MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




البرلمان المغربي وتحدي العقلنة البرلمانية

     

ذ.محمد ضريف
باحث في القانون العام/كلية جامعة محمد الخامس/الرباط



البرلمان المغربي وتحدي العقلنة البرلمانية
 
رغم الصلاحيات الواسعة التي منحها دستور 2011، للمؤسسة البرلمانية في الفصل 70 منه الذي ينص على أن البرلمان يمارس السلطة التشريعية، كما يصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية. فهي مازالت تخضع لتأثير السلطة التنفيذية عن طريق مايعرف بمبدإ "العقلنة البرلمانية"باعتبارها " تلك التقنية التي تروم تحديد اختصاصات البرلمان، أو مجال القانون على سبيل الحصر مقابل اختصاصات الحكومة أو مجال اللائحة، وقد استلهمت فرنسا هذا المبدأ من التجربة الجمهورية الرابعة(1946-1958)، حيث توسعت دائرة تدخل البرلمان على حساب سلطة رئيس الحكومة1. فالعقلنة البرلمانية هنا تروم تحديد سلطات البرلمان وتقييده؛ لذلك، تأثرت أغلب الدساتير الإفريقية ومنها المغرب بهذه التقنية. للاطلاع أكثر حول هذا الموضوع، التي درجت كل دساتير المغرب على الأخذ به، استلهاما من التجربة الدستورية للجمهورية الخامسة. وعلى الرغم من أن "العقلنة البرلمانية" تبقى تقنية دخيلة على الحياة الدستورية والسياسية المغربية، فرضتها التجربة البرلمانية الفرنسية خلال الجمهوريتين الثالثة(1870-1940)، والرابعة (1946-1958)، فقد تم الاحتفاظ بها بين ثنايا الوثيقة الدستورية الجديدة، وهو ما يطرح إشكالات كبيرة من شأنها التأثير في عمل البرلمان وديناميته.
 
  1. رئيس الحكومة  وحل مجلس النواب
كانت الدساتير المغربية السابقة تمنح للملك فقط إمكانية حل البرلمان أو أحد مجلسيه، لكن مع دستور 2011، أصبح لرئيس الحكومة بمنطوق الفصل 104 إمكانية حل مجلس النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس، ورئيس المحكمة الدستورية، بمرسوم يتخذ داخل المجلس الوزاري. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الأخير يرأسه الملك، فإن مبادرة رئيس الحكومة في حل مجلس النواب تظل مرتبطة ورهينة الإرادة الملكية.
فإذا مكّنت الوثيقة الدستورية الجديدة رئيس الحكومة من حل مجلس النواب، كما ينص على ذلك الفصل 104 من الدستور، فإنها أيضا زودت مجلس النواب بسلاح  يمكنه من مواجهة السلطة التنفيذية، ويتمثل هذا السلاح في الإطاحة بالحكومة عن طريق ملتمس الرقابة، إذ ما أصبحت تعاكس الاختيارات والتوجهات التي سبق أن رسمها لها لحظة تصويته على برنامجها2.
 
  1. اتساع دائرة «التشريع الحكومي»
إن إعمال آلية "العقلنة البرلمانية" لا تجعل البرلمان في وضعية تابعة للملك فقط، بل إنها تجعله تابعا حتى للحكومة؛ فهذه الأخيرة بمقتضى الفصل 72 من دستور 2011 تعتبر المشرع الأصلي حيث ينص" يختص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون . "كما تهيمن الحكومة على وضع جدول الأعمال، فهي من تحدد مشاريع القوانين ومقترحات القوانين ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة". يضع مكتب كل من مجلسي البرلمان جدول أعماله، ويتضمن هذا الجدول مشاريع القوانين ومقترحات القوانين، بالأسبقية ووفق الترتيب الذي تحدده الحكومة"3. كما يخول الدستور للحكومة أن تشرع بين الدورات البرلمانية" يمكن للحكومة أن تصدر، خلال الفترة الفاصلة بين الدورات، وباتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين، مراسيم قوانين، يجب عرضها بقصد المصادقة عليها من طرف البرلمان، خلال دورته العادية الموالية"4. بالإضافة إلى تنصيص الدستور على أن" للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها"5.

رغم الاختصاصات والصلاحيات المهمة، التي منحها الدستور الجديد إلى المؤسسة البرلمانية في مجال التشريع، من خلال حصر الفصل 71 اختصاصات البرلمان في ثلاثين ميدانا، شملت التشريع في مجالات «الحقوق والحريات الأساسية»، الأنظمة الخاصة: ب«القضاء»، و «الصحة»، و«الوظيفة العمومية»، و«الجماعات الترابية»، وإلى ذلك من الأنظمة والقضايا ذات العلاقة بالحياة العامة للمواطنين؛ فإن اختصاص البرلمان مازال مقيدا ومحددا «بالعقلنة البرلمانية» التي تجعل من البرلمان المشرع الاستثنائي والحكومة المشرع الأصلي.
 لقد شكل مبدأ «العقلنة البرلمانية» موضوع نقد واعتراض منذ تنظيم أول انتخابات تشريعية في ماي 1963، من قبل أحزاب الحركة الوطنية والمعارضة السياسية بشكل عام. ويكمن سبب هذا الرفض والاعتراض الذي أبدته الأحزاب السياسية، في كون العقلنة ليست شيئا آخر سوى تقييد قدرة البرلمان على مزاولة وظائفه الأصيلة في التشريع والمراقبة، وفرض نوع من الرقابة المقننة بمقتضى الدستور على أنشطته6. وهو ما يبرز بشكل جلي في الفصل 72 من دستور 2011 الذي نص على أن «يختص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون». هذه الإمكانية التي استلهمتها الدساتير السابقة من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية (1958) لتمنح للحكومة فرصا كبرى للتشريع عبر ما يعرف بالمراسيم التنظيمية، وتجعلها بالتالي «مشرعا رئيسا»، في مجالات عادة ما تكون من اختصاص القانون في الأنظمة البرلمانية7.
 
  1. هيمنة الحكومة على التشريع المالي
ارتبط تاريخ نشوء المؤسسة البرلمانية، بلحظة امتلاكها سلطة الموافقة على فرض الضرائب، والحد من هيمنة الملوك في عملية الجباية والإنفاق كما عاشتها التجربة التاريخية البريطانية؛ لذا أضحى حق ممثلي الأمة في ممارسة الاختصاص المالي في كل من انجلترا وفرنسا من الحقوق الرئيسية التي اكتسبها البرلمان عبر تطوره التاريخي8.  لكن إذا كان البرلمان في الأصل هو من يمتلك صلاحيات سن القوانين في جميع الميادين، بما فيها المجال المالي، فإن التجربة البرلمانية المغربية، كانت مشروطة بالسياقات السياسية والقوى التي شكلت الوثيقة الدستورية، فتضمين مبدأ «العقلنة البرلمانية» منذ دستور 1962، أعاق عمل البرلمان في مجال التشريع، سواء في ماتعلق بمسطرة المناقشة، أو من خلال المعلومات التي يتوفر عليها وتحتكرها الحكومة لتستعملها كمتحكم وموجه9.

يعد التشريع المالي من أكثر المجالات التي تكشف عن محدودية صلاحيات البرلمان في الإنتاج التشريعي، فقد أثبتت التجربة البرلمانية المغربية عن غياب أي مبادرة برلمانية في هذا المجال؛ لذلك أضحى مشروع القانون المالي  اختصاصا حكوميا من ناحية إعداده وتحضيره، حيث ظل تدخل البرلمان في هذا المجال محكوما بقيدين أساسيين10:

الأول، يرتبط بما أطلق عليه دستور 2011 ب«توازن مالية الدولة»، حيث يلزم الفصل 77 منه، الحكومة والبرلمان، بالسهر على الحفاظ هذا التوازن11. فهذه المسألة تحيل على تلك «القاعدة الذهبية» المتعلقة بالتحكم في العجز المالي المطبقة في عدد من البلدان الأوروبية، فالارتقاء بها إلى درجة القاعدة الدستورية، يجعلها تتعارض أو بالأحرى تتصادم مع الاختيارات السياسية والحزبية والانتخابية للقوى الفائزة في الانتخابات، لاسيما ذات المنزع الاشتراكي المناهضة لهذه القاعدة المرتبطة بالخيارات الإيديولوجية للمذهب الرأسمالي12.

أما بالنسبة للثاني، فيرتبط بتلك الإمكانية التي منحها المشرع الدستوري للحكومة ل«رفض المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذ كان قبولها يؤدي، بالنسبة لقانون المالية، إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود»13. حيث يبدو أننا أمام فصل دستوري يعبر بشكل صريح عن العراقيل التي تفرضها «العقلنة البرلمانية» على ممارسة البرلمان لسلطته في الموافقة وتعديل المقتضيات الضريبية في اتجاه تخفيضها أو ملاءمتها مع القدرة التكليفية.

هذه المقتضيات، التي كان منصوصا عليها في دستور 1996 في الفصل 51 منه، و تم الإبقاء عليها في الفصل 77 من الدستور الجديد مع تعديل بسيط يروم فرض تقديم تبرير لذلك الرفض، يؤدي التمسك الصارم به من طرف الحكومة إلى شل المبادرة التشريعية للنواب، لأن أي مقترح أو تعديل برلماني لابد أن ينجم عنه الزيادة في تكليف موجود وإحداث تكليف عمومي. وبالتالي يبقى هذا الفصل بمثابة "فيتو" تستعمله الحكومة من خلال وزير الاقتصاد والمالية في وجه ممثلي الأمة بمجرد الإعلان عن مقترح لهؤلاء قد يزيد في تكاليف عمومية أو يخفضه من موارد أخرى14.

 كما لا يعني أن مصادقة البرلمان على مشروع قانون المالية واعتماده بشكل نهائي، يمنع الحكومة من التدخل من جديد لإعادة النظر فيما سبق للبرلمان أن قرره، فالفصل 45 من القانون التنظيمي للمالية، يمنح للحكومة إمكانية التدخل بمرسوم أثناء السنة المالية من أجل وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار إذا اقتضت الظروف الاقتصادية والمالية ذلك15.

من بين التجليات الأخرى التي تبرز هيمنة الجهاز الحكومي على المؤسسة التشريعية، كما وسمها دستور 2011، نجد الفقرة الثانية من الفصل 75 من الدستور التي تنص على أن "يصوت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز التي يتطلبها في مجال التنمية، وإنجاز المخططات التنموية الاستراتيجية، والبرامج متعددة السنوات، التي تعدها الحكومة وتطلع البرلمان عليها، وعندما يوافق على تلك النفقات، يستمر مفعول الموافقة تلقائيا على النفقات طيلة مدة هذه المخططات والبرامج، وللحكومة وحدها الصلاحية لتقديم مشاريع قوانين ترمي إلى تغيير ما تمت الموافقة عليه في الإطار المذكور".

تبين الفصول التي تم الوقوف عندها أعلاه، مدى الهيمنة التي تمارسها السلطة التنفيذية على الممارسة التشريعية للبرلمان، سواء على مستوى التشريع العادي أو المالي، وهي هيمنة إذا كانت قد ارتبطت بأول تجربة دستورية لسنة 1962 في إطار تقنية «العقلنة البرلمانية»، التي تنتمي إلى التجربة الدستورية والبرلمانية الفرنسية كما أشرنا من قبل، فإنها ظلت مستمرة في الوثائق الدستورية اللاحقة وفي دستور 2011. وبالتالي فإذا كانت الممارسة السياسية هي التي أفرزتها في الفضاء السياسي الفرنسي، فهي في التجربة السياسية المغربية تعبر عن الاضطرابات التي اعترت مأسسة السلطة السياسية منذ دستور 1962 إلى حدود دستور 2011.

الهوامش:
 
  1.  انظر .امحمد المالكي، بنية توزيع السلطة في الدستور المغربي الجديد، مجلة النهضة، العددان الثالث والرابع، خريف 2012- ربيع 2013، ص. 166،167.
  2. أحمد بوز،«الاختيار الديمقراطي» في الدستور المغربي الجديد، ضمن أعمال ندوة 18-19 أبريل 2013 "الدستور المغربي الجديد على محك الممارسة"، تنسيق عمر بندورو، رقية المصدق، محمد مدني،  منشورات la croisée des chemins,casablanca، 2014، ص 119.
  3. الفصل 82 من دستور 2011 .
  4. الفصل 81  من دستور 2011
  5. الفصل 70 من دستور 2011
  6. د. امحمد المالكي، بنية توزيع السلطة في الدستور المغربي الجديد، مجلة النهضة، العددان الثالث والرابع، خريف 2012- ربيع 2013، ص.167،168.
  7. د.أحمد بوز، «الاختيار الديمقراطي» في الدستور المغربي الجديد، ص120، مرجع سابق.
  8. ذ. نجيب جيري، الوظيفة الرقابية للبرلمان في دستور 2011، مجلة مسالك، عدد مزدوج 19-20/2012، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص.54.
  9. نفس المرجع (نجيب جيري)، ص.55.
  10. د.أحمد بوز، «الاختيار الديمقراطي» في الدستور المغربي الجديد، ص.122، مرجع سابق.
  11. ينص الفصل 77 من دستور 2011 على أن «يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة».
  12. د.أحمد بوز، «الاختيار الديمقراطي» في الدستور المغربي الجديد، ص.122، مرجع سابق.
  13. الفقرة الثانية من الفصل 77 من دستور 2011
  14. المنتصر السويني: "البرلمان المغربي والرقابة على المال العام"، مجلة وجهة نظر، عدد مزذوج 25-26، صيف 2005، ص. 43.
  15. د.أحمد بوز، «الاختيار الديمقراطي» في الدستور المغربي الجديد، ص.123، مرجع سابق.
 
 



الخميس 12 ديسمبر 2019
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter