في إطار التفاعل المستمر مع النقاش المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية، تم نشر مقال للسيد وزير العدل تحت عنوان ” مشروع قانون المسطرة المدنية والحاجة إلى النقد البناء” بموقع هسبريس مساء يوم السبت 24 غشت 2024 . ولعل أشد ما يثير الانتباه في هذا المقال هو الموقف المعلن عنه بخصوص “السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستوري”؛ وذلك بسبب ما يتضمنه هذا الموقف من مناصرة قوية لفكرة مفادها أن الطبيعة السياسية للسلطة التقديرية للمشرع تستبعد أي مطلب أو تصور يرمي إلى رسم حدود لممارستها، باعتبار أن الأمر يتعلق “بمجال السياسة التشريعية الذي تملك فيه السلطة التنفيذية كامل الحرية؛ لأنه مجال سياسي”.
مبدئيا، يتعين الاقرار فعلا بوجود مساحة من سلطة التقدير في استعمال الصلاحية الممنوحة للحكومة بموجب الدستور لوضع مشروع قانون المسطرة المدنية ؛ بما يعنيه ذلك من حرية اختيار نوعية التدابير والمقتضيات التي تتحقق بها الأهداف المطابقة لموضوع هذا القانون وتحديد الوقت المناسب لعرضه على مسطرة المصادقة التشريعية من طرف مجلسي البرلمان. لكن ليس من شأن الاقرار بوجود هذه السلطة التقديرية أن يبعدها كليا عن رقابة القضاء الدستوري إذا ما برزت معطيات موضوعية تفيد انحرافها عن الأهداف المخصصة لمشروع القانون المعروض على المصادقة التشريعية؛ علما بأن قاعدة تخصيص الأهداف تستلزم حصر مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية في حدود موضوعه وأهدافه، واستبعاد أي مقتضى يرمي إلى استعمال الغطاء التشريعي من أجل بواعث مرتبطة من حيث طبيعتها بمتطلبات وإكراهات تدبير الجهاز الاداري التابع للقطاع الوزاري صاحب المبادرة في وضع مشروع القانون.
لذلك وجب التقيد بأسباب الاحتراز أمام أي تصور يهدف إلى ترسيخ نوع من التماهي أو الترادف بين السلطة التقديرية والسلطة المطلقة في مجال التشريع، مع ما يستتبع ذلك من ضرورة إعادة طرح المسألة المتعلقة بهذه السلطة التقديرية من خلال سؤالين إشكاليين: هل فعلا ينطوي مشروع قانون المسطرة المدنية على مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف؟ وفي حالة إحالته على المحكمة الدستورية، هل يمكن لرقابتها أن تمتد إلى فحص أثر هذا الانحراف على مطابقة المقتضيات المعيبة به للدستور ؟.
أولا)- مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف
تتحدد الأهداف المبررة لوضع مشروع قانون المسطرة المدنية في ضوء أسباب النزول المرفقة بمشروع القانون وأيضا في ضوء كل المبادئ المقررة بالدستور حول القضاء وممارسة حق اللجوء إليه؛ وهي أهداف لم تكن لوحدها موجهة لمشروع القانون بل توجد أيضا خلفها بواعث تحيد عن أهداف العدالة الاجرائية بسبب ارتباطها الجلي برغبة الادارة في وضع آليات خاصة بتدبيرها المالي وبتقوية مركزها القانوني أمام القضاء؛ وذلك حسب الآتي بيانه:
1) الحكم بالغرامات لفائدة الخزينة العامة: وفقا للمادة 10 من مشروع قانون المسطرة المدنية فإن المتقاضي بسوء نية معرض للحكم عليه بغرامة تتراوح بين 10.000 و20.000 درهم؛ بينما تنص المادة 62 على إمكانية الحكم بغرامة تتراوح بين 5000 و10.000 درهم في مواجهة كل من تبين للمحكمة أنه لم يقصد بدفعه سوى المماطلة والتسويف؛ مع التأكيد في الحالتين معا على حفظ حق المتضرر في المطالبة بالتعويض.
وعلى الظاهر فإن السلطة التنفيذية تتصرف وفقا لسلطتها التقديرية الممنوحة لها في مجال المبادرة التشريعية بهدف التصدي لظاهرة التقاضي بسوء نية وإطالة مجرى الدعوى؛ غير أن الباعث المضمر لا ينكشف إلا بالنتيجة المحصلة على مستوى الرفع من تقديرات المداخيل المتوقعة بالباب المخصص “للغرامات والعقوبات المالية الصادرة عن المحاكم” في إطار قانون المالية للسنوات الموالية لدخول قانون المسطرة المدنية الجديد حيز التنفيذ. وللوقوف على هذا الباعث ينبغي الرجوع إلى المنطق المعتمد في توفير نجاعة التدبير الميزانياتي، التي تنبني أساسا على تقوية المداخيل الذاتية للقطاع الوزاري المعني من أجل تمويل المشاريع وتسيير المصالح المرفقية التابعة له.
وتكفي في هذا الصدد الاشارة إلى أنه من ضمن مصادر تمويل “الصندوق الخاص لدعم المحاكم” توجد حصيلة الغرامات والعقوبات المالية والمصاريف القضائية والرسم القضائي؛ علما بأن النفقات المدرجة في الجانب المدين لهذا الصندوق تتعلق أساسا بمصاريف البناء والتجهيزات اللازمة لتسيير المحاكم وتكوين القضاة. وإذا كان من المسلم به في إطار إصلاحات التدبير الميزانياتي العمل وفق منطق التوازن بين المداخيل الذاتية والموارد المتأتية من الميزانية العامة، فإن ذلك لا يبرر تحقيق أهداف ذات طابع ميزانياتي ومالي في إطار مشروع قانون مخصوص لإجراءات قضائية؛ باعتبار أن الأمر ينطوي على مخاطر الدفع بالمرفق القضائي باتجاه العمل وفق منطق “المقاولة”.
2)- الحد من إلزامية مؤازرة المحامي: تنص المادة 76 على أن ” تقوم الدعوى أمام محاكم الدرجة الاولى، مالم ينص القانون على خلاف ذلك، بمقال مكتوب يودع بكتابة ضبط المحكمة، ويكون مؤرخا وموقعا من قبل المدعي أو وكيله أو محاميه”. وهو المقتضى الذي كان مثار احتجاج واسع من طرف مختلف هيئات المحامين بالمغرب بسبب ما يترتب عنه من تقليص لدور المحامي للقيام بإجراءات التقاضي كما هو مقرر بالقانون المتعلق بمهنة المحاماة.
وفي سبيل الكشف عن الباعث الحقيقي وراء هذا المقتضى يكفي القول أن منح المدعي حرية الاختيار بين تقديم المقال الافتتاحي للدعوى موقعا من طرفه أو من قبل وكيل يعينه أو محام يكلفه بالدفاع عنه هو في حقيقة الأمر مسعى تدبيري يفضي إلى تخفيض كلفة الدعوى عن طريق إمكانية إسقاط أتعاب المحامي من مشمولاتها؛ وبالتالي فإن إزاحة هذه الأتعاب ستقوي الإقبال على الخصومة القضائية بشكل يضمن الرفع من مداخيل الرسوم القضائية، وفي نفس الوقت يخفض من حجم المبالغ المالية التي تدفعها الخزينة العامة للمحامين المكلفين بالدفاع عن المتقاضين المعوزين في إطار المساعدة القضائية؛ وهو أمر يعيد مجرى التحليل إلى نقطة العلاقة المشبوهة بين هذا النوع من التدابير ذات الطابع المالي وبين أهداف العدالة الاجرائية التي يسعى إلى تحقيقها مشروع قانون يتعلق بالمسطرة المدنية.
3)- مطاردة الاجتهاد القضائي المتعلق بإخضاع الادارة لقواعد التنفيذ العادية: تنص المادة 383 على استثناء يكون بموجبه للطعن بالنقض أثر موقف للتنفيذ إذا ما تعلق الأمر بالمقررات الصادرة في القضايا الادارية ضد الدولة والجماعات الترابية وهيئاتها وباقي أشخاص القانون (مما يترتب عليه نسخ ضمني لمقتضيات الظهير الشريف المؤرخ في 14 يونيو 1944 يتعلق بتنفيذ القرارات القضائية موضوع الطعن بالنقض الذي ينص الفصل الأول منه على شرط وضع كفالة قبل أداء المبالغ المحكوم بها). كما أن مقتضيات المادتين 502 و507 تستثني من الحجز المباشر أو الحجز لدى الغير أموال الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها.
هذه المقتضيات الجديدة تؤكد استفحال ما يمكن تسميته بظاهرة مطاردة السلطة التنفيذية للاجتهاد القضائي، الذي لم يتردد خلال السنوات الماضية في الحكم على الادارة بالغرامة التهديدية والحجز على الاعتمادات المرصدة لها بميزانية الدولة أو بالحسابات الممسوكة لفائدة الجماعات الترابية لدى بنك المغرب، متى ثبت امتناع المصالح الآمرة بالصرف عن تنفيذ الأحكام القاضية في مواجهتها بأداء مبالغ مالية؛ حيث حرص القاضي الاداري على التصريح بأنه ليس بالقانون ما يجعل أموال الادارة العمومية غير قابلة للحجز، واعتبار الحكم المشمول بالتنفيذ سندا مثبتا مبررا لذاته بالقدر الذي يعني أنه” وثيقة محاسبية تقوم مقام الحوالة، وبالتالي تمنح المستفيد من هذا الحكم حق التوجه مباشرة إلى صندوق المحاسب العمومي من أجل الأداء”(على سبيل المثال: قرارات محكمة النقض عدد 20 بتاريخ 12 يناير 2012 وعدد 440/1 بتاريخ 12 مارس 2015 وعدد 286/1 بتاريخ 29 فبراير 2015 وعدد 183/1 بتاريخ 26 سبتمبر 2013…).
لكن سرعان ما تم استعمال المبادرة التشريعية الممنوحة للسلطة التنفيذية بهدف مطاردة هذا الاجتهاد القضائي من خلال تمرير مقتضيات المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، التي تم بموجبها وضع قاعدة عدم جواز الحجز على أموال الدولة والجماعات الترابية وهيئاتها؛ بل الأدهى من ذلك أنه حصل في هذا المجال تراجع واضح عن التوصيات الصادرة في ضوء أشغال الندوة العلمية الوطنية المنظمة من طرف وزارة العدل بشراكة مع هيئات المحامين بالمغرب، يومي 6 و7 يناير 2017 ، حول موضوع ” القضاء الاداري وحماية الحقوق والحريات”؛ ويتعلق الأمر تحديدا بما تضمنته هذه التوصيات بشأن تخصيص باب مستقل بقانون المسطرة المدنية ينضبط به تنفيذ الأحكام القضائية في مواجهة أشخاص القانون العام، والتنصيص على جواز الحجز التنفيذي على أموال أشخاص القانون العام ” ما لم ينتج عنه عرقلة للسير العادي للمرفق العمومي” ( المادة 451-26 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية المعروضة أثناء انعقاد الندوة الوطنية المذكورة).
ومؤدى ذلك كله أن الادارة ظلت تستعمل المبادرة التشريعية الممنوحة للحكومة بهدف تقوية امتيازاتها في الخصومة القضائية، بشكل يفضي إلى تنازع المواقع التي تحتلها (أي الادارة) باعتبارها خصما في المنازعات الادارية وباعتبارها أيضا حاضنة للمبادرة التشريعية التي تمنحها فرصة لوضع مقتضيات داعمة لمركزها القانوني على حساب مصالح كل من يخاصمها قضائيا؛ مما لا يبقى معه مناص من التساؤل عن إمكانية تدخل القاضي الدستوري من أجل تطهير المبادرة التشريعية للحكومة من كل هذه البواعث الأجنبية عن الأهداف الموضوعية المبررة لسن قانون جديد للمسطرة المدنية .
ثانيا)- رقابة المحكمة الدستورية على الانحراف في تخصيص الأهداف
في سياق مشحون بكثافة الانتقادات الموجهة إلى مشروع قانون المسطرة المدنية بشأن مخالفة بعض مقتضياته للدستور، برزت تطلعات مشروعة حول إمكانية إحالة هذا القانون إلى المحكمة الدستورية بغاية البت في مطابقته للدستور؛ وهي إمكانية قابلة للحدوث سواء بالنظر إلى شروط الإحالة أو بالنظر إلى الأسباب الموضوعية التي تقتضي وضع حالات انحراف المبادرة التشريعية عن تخصيص الأهداف ضمن مشمولات البت في مطابقة القانون للدستور.
1)- بالنسبة لشروط إحالة القانون على المحكمة الدستورية، فقد وردت مجتمعة في مقتضيات الفصل 133 من الدستور. وأول هذه الشروط يتعلق طبعا بالجهة التي ستتخذ مبادرة الإحالة، إذ لا يصح أن تصدر هذه المبادرة إلا عن جلالة الملك أو رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو خمس أعضاء مجلس النواب أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين.
ومعلوم أن اتخاذ مبادرة الاحالة غير مشروط بواجب بيان السبب المبرر لها طالما أن موضوعها هو البت في مطابقة القانون للدستور من دون أي ارتباط بادعاء خصامي موجب لقيام سبب أو طلب؛ وبالتالي فإن مبادرة الاحالة لا تنطوي بالضرورة على مخاصمة إرادة الأغلبية البرلمانية أو على تضييق حرية المشرع، بل يمكن أن تأتي هذه المبادرة من داخل الأغلبية نفسها سيما في سياق مطبوع بحدة الاحتجاج ضد مشروع قانون المسطرة المدنية، الذي يدفع باتجاه ضرورة إضفاء براءة المطابقة للدستور على النص المثير للجدل ووضعه في منأى عن إرهاصات استعمال آلية الدفع بعدم الدستورية في مواجهة مقتضياته أثناء تطبيقها أمام المحاكم.
وبما أن الأمر يتعلق برقابة قبلية، فإن الاحالة تظل ممكنة بين تاريخ التصويت على القانون وتاريخ صدور الامر بتنفيذه؛ وبالتالي فهي لا تنصب على مشروع قانون بل على قانون تمت المصادقة عليه بالتصويت في إطار المسطرة التشريعية؛ كما أن الاحالة تنصب على القوانين وفقا لمنطوق الفصل 133 من الدستور وليس على مقتضيات محددة دون غيرها؛ مما لا حاجة معه للحديث عن اعتبار إحالة القانون برمته من قبيل “اللجوء على بياض”؛ سيما أنه حتى في حالة اقتصار الاحالة على مقتضيات معزولة، فإن ذلك لن يحد من صلاحية المحكمة الدستورية في الإثارة التلقائية للعناصر الموجبة للتصريح بعدم مطابقة أي مقتضى من مضامين القانون للدستور أو لربط مطابقته للدستور بتفسيرات يحددها القرار الصادر في هذا الشأن.
2) أما فيما يرجع للبت في مطابقة القانون للدستور في ضوء مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف، فهو يتطلب لا محالة فتح أفق جديد في مسار الدور الخلاق للقاضي الدستوري ببلادنا. ذلك أن المنهج المعهود في فحص المطابقة يندرج بطبيعته ضمن مناهج العمل التي يتوقف فيها دور القاضي على فرض حد أدنى من الرقابة الخارجية على مستوى الشكل والاختصاص وعدم الإخلال بالمبادئ المتعلقة بالحريات والحقوق الاساسية، بما يتوافق مع وجوب حفظ السلطة التقديرية للمشرع وتطبيق الدستور في الظاهر من مبنى ومعنى مقتضياته واعتبار كل توسع في تفسيره أو تأويله بمثابة “الزيادة فيه”. وفي هذا المنحى يسير قرار المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية حاليا) الصادر تحت رقم 817/11 بتاريخ 13 أكتوبر 2011، الذي صرح فيه بأنه ليس من صلاحياته “التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع في اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها سبيلا لبلوغ أهداف مقررة في الدستور طالما أن ذلك لا يخالف أحكام هذا الأخير”.
لكن عندما يتعلق الأمر بممارسة مبادرة التشريع من طرف الحكومة فإن اعتماد مفهوم السلطة التقديرية للمشرع في اتخاذ التدابير اللازمة يكاد يقتصر على دلالة مجازية أكثر منها دلالة عملية؛ وذلك بالنظر إلى أن مشروع القانون يتم وضعه في معظم الأحيان من طرف الادارة التابعة للقطاع الوزاري المعني به؛ وبالتالي فإنه ليس من قبيل المغالاة الحديث عن وجود سلطة تقديرية للإدارة تحت غطاء السلطة التقديرية للمشرع. كما أن الوقوف عند الأهداف المقررة في الدستور قد يثني القاضي الدستوري عن كشف البواعث التي تدفع بالإدارة إلى استغلال فرصة وضع مشروع قانون لتسوية إكراهات تدبيرية تخصها؛ مما تكون معه الأهداف المعلنة على مستوى الظاهر من صياغة النص مجرد أسلوب صوري يدخل في خانة ما هو “حق يراد به باطل”.
فهل من الجائز حقا أن يتضمن مشروع قانون المسطرة المدنية تدابير رامية إلى الرفع من المداخيل الذاتية لقطاع وزارة العدل وإلى تقويض توجهات الاجتهاد القضائي الصادر لغير فائدة الإدارة؟ وهل يكفي أن تأتي هذه التدابير في لبوس مقتضيات تشريعية لتكتسب حصانة برسم السلطة التقديرية للمشرع؟ حقا بالنظر إلى محدودية الرقابة الخارجية المعتمدة في رقابة مطابقة القانون للدستور، فإن طرح هذا النوع من الأسئلة قد يبدو لأول وهلة شرودا عن ضوابط المنهج الرقابي المعمول به حاليا. لكن بعد التأمل المتأني سيتضح أن مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف بالعمل التشريعي تتطلب فعلا العمل وفق منهج الرقابة الداخلية، الذي يتيح وضع هذه المظاهر في صميم متطلبات البت في مطابقة القانون للدستور.
وفي هذا الصدد، ربما تكفي الاشارة إلى الجرأة التي سبق للقاضي الاداري أن أبان عنها لفرض احترام قاعدة تخصيص الأهداف المشروعة بالقرارات الادارية، وإلغاء هذه الأخيرة متى ثبت انحراف الادارة عن هذه الأهداف باستنادها إلى بواعث منعرجة. والأصل في ذلك يعود إلى قرار مجلس الدولة الفرنسي الصادر بتاريخ 26 نوفمبر 1875 في قضية باريزي Pariset ، حيث تم الطعن في قرار إداري صدر بتعليمات من وزير المالية يأمر بإغلاق مصنع ثقاب السيد باريزي تطبيقا للقانون المتعلق بمراقبة المنشآت الخطرة، بينما تبين أثناء التحقيق أن القرار لم يستهدف المصلحة العامة المقصودة بهذا القانون، وإنما صدر في إطار مصلحة خاصة بمرفق مالي للدولة تتجلى في السعي إلى إعادة استغلال مصانع الخواص المغلقة وتوفير نفقات إنشاء مصانع جديدة كان على الادارة أن تتحملها في إطار احتكارها لصناعة عيدان الثقاب من أجل إضافة موارد مالية جديدة للدولة؛ مما يستفاد منه أن الرقابة الداخلية وحدها كانت كفيلة في هذه النازلة للوقوف ليس فحسب على مدى انحراف الادارة عن ركن الغاية في قرار الاغلاق غير المشروع، ولكن أيضا بشكل مضمر على الانحراف في تخصيص الأهداف بالقانون المؤرخ في 2 غشت 1872 بشأن احتكار الدولة الفرنسية لصناعة عيدان الثقاب.
والحاصل من ذلك أن الكثير من أوجه الانحراف في تصرفات الادارة قد تجد لها جذورا وسندا في القانون نفسه بفعل الموقع الحقيقي للإدارة داخل مسار وظيفة العمل التشريعي؛ غير أنه ليس في مقدور أي أحد أن يتطاول على حرمة القضاء الدستوري بالحديث عن لزوم ما يلزم في هذا المجال، فدوره الخلاق وحده كفيل بضمان إعادة السلطة التقديرية للمشرع إلى نصابها الحقيقي متى تبين أنها أصبحت مطية تفرض الادارة من خلالها تدابير دخيلة على أهداف القانون.
مبدئيا، يتعين الاقرار فعلا بوجود مساحة من سلطة التقدير في استعمال الصلاحية الممنوحة للحكومة بموجب الدستور لوضع مشروع قانون المسطرة المدنية ؛ بما يعنيه ذلك من حرية اختيار نوعية التدابير والمقتضيات التي تتحقق بها الأهداف المطابقة لموضوع هذا القانون وتحديد الوقت المناسب لعرضه على مسطرة المصادقة التشريعية من طرف مجلسي البرلمان. لكن ليس من شأن الاقرار بوجود هذه السلطة التقديرية أن يبعدها كليا عن رقابة القضاء الدستوري إذا ما برزت معطيات موضوعية تفيد انحرافها عن الأهداف المخصصة لمشروع القانون المعروض على المصادقة التشريعية؛ علما بأن قاعدة تخصيص الأهداف تستلزم حصر مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية في حدود موضوعه وأهدافه، واستبعاد أي مقتضى يرمي إلى استعمال الغطاء التشريعي من أجل بواعث مرتبطة من حيث طبيعتها بمتطلبات وإكراهات تدبير الجهاز الاداري التابع للقطاع الوزاري صاحب المبادرة في وضع مشروع القانون.
لذلك وجب التقيد بأسباب الاحتراز أمام أي تصور يهدف إلى ترسيخ نوع من التماهي أو الترادف بين السلطة التقديرية والسلطة المطلقة في مجال التشريع، مع ما يستتبع ذلك من ضرورة إعادة طرح المسألة المتعلقة بهذه السلطة التقديرية من خلال سؤالين إشكاليين: هل فعلا ينطوي مشروع قانون المسطرة المدنية على مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف؟ وفي حالة إحالته على المحكمة الدستورية، هل يمكن لرقابتها أن تمتد إلى فحص أثر هذا الانحراف على مطابقة المقتضيات المعيبة به للدستور ؟.
أولا)- مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف
تتحدد الأهداف المبررة لوضع مشروع قانون المسطرة المدنية في ضوء أسباب النزول المرفقة بمشروع القانون وأيضا في ضوء كل المبادئ المقررة بالدستور حول القضاء وممارسة حق اللجوء إليه؛ وهي أهداف لم تكن لوحدها موجهة لمشروع القانون بل توجد أيضا خلفها بواعث تحيد عن أهداف العدالة الاجرائية بسبب ارتباطها الجلي برغبة الادارة في وضع آليات خاصة بتدبيرها المالي وبتقوية مركزها القانوني أمام القضاء؛ وذلك حسب الآتي بيانه:
1) الحكم بالغرامات لفائدة الخزينة العامة: وفقا للمادة 10 من مشروع قانون المسطرة المدنية فإن المتقاضي بسوء نية معرض للحكم عليه بغرامة تتراوح بين 10.000 و20.000 درهم؛ بينما تنص المادة 62 على إمكانية الحكم بغرامة تتراوح بين 5000 و10.000 درهم في مواجهة كل من تبين للمحكمة أنه لم يقصد بدفعه سوى المماطلة والتسويف؛ مع التأكيد في الحالتين معا على حفظ حق المتضرر في المطالبة بالتعويض.
وعلى الظاهر فإن السلطة التنفيذية تتصرف وفقا لسلطتها التقديرية الممنوحة لها في مجال المبادرة التشريعية بهدف التصدي لظاهرة التقاضي بسوء نية وإطالة مجرى الدعوى؛ غير أن الباعث المضمر لا ينكشف إلا بالنتيجة المحصلة على مستوى الرفع من تقديرات المداخيل المتوقعة بالباب المخصص “للغرامات والعقوبات المالية الصادرة عن المحاكم” في إطار قانون المالية للسنوات الموالية لدخول قانون المسطرة المدنية الجديد حيز التنفيذ. وللوقوف على هذا الباعث ينبغي الرجوع إلى المنطق المعتمد في توفير نجاعة التدبير الميزانياتي، التي تنبني أساسا على تقوية المداخيل الذاتية للقطاع الوزاري المعني من أجل تمويل المشاريع وتسيير المصالح المرفقية التابعة له.
وتكفي في هذا الصدد الاشارة إلى أنه من ضمن مصادر تمويل “الصندوق الخاص لدعم المحاكم” توجد حصيلة الغرامات والعقوبات المالية والمصاريف القضائية والرسم القضائي؛ علما بأن النفقات المدرجة في الجانب المدين لهذا الصندوق تتعلق أساسا بمصاريف البناء والتجهيزات اللازمة لتسيير المحاكم وتكوين القضاة. وإذا كان من المسلم به في إطار إصلاحات التدبير الميزانياتي العمل وفق منطق التوازن بين المداخيل الذاتية والموارد المتأتية من الميزانية العامة، فإن ذلك لا يبرر تحقيق أهداف ذات طابع ميزانياتي ومالي في إطار مشروع قانون مخصوص لإجراءات قضائية؛ باعتبار أن الأمر ينطوي على مخاطر الدفع بالمرفق القضائي باتجاه العمل وفق منطق “المقاولة”.
2)- الحد من إلزامية مؤازرة المحامي: تنص المادة 76 على أن ” تقوم الدعوى أمام محاكم الدرجة الاولى، مالم ينص القانون على خلاف ذلك، بمقال مكتوب يودع بكتابة ضبط المحكمة، ويكون مؤرخا وموقعا من قبل المدعي أو وكيله أو محاميه”. وهو المقتضى الذي كان مثار احتجاج واسع من طرف مختلف هيئات المحامين بالمغرب بسبب ما يترتب عنه من تقليص لدور المحامي للقيام بإجراءات التقاضي كما هو مقرر بالقانون المتعلق بمهنة المحاماة.
وفي سبيل الكشف عن الباعث الحقيقي وراء هذا المقتضى يكفي القول أن منح المدعي حرية الاختيار بين تقديم المقال الافتتاحي للدعوى موقعا من طرفه أو من قبل وكيل يعينه أو محام يكلفه بالدفاع عنه هو في حقيقة الأمر مسعى تدبيري يفضي إلى تخفيض كلفة الدعوى عن طريق إمكانية إسقاط أتعاب المحامي من مشمولاتها؛ وبالتالي فإن إزاحة هذه الأتعاب ستقوي الإقبال على الخصومة القضائية بشكل يضمن الرفع من مداخيل الرسوم القضائية، وفي نفس الوقت يخفض من حجم المبالغ المالية التي تدفعها الخزينة العامة للمحامين المكلفين بالدفاع عن المتقاضين المعوزين في إطار المساعدة القضائية؛ وهو أمر يعيد مجرى التحليل إلى نقطة العلاقة المشبوهة بين هذا النوع من التدابير ذات الطابع المالي وبين أهداف العدالة الاجرائية التي يسعى إلى تحقيقها مشروع قانون يتعلق بالمسطرة المدنية.
3)- مطاردة الاجتهاد القضائي المتعلق بإخضاع الادارة لقواعد التنفيذ العادية: تنص المادة 383 على استثناء يكون بموجبه للطعن بالنقض أثر موقف للتنفيذ إذا ما تعلق الأمر بالمقررات الصادرة في القضايا الادارية ضد الدولة والجماعات الترابية وهيئاتها وباقي أشخاص القانون (مما يترتب عليه نسخ ضمني لمقتضيات الظهير الشريف المؤرخ في 14 يونيو 1944 يتعلق بتنفيذ القرارات القضائية موضوع الطعن بالنقض الذي ينص الفصل الأول منه على شرط وضع كفالة قبل أداء المبالغ المحكوم بها). كما أن مقتضيات المادتين 502 و507 تستثني من الحجز المباشر أو الحجز لدى الغير أموال الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها.
هذه المقتضيات الجديدة تؤكد استفحال ما يمكن تسميته بظاهرة مطاردة السلطة التنفيذية للاجتهاد القضائي، الذي لم يتردد خلال السنوات الماضية في الحكم على الادارة بالغرامة التهديدية والحجز على الاعتمادات المرصدة لها بميزانية الدولة أو بالحسابات الممسوكة لفائدة الجماعات الترابية لدى بنك المغرب، متى ثبت امتناع المصالح الآمرة بالصرف عن تنفيذ الأحكام القاضية في مواجهتها بأداء مبالغ مالية؛ حيث حرص القاضي الاداري على التصريح بأنه ليس بالقانون ما يجعل أموال الادارة العمومية غير قابلة للحجز، واعتبار الحكم المشمول بالتنفيذ سندا مثبتا مبررا لذاته بالقدر الذي يعني أنه” وثيقة محاسبية تقوم مقام الحوالة، وبالتالي تمنح المستفيد من هذا الحكم حق التوجه مباشرة إلى صندوق المحاسب العمومي من أجل الأداء”(على سبيل المثال: قرارات محكمة النقض عدد 20 بتاريخ 12 يناير 2012 وعدد 440/1 بتاريخ 12 مارس 2015 وعدد 286/1 بتاريخ 29 فبراير 2015 وعدد 183/1 بتاريخ 26 سبتمبر 2013…).
لكن سرعان ما تم استعمال المبادرة التشريعية الممنوحة للسلطة التنفيذية بهدف مطاردة هذا الاجتهاد القضائي من خلال تمرير مقتضيات المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، التي تم بموجبها وضع قاعدة عدم جواز الحجز على أموال الدولة والجماعات الترابية وهيئاتها؛ بل الأدهى من ذلك أنه حصل في هذا المجال تراجع واضح عن التوصيات الصادرة في ضوء أشغال الندوة العلمية الوطنية المنظمة من طرف وزارة العدل بشراكة مع هيئات المحامين بالمغرب، يومي 6 و7 يناير 2017 ، حول موضوع ” القضاء الاداري وحماية الحقوق والحريات”؛ ويتعلق الأمر تحديدا بما تضمنته هذه التوصيات بشأن تخصيص باب مستقل بقانون المسطرة المدنية ينضبط به تنفيذ الأحكام القضائية في مواجهة أشخاص القانون العام، والتنصيص على جواز الحجز التنفيذي على أموال أشخاص القانون العام ” ما لم ينتج عنه عرقلة للسير العادي للمرفق العمومي” ( المادة 451-26 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية المعروضة أثناء انعقاد الندوة الوطنية المذكورة).
ومؤدى ذلك كله أن الادارة ظلت تستعمل المبادرة التشريعية الممنوحة للحكومة بهدف تقوية امتيازاتها في الخصومة القضائية، بشكل يفضي إلى تنازع المواقع التي تحتلها (أي الادارة) باعتبارها خصما في المنازعات الادارية وباعتبارها أيضا حاضنة للمبادرة التشريعية التي تمنحها فرصة لوضع مقتضيات داعمة لمركزها القانوني على حساب مصالح كل من يخاصمها قضائيا؛ مما لا يبقى معه مناص من التساؤل عن إمكانية تدخل القاضي الدستوري من أجل تطهير المبادرة التشريعية للحكومة من كل هذه البواعث الأجنبية عن الأهداف الموضوعية المبررة لسن قانون جديد للمسطرة المدنية .
ثانيا)- رقابة المحكمة الدستورية على الانحراف في تخصيص الأهداف
في سياق مشحون بكثافة الانتقادات الموجهة إلى مشروع قانون المسطرة المدنية بشأن مخالفة بعض مقتضياته للدستور، برزت تطلعات مشروعة حول إمكانية إحالة هذا القانون إلى المحكمة الدستورية بغاية البت في مطابقته للدستور؛ وهي إمكانية قابلة للحدوث سواء بالنظر إلى شروط الإحالة أو بالنظر إلى الأسباب الموضوعية التي تقتضي وضع حالات انحراف المبادرة التشريعية عن تخصيص الأهداف ضمن مشمولات البت في مطابقة القانون للدستور.
1)- بالنسبة لشروط إحالة القانون على المحكمة الدستورية، فقد وردت مجتمعة في مقتضيات الفصل 133 من الدستور. وأول هذه الشروط يتعلق طبعا بالجهة التي ستتخذ مبادرة الإحالة، إذ لا يصح أن تصدر هذه المبادرة إلا عن جلالة الملك أو رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو خمس أعضاء مجلس النواب أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين.
ومعلوم أن اتخاذ مبادرة الاحالة غير مشروط بواجب بيان السبب المبرر لها طالما أن موضوعها هو البت في مطابقة القانون للدستور من دون أي ارتباط بادعاء خصامي موجب لقيام سبب أو طلب؛ وبالتالي فإن مبادرة الاحالة لا تنطوي بالضرورة على مخاصمة إرادة الأغلبية البرلمانية أو على تضييق حرية المشرع، بل يمكن أن تأتي هذه المبادرة من داخل الأغلبية نفسها سيما في سياق مطبوع بحدة الاحتجاج ضد مشروع قانون المسطرة المدنية، الذي يدفع باتجاه ضرورة إضفاء براءة المطابقة للدستور على النص المثير للجدل ووضعه في منأى عن إرهاصات استعمال آلية الدفع بعدم الدستورية في مواجهة مقتضياته أثناء تطبيقها أمام المحاكم.
وبما أن الأمر يتعلق برقابة قبلية، فإن الاحالة تظل ممكنة بين تاريخ التصويت على القانون وتاريخ صدور الامر بتنفيذه؛ وبالتالي فهي لا تنصب على مشروع قانون بل على قانون تمت المصادقة عليه بالتصويت في إطار المسطرة التشريعية؛ كما أن الاحالة تنصب على القوانين وفقا لمنطوق الفصل 133 من الدستور وليس على مقتضيات محددة دون غيرها؛ مما لا حاجة معه للحديث عن اعتبار إحالة القانون برمته من قبيل “اللجوء على بياض”؛ سيما أنه حتى في حالة اقتصار الاحالة على مقتضيات معزولة، فإن ذلك لن يحد من صلاحية المحكمة الدستورية في الإثارة التلقائية للعناصر الموجبة للتصريح بعدم مطابقة أي مقتضى من مضامين القانون للدستور أو لربط مطابقته للدستور بتفسيرات يحددها القرار الصادر في هذا الشأن.
2) أما فيما يرجع للبت في مطابقة القانون للدستور في ضوء مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف، فهو يتطلب لا محالة فتح أفق جديد في مسار الدور الخلاق للقاضي الدستوري ببلادنا. ذلك أن المنهج المعهود في فحص المطابقة يندرج بطبيعته ضمن مناهج العمل التي يتوقف فيها دور القاضي على فرض حد أدنى من الرقابة الخارجية على مستوى الشكل والاختصاص وعدم الإخلال بالمبادئ المتعلقة بالحريات والحقوق الاساسية، بما يتوافق مع وجوب حفظ السلطة التقديرية للمشرع وتطبيق الدستور في الظاهر من مبنى ومعنى مقتضياته واعتبار كل توسع في تفسيره أو تأويله بمثابة “الزيادة فيه”. وفي هذا المنحى يسير قرار المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية حاليا) الصادر تحت رقم 817/11 بتاريخ 13 أكتوبر 2011، الذي صرح فيه بأنه ليس من صلاحياته “التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع في اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها سبيلا لبلوغ أهداف مقررة في الدستور طالما أن ذلك لا يخالف أحكام هذا الأخير”.
لكن عندما يتعلق الأمر بممارسة مبادرة التشريع من طرف الحكومة فإن اعتماد مفهوم السلطة التقديرية للمشرع في اتخاذ التدابير اللازمة يكاد يقتصر على دلالة مجازية أكثر منها دلالة عملية؛ وذلك بالنظر إلى أن مشروع القانون يتم وضعه في معظم الأحيان من طرف الادارة التابعة للقطاع الوزاري المعني به؛ وبالتالي فإنه ليس من قبيل المغالاة الحديث عن وجود سلطة تقديرية للإدارة تحت غطاء السلطة التقديرية للمشرع. كما أن الوقوف عند الأهداف المقررة في الدستور قد يثني القاضي الدستوري عن كشف البواعث التي تدفع بالإدارة إلى استغلال فرصة وضع مشروع قانون لتسوية إكراهات تدبيرية تخصها؛ مما تكون معه الأهداف المعلنة على مستوى الظاهر من صياغة النص مجرد أسلوب صوري يدخل في خانة ما هو “حق يراد به باطل”.
فهل من الجائز حقا أن يتضمن مشروع قانون المسطرة المدنية تدابير رامية إلى الرفع من المداخيل الذاتية لقطاع وزارة العدل وإلى تقويض توجهات الاجتهاد القضائي الصادر لغير فائدة الإدارة؟ وهل يكفي أن تأتي هذه التدابير في لبوس مقتضيات تشريعية لتكتسب حصانة برسم السلطة التقديرية للمشرع؟ حقا بالنظر إلى محدودية الرقابة الخارجية المعتمدة في رقابة مطابقة القانون للدستور، فإن طرح هذا النوع من الأسئلة قد يبدو لأول وهلة شرودا عن ضوابط المنهج الرقابي المعمول به حاليا. لكن بعد التأمل المتأني سيتضح أن مظاهر الانحراف في تخصيص الأهداف بالعمل التشريعي تتطلب فعلا العمل وفق منهج الرقابة الداخلية، الذي يتيح وضع هذه المظاهر في صميم متطلبات البت في مطابقة القانون للدستور.
وفي هذا الصدد، ربما تكفي الاشارة إلى الجرأة التي سبق للقاضي الاداري أن أبان عنها لفرض احترام قاعدة تخصيص الأهداف المشروعة بالقرارات الادارية، وإلغاء هذه الأخيرة متى ثبت انحراف الادارة عن هذه الأهداف باستنادها إلى بواعث منعرجة. والأصل في ذلك يعود إلى قرار مجلس الدولة الفرنسي الصادر بتاريخ 26 نوفمبر 1875 في قضية باريزي Pariset ، حيث تم الطعن في قرار إداري صدر بتعليمات من وزير المالية يأمر بإغلاق مصنع ثقاب السيد باريزي تطبيقا للقانون المتعلق بمراقبة المنشآت الخطرة، بينما تبين أثناء التحقيق أن القرار لم يستهدف المصلحة العامة المقصودة بهذا القانون، وإنما صدر في إطار مصلحة خاصة بمرفق مالي للدولة تتجلى في السعي إلى إعادة استغلال مصانع الخواص المغلقة وتوفير نفقات إنشاء مصانع جديدة كان على الادارة أن تتحملها في إطار احتكارها لصناعة عيدان الثقاب من أجل إضافة موارد مالية جديدة للدولة؛ مما يستفاد منه أن الرقابة الداخلية وحدها كانت كفيلة في هذه النازلة للوقوف ليس فحسب على مدى انحراف الادارة عن ركن الغاية في قرار الاغلاق غير المشروع، ولكن أيضا بشكل مضمر على الانحراف في تخصيص الأهداف بالقانون المؤرخ في 2 غشت 1872 بشأن احتكار الدولة الفرنسية لصناعة عيدان الثقاب.
والحاصل من ذلك أن الكثير من أوجه الانحراف في تصرفات الادارة قد تجد لها جذورا وسندا في القانون نفسه بفعل الموقع الحقيقي للإدارة داخل مسار وظيفة العمل التشريعي؛ غير أنه ليس في مقدور أي أحد أن يتطاول على حرمة القضاء الدستوري بالحديث عن لزوم ما يلزم في هذا المجال، فدوره الخلاق وحده كفيل بضمان إعادة السلطة التقديرية للمشرع إلى نصابها الحقيقي متى تبين أنها أصبحت مطية تفرض الادارة من خلالها تدابير دخيلة على أهداف القانون.