو ما يستدعي في كل الأحوال الأخذ بعين الاعتبار محددات الملف القانونية و الاجتماعية و الحقوقية. و إن البرلمان كسلطة تشريعية، و في إطار تدبير الملف، مطالب بإعداد نصوص قانونية، من جهة، و بتسريع التصويت عليها، من جهة أخرى. كما ان الوزارة الوصية مطالبة بدورها بإعداد دفاتر تحملات جديدة تنظم قطاع النقل البري، من ناحية، واستغلال المقالع، من ناحية أخرى. فما الذي ستحمله الأيام المقبلة بخصوص هذا الملف ؟