MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




الأحكام القضائية النهائية مهددة بسلاحي النظام العام و الخطأ القضائي

     

ذ. عبـــد اللطـــيــف مشبـــــال



رئيس الغرفة التجارية بمحكمة النقض سابقا والمحامي بهيئة البيضاء

الأحكام القضائية النهائية مهددة بسلاحي النظام العام و الخطأ القضائي - على هامش المادة 17 من ق.م.م - 
اثارت مقتضيات المادة 17 من مشروع ق.م.م ، و لازالت ، نقاشا هاما و خصبا أفلح في ابراز خطورة حمولة هذه المادة و تهديدها للأمن القضائي للمواطنين و مراكزهم القانونية المثبتة بأحكام قضائية نهائية.
سبق لي الإسهام في هذا النقاش بمقال ، نشرته بتاريخ 26/07/2024 على صفحتي بالفاسبوك ، عبرت من خلاله عن انتقادي لحمولة المادة المذكورة انطلاقا من جملة من الملاحظات ارتكزت على فكرة أساسية مفادها عدم جواز الطعن ببطلان حكم خارج نطاق ممارسة الطعون المقررة قانونا تحصينا لقرينة الحقيقة القضائية الممثلة في الحجية المادية للشيء المقضي به كأثر من آثار الحكم القضائي.

لقد آثر السيد وزير العدل التعقيب على هذا النقاش في عدة مداخلات ، سيما ،  من خلال مقابلة مع احد صحفي الجريدة الالكترونية " هيسبريس" بتاريخ 08/08/2024 ، فألح على أهمية الاطلاع على نص الفصل 382 من القانون المسطري الحالي الذي نص على انه " يمكن لوزير العدل ان يأمر الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بان يحيل على هذه المحكمة بقصد الغاء الاحكام التي قد يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم . و يقع ادخال الأطراف في الدعوى من طرف الوكيل العام للملك الذي يحدد لهم اجلا لتقديم مذكراتهم دون ان يكونوا ملزمين بالاستعانة بمحام".
موضحا انه تم سحب المادة 17 في اللجنة و قام بتعديلها ، على أساس" ان نمنح هذه الصلاحية لاثنين فقط و هما الوكيل العام بالمجلس الأعلى لمحكمة النقض ، و هنا نحن نتعامل مع صفته القضائية ليقوم بالطعن ؛ و الى جانبه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره يتوفر على صلاحية التفتيش " ، موضحا انه قد نصادف ملفا يتضمن خطئا جسيما او اخلالا كبيرا و فيه مساس بحقوق الغير و حين يحال على التفتيش يتبين ان فيه انحراف و هنا نقوم بالتصحيح".
و تساءل السيد الوزير " لماذا لم يتم رفض المادة 382 و جاءت المادة 17 لتلقى هذا الاعتراض ، رغم انها خفضت من حجم الأخرى التي انتهى العمل بها ؟ " ، و قال ختاما " ثم كيف تهدد ( هذه المادة ) الاحكام كما يقال ؟ فاذا كان الوكيل العام الذي هو المحامي لمحكمة النقض ثم الرئيس المنتدب اللذان منحت لهما هذه الصلاحية لا يحظيان بالثقة بكونهما سيحافظان على حجية الأحكام ، فلا إله إلا الله ؛ معتبرا أن " هؤلاء هم المحافظون الاولون عن هذه الحجية ".

مقــــدمـــة :

بادئ ذي بدء ، يجدر التذكير ان تطوير البناء الديمقراطي ببلادنا له علاقة وثيقة بإثراء الحوار و النقاش لأمور و السماح لذوي الشأن سيما أصحاب الكعب العالي كجمعية المحامين في الاسهام في خلق التشريع مادام يهم جميع المخاطبين به . تعلمنا هذه المعاني دروس التاريخ الذي عرف أحد أبهى مظاهره في  جلسات النقاش العام الشهري لمواطني أثينا " الاكيلازيا " التي كانت تخصص لتدارس شؤون سير المدينة و التقرير بشأنها و من ثم فان الحوار الجدي و الهادف هو جوهر الفضيلة و مظهر ساطع لروح المواطنة.
بعد عودتي من العطلة السنوية عمدت ، الى تحرير هذه الورقة للانخراط في نفس النقاش للرد على ملاحظات السيد الوزير سالفة الذكر مبتدءا بمدى تموضع المادة 17 سالفة الذكر بمنطومة القوانين الإجرائية الحديثة، مارا على قاعدة عدم جواز الطعن ببطلان الحكم خارج نطاق ممارسة الطعون المقررة قانونا منعرجا على الفصل 381 من ق.م.م المذكور المحاجى به من الوزير لتبرير التشريع الشارد للمادة 17.
ـ  حول خرق المادة 17 لأحكام الدستور : 
حددت المذكرة التقديمية أسباب نزول ق.م.م مبينة ان من بين موجبات سنه السعي الى ملائمة مقتضياته و احكام الدستور و الخطب و التوجيهات الملكية السامية بمراعاة المرجعية الدولية المتمثلة في نتائج و توصيات التقارير الدورية الصادرة عن الهيئات و المنظمات و اللجان الدولية المتخصصة في تقييم الأنظمة القضائية عبر العالم و لا سيما منها المتعلقة بالتشريعات الإجرائية ، و احكام الدستور ذات الصلة بحقوق المتقاضين و قواعد حسن سير العدالة و حقوق الدفاع مع التأكيد على الصبغة الإلزامية للأحكام النهائية في مواجهة الجميع و الخطب و التوجيهات الملكية ، الرامية الى تأسيس مفهوم جديد لإصلاح منظومة العدالة يعتمد الإصلاح الشامل و العميق لهذه المنظومة ، يقوم على أساس تبسيط الإجراءات و المساطر ، و رفع تعقيداتها ... ".
لكن ، يبدو جليا ، بالرجوع الى مضمون المادة 17 المذكورة انها لم تراعي تلك الاسباب التي بشرت بها المذكرة التقديمية للمشروع مثلما ثم وضعها امام مجلس النواب.
1 – بداية ليس هناك خلاف في افتراض أن أي نص تشريعي يتعين أن يكفل لكل مواطن حق او حرية التي ضمنها الدستور ليتمتع بها بكل اطمئنان طالما ان القاعدة الدستورية تتميز بسموها و تموضعها في قمة الهرم القانوني ، مما يجب على الجميع الانصياع لها ، باعتبارها وثيقة تعاقد اجتماعي و سياسي تحدد قواعد ممارسة مختلف أجهزة الدولة لسلطتها.
و من المعلوم ، أن القاعدة القانونية تستمد قوتها من القاعدة الأعلى مرتبة منها ، مما يتعين معه ، ان لا تتعارض مع احكام الدستور وفق ما ينص عليه الفصل السادس منه الذي ينص في فقرته الثالثة على ان " دستورية القواعد القانونية ، و تراتبيتها ، و وجوب نشرها ، مبادئ ملزمة " و هو ما يثبت بالملموس صدارة الوثيقة الدستورية ، و اهدارها ما يتعرض معها ، بما معناه وجوب انصياع احكام المادة 17 سالفة الذكر الى احكام الفصل 126 من دستور المملكة التي تنص بكيفية واضحة لا تقبل أي تأويل مغالط او خاطئ ان " الأحكام الانتهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع " مادام انها جردت الاحكام القضائية الانتهائية من صيغتها الإلزامية في مواجهة الجميع ، الامر الذي  يبرهن بجلاء على مخالفة المادة 17 لأحكام دستورية لا غبار عليها.
و لا حاجة للقول ان المشرع ملزم باحترام سمو احكام الدستور التي تفرض عليه التزام إيجابي تغليبا له على ما دونه من احكام لأنها ليست مجرد تعابير مثالية او ذات ترف فكري بل لكونه القانون الاسمى الذي ينظم صلاحيات سلطات الدولة و يرسم حدودها ، تحت رقابة القاضي الأول أي القاضي الدستوري.
و صورة المخالفة سالفة الذكر تتمثل في ان المشرع الدستوري يكرس مبدءا عاما يجعل من الأحكام المذكورة، ملزمة للجميع، من منظور أن أي حكم صادر في خصومة مدنية، يشتمل، وفق ما هو معروف، على شطرين، الأول يهم ما خلصت إليه المحكمة مصدرته في منطوقه ، بعد تيقنها من ثبوت أو عدم ثبوت وقائع معينة، فيعتبر في مدلول الفصل 450/3 ق ل ع قرينة قانونية على ما أثبته في هذا الصدد، وتعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات، ولذلك يكون حجة، في هذا الجانب، في مواجهة الجميع. غير أن هذه القرينة تعد قاطعة بين الخصوم، فلا يمكن إثبات ما يخالفها. (الفصل 453/ 2 ق ل ع)، وهي قرينة غير قاطعة بالنسبة للغير الذي يحق له إثبات ما يخالفها.
أما الشطر الثاني من الحكم، فهو الذي يكتسي في واقع الأمر صبغة الإلزام في مواجهة المحكوم عليه في حدود ما قضي به منطوقه، وتكون حجيته نسبية عملا بأحكام الفصل 451 ق ل ع الذي يشير إلى أن قوة الشيء المقضي به لا تثبت إلا لمنطوق الحكم ، واستثني الوقائع.  ويترتب عن هذا أمر بالغ الأهمية، مفاده أنه يحق للجميع التمسك بقوة الأمر المقضي به للحكم، باعتباره عنوان الحقيقة، بينما لا يجوز التمسك بسبقية الَبت في النزاع سوى من أطرافه. وبناءً عليه، يكون الحكم حجة على الجميع بما أثبته من وقائع إلى حين إثبات العكس، وهو ما يتلائم مع أحكام الفصل 418 ق ل ع الذي يجعل من الأحكام القضائية المغربية والأجنبية، حجة على الوقائع التي تثبتها، حتي قبل أن تكون واجبة التنفيذ، فهي ملزمة للجميع بهذا المعني، وهو أيضا ما ينسجم مع القراءة السديدة لنص الفصل 126 من الدستور؛
غير ان النص المسطري رقم 17 محل النقاش كرس عدم الزامية الاحكام النهائية للجميع بخلاف ما جاء في الفصل 126 من الدستور الاولي بأخذه في عين الاعتبار من طرف المشرع و ذلك حينما أتاح النص المذكور لرئيس النيابة العامة و للرئيس المنتدب تقديم طلب بطلان أي حكم نهائي بالذرائع التي تضمنها النص و بدعوى غريبة حقا مفادها ان الفصل 382 من ق.م.م تضمن قاعدة مماثلة و هو ادعاء باطل للأسباب التي سنفصلها لاحقا.
و بالبناء على ما سلف بيانه ، يتجلى أن القاعدة موضوع النص المذكور قوضت القرينة القانونية القاطعة للحكم باعتباره عنوانا للحقيقة المكرسة بمقتضى الفصل 450 من ق.ل.ع التي تعد دليلا للإثبات لا يمكن مخالفته ، و تعفى من يتوفر على هذا الدليل من كل اثبات يخالفه عملا بأحكام الفصل 451 منه ، فكرست بالتالي المادة 17 سالفة الذكر وضعية غريبة عن كل منطق قانوني سليم و من شأنه إقرارها نهائيا المساس بالاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي .
 يجدر في هذا الصدد التذكير بما جاء في حكم رائع للمحكمة الدستورية بمصر ، ( الطعن رقم 19 لسنة 22 ق بتاريخ 03/11/2001 مجموعة نصار الالكترونية ) ، الذي تأسس على التعليلات البليغة التالية :
" الاحكام التي حازت قوة الامر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه من الحقوق و لا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجية ، و لكن لا تكون لتلك الاحكام هذه الحجية الا في نزاع قائم من الخصوم انفسهم دون ان تتغير صفاتهم و تتعلق بذات الحق محلا و سببا و قضى عليه الحجية و من تلقاء نفسها ، و مؤدى ذلك ان المشرع – عملا على استقرار الحقوق لأصحابهم ، و منعا لتضارب الاحكام – نص في المادة ( 101 ) منه على تعلق حجية الامر المقضي بالنظام العام ، و هذه الحجية تقوم في المسائل المدنية على ما فرضه القانون صحة مطلقة في حكم القضاء ؛ رعاية لحسن سير العدالة ، و اتقاء لتأبيد المنازعات ، و ضمانا للاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي و هي أغراض تتصل اتصالا وثيقا بالنظام العام ". 
و هكذا يبدو جليا ، بالرجوع الى هذا الحكم الدستوري الحصيف مدى مخالفة  المادة 17 للنظام العام.
غني عن التذكير في هذا المقام ان القانون ، و كما هو معلوم ، ينظم الخصومة كأداة لتطبيق القانون على المنازعات . و هذه الغاية التي يتطلع اليها المشرع في كل مجتمع منظم لا يمكن ان تتحقق الا اذا احترمت الاحكام التي يصدرها القضاة.
2 - من اللافت في هذا الصدد ، ان إدارة العدل سبق لها ان انتهكت احكام الفصل 126 المذكور حينما عمدت بمناسبة وضع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي الى سن احكام الفقرة 3 من  مشروع المادة 15 منه كالتالي :
"لتطبيق احكام الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور ، تكون احكام القضاء القابلة للتنفيذ ملزمة للجميع".
و هكذا يبدو جليا ، ان للإدارة المذكورة سابقة مع الفصل 126 من الدستور حينما سعت سابقا ، الى التقليص من مداه و قوته عبر اقحام الفقرة 3 المشار اليها في المادة 15 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي رغم ان النص الدستوري كرس قاعدة عامة تشمل جميع الاحكام القضائية النهائية ، فجعلها ملزمة للجميع، دون أي تمييز ما بين القابلة للتنفيذ منها او غيرها ، بخلاف مقتضي نص مشروع الفقرة 3 من المادة 15 سالفة الذكر، التي أدخلت تعديلا على المقتضى الدستوري المذكور في انتهاك سافر لأحكام الدستور حينما أزاحت ما اشترطه الفصل 126 منه من ان تكون الاحكام نهائية ملزمة للجميع و غيرت النص الدستوري بجعلها هذا النص قاصر على ( الحكم القضائي القابل للتنفيذ) متأثرة ، حسب اعتقادي ، بما تشترطه قواعد قانون المسطرة المدنية عند مباشرة قواعد التنفيذ الجبري، بمعني ضرورة توفر طالب التنفيذ على سند تنفيذي ، بصرف النظر عن صيرورة الحكم نهائيا من عدمه.
ـ حول خرق قاعدة قوة الشيء المقضي به بما من شأنه تهديد الامن القضائي للمواطنين و مراكزهم القانونية :
تنص المادة 17 من ق.م.م بالصيغة التي صوت عليها مجلس النواب على ما يلي :
" يمكن للنيابة العامة المختصة ، و ان لم تكن طرفا في الدعوى و دون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة ان تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شانه مخالفة النظام العام.
يتم الطعن امام المحكمة المصدرة للقرار ، بناء على امر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا او بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي اضر بحقوق احد الأطراف ضررا فادحا ".
و هكذا ، أصبحت الاحكم القضائية النهائية المحددة للمراكز القانونية لأطرافها ، في ظل هذا النص ، مهددة بالاندثار في كل وقت و حين ، عرضة للانقضاض عليها مجددا متى تبين للوكيل العام بمحكمة النقض ، حسب تقديره ، انها تتعارض مع النظام العام ، علما ان مدلول هذا النظام فضفاض حار كبار الشراح و تضاربت اجتهادات المحاكم في تحديد و ضبط تعريف دقيق له ، مما يعني ان المشرع جعل الاحكام جاثمة على نار متقدة تهددها بالزوال مادام انه أتاح للوكيل العام للملك ان يصدر امرا الى احد نوابه لتقديم طلب امام المحكمة المصدرة للحكم النهائي قصد الحكم ببطلانه و محو كل أثر له ، و ليس هذا فحسب ، بل و أتاحت أيضا للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية التقدم بنفس الطعن بناءا على إحالة من طرفه في حالة ثبوت خطأ قضائي أضر بأحد الأطراف ضررا فادحا ،  فخرقت تلك المادة احكام الفصل 122 من الدستور الذي ينص على انه " يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة " ،  بما معناه ان الخطأ القضائي في حالة ثبوته يرتب حق الحصول على تعويض للمتضرر دون حق اهدار قوة الشيء المقضي به للحكم عن طريق دعوى بطلانه المنصوص عليها في المادة 17 .
مع العلم ، ان الفريق الحركي بمجلس النواب تقدم بمقترح قانون في شهر ماي من السنة الحالية يتعلق بشروط و احكام التعويض عن الخطأ القضائي استنادا على احكام الفصل 122 المذكور ، و برر الفريق هذا المقترح بالقول " ان التعويض عن الخطأ القضائي وسيلة لإصلاح وجبر الأضرار المترتبة عن هذا الخطأ، وذلك من خلال إقرار تعويض مناسب لفائدة المضرور، تؤديه الدولة باعتبارها المسؤولة عن تدبير شؤون مرفق العدالة"، مشيرا إلى أنه " سعياً إلى تكريس الضمانات الحمائية لحقوق المتقاضين، عملت العديد من الدول على إخراج قوانين تكرس هذا الحق. وعلى غرار العديد من الدول، فإن المشرع الدستوري بهذا الإقرار في الحق في التعويض عن الخطأ القضائي، سعى إلى توسيع مجال المسؤولية عن الأعمال القضائية وإرساء الأمن القضائي للمجتمع، وتعزيز الثقة في الجهاز القضائي والاطمئنان إلى أعماله وقراراته" .
وتابعت المذكرة التقديمية شارحة: " تبعا لما أقره دستور المملكة في الفصل 122 من أحقية كل متضرر من خطأ قضائي في الحصول على تعويض تتحمله الدولة، فإنه يكون بذلك أقرَّ تراجعاً عن هيمنة مبدأ عدم المسؤولية عن العمل القضائي الذي كان سائدا ".
و صفوة القول ، ان المنطق السوي يأبى تمكين المتضرر من خطأ قضائي من الحصول على حق تعويض من الدولة لجبر الضرر عملا بالنص الدستوري المذكور و أيضا الحصول على حكم ببطلان الحكم المتسبب للضرر.
ـ خرق قاعدة عدم جواز التمسك ببطلان الحكم بغير طرق الطعن :
يجمع الفقه على ان مضمون حجية الشيء المحكوم به المومأ اليها تعلو على ما عداها من اعتبارات النظام العام خلافا لما نحت اليه المادة 17 سالفة الذكر حينما تعللت به لتبرير تقويض القرينة القانونية القاطعة التي يكتسبها الحكم حتى و لو كان نهائيا ، اذ ان تناقض الاحكام هو الخطر الكبير الذي يعصف بالعدالة ، من شأنه ان يمحق الثقة العامة في القضاء . كما جاء حكم في المحكمة الدستورية المصرية رقم 919 الصادر بتاريخ 23/03/2019.
و على مستوى الفقه المغربي يجدر التذكير بما كتبه الاستاذان الكزبري و العلوي العبدلاوي في الجزء الأول من مؤلفهما المتعلق بقانون المسطرة المدنية – طبعة 1973 الذي اكدا فيه ، بدورهما ، على ان ابطال الاحكام لا يكون بدعوى اصلية او بطريق الدفع بالبطلان بل بسلوك طريق من طرف الطعن القانونية فإذا استنفذت جميع طرق الطعن اصبح الحكم باتا و لم يعد من السائغ الطعن فيه و لو كان معيبا . و كذلك اذا ما انقضت مواعيد طرق الطعن دون ممارسة هذه الطرق اضحى الحكم بمنجاة من كل بطلان حتى ولو كانت فيه عيوب تشوبه ، و أيا كانت خطورة هذه العيوب.
 و قد انبرت المحكمة الدستورية المصرية الى تحديد دقيق لمدلول قوة الامر المقضي به و اثره في الخصومة المدنية مثلما سبق التذكير به أعلاه.
أن أساس قاعدة حجية الامر المقضي به و مثلما اسلفنا ذكره في تعليقنا على المادة 17 المنشورة بموقعنا بتاريخ 26/07/2024 تكمن في نظام ما يسمى سقوط المراكز الإجرائية بما معناه فقدان او نقصان مكنة سلوك اجراء معين سبق ان حدده القانون ، فحالة عدم جواز المساس بالحكم النهائي ليست سوى نتيجة بديهية للسقوط الآنف الذكر التي يترتب عنها اكتساب الحكم قوة الأمر المقضي به و تحصينه رغبة من المشرع في تأمين الاستقرار القانوني و استتباب الأمن القضائي حفاظا على النظام العام ، و قد ازدادت رسوخا و مكانة ، تلك القوة ، بصدور الدستور الجديد للمملكة الذي نص في الفصل 126 منه على ان " الاحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع " ، و هو ما اعادت التذكير به المادة 15 ( فقرة أخيرة ) من قانون التنظيم القضائي بالقول " تعتبر الاحكام النهائية و كذا الاحكام القابلة للتنفيذ ، الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ".
فليس غريبا ان تنحى التشريعات الحديثة الى اعتماد قاعدة " عدم جواز التمسك بعيوب الاحكام سوى من خلال ممارسة الطعون في مواجهتها ".
لعله من نافلة القول أن قانون المسطرة المدنية الفرنسي ألقى بظلاله على قانوننا الاجرائي ، و من ثم سيكون من المناسب الاستئناس بموقف المشرع الفرنسي بخصوص القاعدة سالفة الذكر.
و هكذا فان المادة 460 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي موضوع المرسوم المؤرخ في 09/12/1975 الساري المفعول ابتداءا من 01/01/1976 ينص على ما يلي :
« la nullité d’un jugement ne peut etre demandée que par les voies de recours prévues par la loi ».
و هو ما يمكن تعريبه كالتالي :
" لا يمكن طلب بطلان حكم سوي عبر طرق الطعن المقررة قانونا ".
كما ان القانون الإجرائي المصري يكرس نفس القاعدة مثلما يستفاد ضمنا بالرجوع الى المادة ( 221 ) مرافعات ، التي تفتح طرق الاستئناف امام الاحكام الانتهائية الصادرة من محاكم اول درجة اذا كانت باطلة ، و المادة ( 248 ) مرافعات التي تفتح طريق الطعن بالنقض في الاحكام الباطلة ، و لهذا فان التمسك ببطلان الحكم الباطل لعيب ذاتي يجري عن طريق طرق الطعن المقررة قانونا.
و هو ما أكدته محكمة النقض المصرية في العديد من الأحكام نذكر منها القرار الصادر بتاريخ 21/11/2007 الذي اكدت فيه من جديد " انه إذا لم يكن الحكم يقبل الطعن باي طريق من الطرق التي نظمها القانون ، او استنفذت هذه الطرق ، فانه سواء كان باطلا ام غير باطل ، لا يجوز المساس به عن طريق رفع دعوى بطلب بطلانه لعيب ذاتي ".
ـ حول محاجاة وزير العدل بأحكام الفصل 382 من ق.م.م :
في محاولة من وزير العدل لدعم دفاعه عن القاعدة التي أتت بها المادة 17 من مشروع ق.م.م حاجى بأحكام الفصل 382 من ق.م.م الحالي منوها بأهمية الاطلاع على هذا النص حتى يمكن الجواب ، على سبب عدم رفض هذا المقتضى بخلاف حال المادة 17 رغم انها ( خفضت من حجم الأخرى ) حسب ذكره.
لــكــــن :
حيث ان محاجاة السيد الوزير تبدو غير مؤسسة لانعدام شروط المقارنة على اعتبار ان الطعن بتجاوز السلطة موضوع الفصل 382 المذكور منوط بمحكمة النقض وحدها بخلاف موضوع المادة 17 التي منحت لكل المحاكم صلاحية ابطال جميع الأحكام تحت ستار مخالفة النظام العام بطلب من الوكيل العام لمحكمة النقض ، حسب ما جاء في نصها انطلاقا من تصور الوكيل العام للملك لمحكمة النقض ، ثم لاحقا ، من طرف المحكمة المعروض عليها الطعن ، او بطلب من الرئيس المنتدب لمجلس السلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي . بينما الطعن بتجاوز السلطة يهدف الى إزالة و محو اثر كل عمل صادر عن القاضي تجاوز بمقتضاه السلطة ، بمعنى ان هذا الطعن يحقق هدفا علاجيا يرنو الى محو المخالفة الجسيمة المرتكبة من القاضي يتمثل في اعتداء السلطة القضائية على اختصاصات السلطات الأخرى في الدولة ، و من ثم فان دور محكمة النقض ، في ظل هذا الطعن ، يختلف تماما عن دورها بخصوص الطعون الأخرى ، و تتطلع محكمة النقض عند البت في هذا الطعن بعمل يتصل بقضاء دستوري و كأنها محكمة دستورية عليا .
و تفريعا عما سبق بيانه يجوز القول ان منحى هذا الدور الوقائي لمحكمة النقض ، و هي الحارسة للقانون ، يفيد بكيفية لا لبس فيها ان الطعن بتجاوز السلطة يمكنها من مراقبة مدى احترام المحاكم لمبادئ الشرعية و بالتالي عدم اعتداء السلطة القضائية على اختصاصات السلطتين التنفيذية و التشريعية .  
و بالبناء عليه ، تكون المحاجاة سالفة الذكر على غير أساس ، دون حاجة للخوض في الأمور الثانوية الأخرى التي اثارها السيد الوزير التي عبر من خلالها " كون الرئيس الأول لمحكمة النقض و هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و الوكيل العام بمحكمة النقض هما الاولان في المحافظة على حجية الاحكام " ، مادام ان قانون الالتزامات و العقود نظم القرينة القانونية بكيفية دقيقة و حصنها ، و يحق للأطراف التمسك بها امام محكمة الموضوع التي تصدر احكاما نهائيا هي عنوان الحقيقة و ملزمة للجميع بقوة الوثيقة الدستورية.



الاحد 8 سبتمبر 2024
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

عناوين أخرى
< >

السبت 30 نونبر 2024 - 16:09 تجدد رفض قانون الإضراب!


تعليق جديد
Twitter