شكل موضوع "التطبيق القضائي لمدونة الشغل ومواقف الفرقاء الاجتماعيين"، محور ندوة جهوية نظمتها، بمراكش، جمعية عدالة من أجل الحق في محاكمة عادلة بتاريخ 17/10/2009
وفيما يلي الورقة التقديمية للموضوع التي ألقاها ذ عبد العـزيز العتيقي أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بفاس
لقد شكل إنجاز مدونة الشغل بالمغرب موضوع انشغال اجتماعي وحكومي منذ الاستقلال، وإذا كانت المفاوضات الجماعية التي عرفها المجلس الأعلى للاتفاقيات الجماعية منذ 1957 قد أفضت إلى توصيات هامة فقد اعتبرت كوسيلة مؤقتة لتعويض ثغرات تشريع الشغل إلى جانب بعض النصوص المستحدثة كنظام النقابات المهنية ونظام الاتفاقيات الجماعية وتشريع الشغل في القطاع الفلاحي وظل التفكير حول إعداد مدونة للشغل حاضرا في المطالب النقابية وفي انشغالات المهتمين بهذا المجال .
واستجابة لذلك بادرت الحكومة إلى التفكير في إعداد مشروع للمدونة منذ 1979 لم يكن إلا تجميعا للنصوص المتفرقة لتشريع الشغل .
وأمام امتداد المطالبة الاجتماعية بإصلاح هذا الأخير وتعدد ملاحظات ومطالب منظمة العمل الدولية بتحقيق الملائمة بين اتفاقياتها التي صادق عليها المغرب ما يقرب من 41 اتفاقية وبين تشريع الشغل المغربي وفي ظل شروط الاحتقان الاجتماعي الذي اتخذ شكل إضرابات قطاعية وعامة منذ 1980 بادرت الحكومة إلى إنجاز مشروع جزئي في 1993 أتمته في 1994 وعدلته في 1995 ثم في 1996 .
وفي ظل شروط التناوب التوافقي أعدت الحكومة نصا جديدا في 1998 وافتتح النقاش حوله بين الفرقاء الاجتماعيين وفي 1999 تمت إحالته على مجلس المستشارين إلا أن النقابات العمالية رفضته مقدمة تعديلات وصلت إلى 70% .
وهذا ما أدى إلى تعديل هذا النص من طرف الحكومة الجديدة في 2002 وقد أعطى اتفاق 30 أبريل 2003 بخصوص الحوار الاجتماعي دفعة قوية لمناقشة هذا المشروع في إطار لجنة ثلاثية ، حيث تم التوصل إلى نص توافقي أحيل على مجلس المستشارين فصودق عليه بالإجماع مع تعديلات طفيفة وأحيل بعده على البرلمان لتتم المصادقة عليه أيضا بالإجماع .
نحن إذن أمام صيغة توافقية لنص تم اعتماده دون مشاركة المهنيين والأخصائيين مما طرح مجموعة من التساؤلات والثغرات في إطار تطبيقه .
وإذا كان هذا التطبيق لم يحقق بعد التراكم المطلوب للوقوف على الاتجاه القضائي ومواقف الأطراف فإن هذه الفترة القليلة تسمح على الأقل لتسجيل بعض الملاحظات وفتح النقاش حول هذا التطبيق . والتوقف عند بعض أوجه الغموض والتضارب وإمكانيات التأويل أو التفسير لبعض النصوص الملتبسة .
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على قرارات المجلس الأعلى بصفة أساسية المنشور منها وغير المنشور وكذا بعض قرارات محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية في حالات خاصة .
كما عرضنا إلى مواقف الفرقاء الاجتماعيين في إطار هذا التطبيق موقف وزارة التشغيل ومنظمات المشغلين والنقابات العمالية ، وذلك من خلال التصميم التالي :
المحور الأول : معطيات حول مجال تطبيق مدونة الشغل .
المحور الثاني : تحديد مدة عقد الشغل وظروف العمل .
المحور الثالث : إنهاء علاقة الشغل .
المحور الرابع : في اتجاه تعديل مدونة الشغل موقف الفرقاء الاجتماعيين
المحور الأول : معطيات حول مجال تطبيق مدونة الشغل
وتتعلق هذه المعطيات بالمجال البشري والمهني والمجال الزماني .
لذلك قدمنا مؤشرات حول النسيج المقاولاتي بالمغرب لمعرفة حجم المقاولات وتوزعها القطاعي . فرصدنا هيمنة القطاع غير المهيكل والمقاولات الصغرى والمتوسطة وضعف التأطير والتدبير المقاولاتي ورصدنا حجم النزاعات الفردية والجماعية وموضوعاتها .
كما تتعلق هذه المعطيات بمجال سريان المدونة حيث لئن كانت هذه الأخيرة قد راهنت على فكرة التوحيد فإنها أبقت على الأنظمة الخاصة وهو ما يطرح مشاكل على مستوى الاختصاص القضائي وتداخل النصوص المطبقة بين المدونة والأنظمة الخاصة . وهو ما يطرح بصفة خاصة بالنسبة للمؤسسات العمومية وشبه العمومية وعمال البحر .
أما بالنسبة لسريان المدونة في الزمان فإذا كان واضحا بأنها تطبيق بأثر فوري فإن هذا التطبيق يثير مشاكل باعتبار طبيعة عقد الشغل المستمرة وباعتبار استمرار العمل بالنصوص التنظيمية التي لم تعدل . وقد قدمنا في هذا الصدد قرار للمجلس الأعلى اعتبرناه مخالفا لمبدأ الأثر الفوري للتطبيق .
المحور الثاني : تحديد مدة عقد الشغل وظروف العمل
يشكل تحديد مدة عقد الشغل موضوعا نزاعيا بامتياز وهو ما برز واضحا من خلال مفاوضات مدونة الشغل وكذا المطالبة بتعديلها من طرف أرباب العمل بحثا عن مرونة أكبر.
ويتضح من خلال أحكام المدونة أنها كرست ما استقر عليه الاجتهاد القضائي من اعتبار أن الأصل في عقد الشغل أن يكون غير محدد المدة ولا يمكن تحديد مدته إلا في حالات مبررة بطبيعة العمل .
ومع ذلك فإن تحليل نصوص المدونة تبرز مجموعة من الثغرات بخصوص حالات إبرام عقد الشغل المحدد المدة منها مثلا ازدياد نشاط المقاولة بصورة مؤقتة حيث تم حسم النقاش في القانون التونسي والفرنسي ويحتاج الأمر إلى تحديد وضبط في القانون المغربي أو على الأقل من طرف الاجتهاد القضائي وهو ما طالب به مفتشو الشغل أنفسهم .
ويبدو أن المبدأ المستقر في الاجتهاد القضائي هو ربط مدة عقد الشغل بطبيعة العمل وهو ما يطرح مشكل الإثبات حيث يختلف الوضع حسب الحالات وبناء على قناعة المحكمة التي عليها أن تعتمد على المعطيات الواقعية والموضوعية المرتبطة بكيفية إنجاز الشغل ، لكن هذا لا يمنع من ضرورة تدخل التشريع كما حصل في تونس وفرنسا لحسم النقاش بصدد عدة حالات كمفهوم العمل الموسمي وحالات التزايد المؤقت في نشاط المقاولة...إلخ.
أما بالنسبة لمقاولات التشغيل المؤقت فيجب الاعتراف بأننا أمام إشكالية كبرى لابد من حسمها .
أما بخصوص تحديد ظروف العمل فقد طرح مشكل بخصوص تحديد ساعات العمل من طرف مدونة الشغل حيث تم إنقاص المدة الأسبوعية من 48 إلى 44 س مما أثار جدلا ونزاعا بين أطراف الشغل خاصة بعد الزيادة في الحد الأدنى للأجور وقد عرضنا لهذا الجدل الذي احتدم بين الفرقاء الاجتماعيين وقدمنا مواقفهم ، وقد انتهى الأمر بالحسم التشريعي إذ صدر مرسوم في 3 يناير 2005 يميز بين الأجراء الذين تم تشغيلهم قبل 8 يونيه 2004 ( تاريخ سريان المدونة) والأجراء الذين تم تشغيلهم بعد هذا التاريخ .
وهكذا تنص المادة الرابعة من المرسوم المذكور على أنه " لا يترتب أي تخفيض في الأجر عند تخفيض مدة الشغل السنوية في القطاعات غير الفلاحية من 2496 س إلى 2288 س بالنسبة للأجراء الذين يزاولون عملهم في تاريخ 8 يونيه 2004 تاريخ سريان أحكام المدونة " .
وبالتالي فهذه الأحكام لا تسري على الأجراء الذين تم تشغيلهم ابتداء من التاريخ المذكور. وقد صدرت دورية عن وزارة التشغيل توضح كيفية تطبيق هذا المرسوم. وهي مبادرة مهمة من جانب الوزارة لتفعيل المقتضيات القانونية ورفع اللبس في مثل هذه الحالات.
المحور الثالث : إنهاء علاقة الشغل
لقد استوحت المدونة الأحكام المنظمة لإنهاء علاقة الشغل من المعايير الواردة في اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 158 إذ نصت المادة 35 من المدونة على أنه " يمنع فصل الأجير دون مبرر مقبول إلا إذا كان هذا المبرر مرتبطا بكفاءته أو بسلوكه أو تحتمه ضرورة سير المقاولة ..." . نحن إذن أمام أربع مبررات موضوعية كبرى لإنهاء علاقة الشغل .
أولا : الفصل لعدم الكفاءة
الواقع أن حالات عدم الكفاءة يختلط فيها ما يتعلق بسلوك الأجير المهني مع ما تتعلق بضعف القدرات الجسمانية والفكرية للأجير بسبب الحادث أو المرض . وبالتالي نعتقد أنه يجب التمييز بين الحالتين .
ففي الحالة الأولى نكون أمام خطأ تأديبي لأن الأمر يتعلق بسلوك إرادي .
أما في الحالة الثانية فنكون أمام انخفاض في قدرات الأجير بشكل يؤثر على أدائه ومردوديته .
وهكذا نجد أنفسنا أمام أوضاع متعددة .
فوصول الأجير سن التقاعد يعني انخفاض كفاءته حكما وبالتالي يجب إحالته على التقاعد ما لم يكن قد استكمل مدة التأمين لدى الضمان الاجتماعي التي تخول له الاستفادة من راتب الشيخوخة ( 3240 يوما) إذ يجب تمديد عمله إلى حين بلوغه هذه المدة .
وهذا ما يطرح إشكالا من الناحية العملية .
أما حصول الانخفاض في قدرات الأجير بسبب إصابته بمرض أو حادث فيجب التمييز هنا بين المرض العادي حيث أن تغيب الأجير بسبب مرضه لمدة تفوق 180 ي خلال 365 يوما تعطي للمشغل حق وإمكانية اعتباره مستقيلا أي فصله من العمل . وبالطبع فهذا الحكم لا يمكن تطبيقه بصدد العجز الناتج عن حادثة شغل أو مرض مهني إذ ينص ظهير6 فبراير1963 على أن طبيب الشغل يمكنه أن يقترح على المشغل تكليف الأجير ببعض الأعمال التي تتناسب مع قدراته .
لكن إلى أي مدى يعتبر هذا الاقتراح الطبي ملزما للمشغل ؟
وهل يعتبر رفض المشغل بمثابة فصل غير مبرر ؟
هذا ما نراه اعتمادا على مقتضيات ظهير6 فبراير 1963 ذي الصبغة الآمرة .
ثانيا : الفصل التأديبي
لقد أدخلت المدونة مجموعة من التعديلات الناصة على المقتضيات التشريعية السابقة في مجال الفصل التأديبي .
وضمن هذا الإطار تحدثنا عن الأخطاء التأديبية الجسيمة وصنفناها إلى الأخطاء الجسيمة حسب المادة 37 والأخطاء الجسيمة حسب المادة 39 ولاحظنا عدم دقة التحديد في بعض الحالات والمشاكل العملية التي تطرحها بعضها مثل نقص المردودية وعدم الاستجابة لتغيير ظروف العمل وعرقلة حرية العمل ...إلخ..
وقد استحضرنا في هذا النقاش الاجتهاد القضائي المتوفر سواء الذي صدر في ظل المدونة أو سابقا ، كما عرضنا وجهات نظر الفرقاء الاجتماعيين وخاصة مفتشي الشغل .
وقد استخلصنا من ذلك بأن المجال التأديبي مازال يحتاج لضبط أكثر وخاصة عن طريق الأنظمة الداخلية للمقاولات والاجتهاد القضائي لكن ذلك لا يلغي ضرورة التدخل التشريعي لسد بعض الثغرات في المادتين 37 و39 م.ش .
وقد خصصنا حيزا كبيرا لمسطرة الفصل إذ تعرضنا لطابعها الإلزامي كما أكد على ذلك الاجتهاد القضائي مبدين تخوفنا من أن يطالها ما طال الفصل 6 من النظام النموذجي والذي تحول بصدده العمل القضائي ليعتبر مسطرته مجرد وسيلة إثبات وليست إجراء جوهريا .
غير أن هذا الطابع الملزم ليس مرتبطا بالنظام العام بل لابد من إثارته من قبل الأجير الذي عليه بدوره احترام المسطرة وإلا فقد ألحق الدفع بعدم احترامها وفي هذا الحكم اختلاف في الاجتهاد القضائي .
وإذا كانت صياغة المواد 62 إلى 65 توحي بطابعها الآمر الذي ينسحب على جميع مراحل المسطرة فإن تطبيق هذه الأخيرة يثير العديد من المشاكل المرتبطة بالآجال وموقف الطرفين في إطار مراحل هذه المسطرة. وقد لاحظنا أن القضاء قد حسم في بعض هذه الإشكالات لكن بقي البعض الآخر منها يحتاج للتوضيح والضبط لضمان حسن التطبيق ومن ذلك الفقرة الأخيرة من المادة 62 .
وفي إطار هذه المسطرة تطرح إشكالية الصلح سواء كان مباشرا أو عن طريق مفتش الشغل أي الصلح التمهيدي والتعارض الموجود بين المادتين 41 و532 .
فبالنسبة للصلح المباشر كانت المدونة واضحة في تنظيمها له إذ خرجت عن القواعد العامة للصلح والواردة في ق.ل.ع وهو خروج مبرر باسم النظام العام الاجتماعي الذي يقضي بحماية الصفة المعيشية لمستحقات الأجير ، لكن يبقى التساؤل واردا حول التنازل عن الدعوى الذي قد يستصدره المشغل من الأجير دون أن يكون متضمنا أو محيلا على الصلح هل سيكون على المحكمة أن تقبله طبقا لقواعد المسطرة أم أنها ستبحث عما إذا كان نتيجة لصلح ؟ .
أما بالنسبة للصلح التمهيدي الذي يباشره مفتش الشغل فإن التنافر قائم بين المادتين 41 و532 وهو ما يؤثر سلبا على اعتماد مسطرة هذا الصلح لكن هذا التنافر يمكن رفعه من خلال التأويل ، ذلك أننا نعتبر بأن المادة 532 وردت بصيغة عامة تتناول مختلف النزاعات التي تثور بين المشغل والأجير ويتدخل فيها ـ صلحا ـ مفتش الشغل ، بينما المادة 41 وردت خاصة بحالة الإنهاء الانفرادي لعقد الشغل حيث يكون محضر الصلح التمهيدي حاسما للنزاع بصورة نهائية .
ويساعدنا على هذا التأويل الرجوع إلى مفاوضات مشروع المدونة ، إذ أن الفقرة الخامسة من المادة 41 لا نجدها في مسودة المشروع. بحيث أضيفت بعد المفاوضات وما يؤكد ذلك صياغتها التي تفتقر لقواعد اللغة القانونية .
وعلى كل يبدو أن الاتجاه القضائي لدى محاكم الموضوع يعتمد هذا التفسير ولسنا ندري ماذا سيكون عليه موقف المجلس الأعلى .
ثالثا : الفصل لأسباب اقتصادية أو تكنولوجية أو هيكلية .
نسجل في هذا الصدد أن المسطرة التي أقرتها مدونة الشغل قريبة من المسطرة التي كان ينص عليها المرسوم الملكي لغشت1967 والتعديلات التي أدخلت عليه كانت من مستلزمات احترام مقتضيات اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 158 التي تستوجب الحوار والتفاوض مع ممثلي الأجراء قبل الفصل للأسباب المذكورة .
لكن ما يلاحظ أن الإبقاء على الإذن والترخيص بيد السلطة الإقليمية قد يضع مجموعة من العوائق كما طرح مجموعة من الانتقادات . وعلى كل فهذه المسطرة محدودة في مجال تطبيقها إذ لا تطال إلا المقاولات التي تشغل عشرة أجراء دائمين على الأقل كما لا تطال المؤسسات العمومية وشبه العمومية. وهذا ما يضعنا أمام تعدد الأنظمة الضابطة للفصل والإغلاق للأسباب المذكورة .
وفي إطار مناقشتنا لهذه المسطرة كان لابد أن نتوقف عند إشكاليتين أساسيتين :
الأولى تتعلق بسكوت عامل الإقليم عن الرد على طلب الإذن خلال الأجل المحدد له لأن المادة 67 تفيد حسب ظاهر صياغتها بأن الكتابة مقصورة على قرار الإذن الذي يجب أن يكون معللا .
لكن إذا حللنا المواد 66 وما بعدها واستحضرنا روح النص وإرادة المشرع فإن ذلك يفضي بنا إلى القول بأن الرفض بدوره يجب أن يكون مكتوبا ومعللا وبالتالي فالسكوت هنا يجب تأويله على أنه رفض للإذن ، وعلى كل فقرار العامل يعتبر قرارا إداريا قابلا للطعن كسائر القرارات الإدارية .
أما الإشكالية الثانية فتتعلق بتداخل هذه المسطرة مع مساطر معالجة صعوبات المقاولة المنصوص عليها في مدونة التجارة ، ذلك أن هذه الأخيرة تستوجب تطبيق المسطرة المنصوص عليها في مدونة الشغل كلما تطلبت المعالجة فصل الأجراء لأسباب تعود لوضعية المقاولة .
فكيف إذن يمكن إعمال هذه الإحالة ؟ هل تتوقف مسطرة المعالجة إلى حين سلوك مسطرة مدونة الشغل ؟ هذا ما تقتضيه مدونة التجارة .
وإذا كان الأمر كذلك فهل المشغل هو الذي ينجز المسطرة أم السنديك ؟
ثم ماذا لو اعتبر القاضي المنتدب بأن ما اقترحه عليه السنديك كسبيل لإنقاذ المقاولة من فصل بعض الأجراء هو المسلك الوحيد موضوعيا لإنقاذ المقاولة .
دون شك فإن هذا التداخل بين المسطرتين يطرح مشاكل عملية لابد من تدخل تشريعي لحسمه .
رابعا : إشكالية المغادرة التلقائية
لقد اعتبرنا المغادرة التلقائية إشكالية حقيقية سواء على المستوى النظري أو العملي . ذلك لأن موقعها ضمن النصوص المنظمة لطرق إنهاء عقد الشغل يبدو مهتزا وهو وضع يشبه الإقحام .
فهل تعتبر تغيبا غير مشروع ؟ وفي هذه الحالة يجب تطبيق مسطرة الفصل مادام الأمر يتعلق بخطأ جسيم حسب المادة 39 م.ش .
وهل تعتبر استقالة ؟ هذه الفرضية غير منسجمة مع التنظيم الذي استحدثته مدونة الشغل للاستقالة .
أين إذن نموقع المغادرة التلقائية مادامت مفهوما قانونيا جديدا لم يعرفه التشريع القديم.
لقد انطلقنا من رصد هذا المفهوم في إطار الاجتهاد القضائي واعتبرناه فعلا إنتاجا قضائيا ابتدعه بمناسبة التخلي عن الصبغة الجوهرية والآمرة للفصل 6 من النظام النموذجي بعدما كان الاجتهاد القضائي متشبتا بها .
وبالتالي اعتمد هذا المفهوم من طرف المشغلين كدفع في مواجهة ادعاء الأجير بكونه فصل تعسفيا دون احترام المسطرة الواردة في الفصل6 من ن.ن.
وتكريسا لهذا المنحى ورد النص على المغادرة التلقائية بصورة محتشمة كما تبرزها صياغة المادة 63 ، إذ أضيفت المغادرة التلقائية في آخر المادة بطريقة تثير التساؤل وهذا لا يتناسب حقيقة مع الموقع الذي أفردته المدونة للصور الأخرى لإنهاء عقد الشغل .
وقد عقدنا في هذا الصدد مقارنة بين المغادرة التلقائية والتغيب عن العمل والاستقالة واستخلصنا بأن الإبقاء على إمكانية الدفع وإثبات المغادرة التلقائية من طرف المشغل يفرغ مسطرة الفصل التأديبي والاستقالة من محتوياتها ويضعف من صبغتها الآمرة .
لذلك يبدو في نظرنا أنه من الإنصاف الرجوع على الأقل إلى الاجتهاد القضائي السابق خاصة قرار المجلس الأعلى رقم 1538/89 بتاريخ 18/9/1989 ورد فيه على الخصوص بأنه " تطبيقا لمقتضيات الفصل السادس من النظام النموذجي فإن الطرد يكون تعسفيا حتى مع تشبث المشغل بالمغادرة التلقائية ما لم يثبت أن هذا الأخير قد سلك المسطرة المنصوص عليها في الفصل المذكور" .
هذا فضلا عن قرارات أخرى للمجلس منها :
ـ قرار عدد 707 في ملف اجتماعي 5112 .
ـ وأيضا قرار 760 في 23/12/1985 ملف 6304/95 .
ـ وقرار 704 في 12/11/1984 ملف 5112 .
والحقيقة أن بحثنا أفضى إلى التوصل بأن النص على المغادرة التلقائية لم يكن واردا في مسودات المشاريع السابقة على المشروع المعتمد من طرف الفرقاء الاجتماعيين عبر مفاوضاتهم ، بمعنى أنه من إضافات آخر ساعة ومن تم تبدو نشازا في النسق القانوني المنظم للفصل من العمل .
المحور الرابع : في اتجاه تعديل مدونة الشغل وإصلاح القضاء الاجتماعي
من الملفت للنظر أن المدونة قد تعرضت للانتقاد بصورة مبكرة من طرف الفرقاء الاجتماعيين إما بسبب غموض أو تضارب بعض نصوصها أو صعوبة تطبيقها أو عدم ملاءمتها مع ظروف ومتطلبات المقاولات خاصة مع التأثيرات المتزايدة للعولمة على القدرة التنافسية للمقاولات المغربية .
كما أن القضاء الاجتماعي بدوره ـ وإذ شكل موضوعا مغيبا في الحوار التفاوضي حول المدونة ـ قد تعرض للانتقاد ومطالب الإصلاح .
وقد حاولنا في هذا المحور استعراض مواقف الفرقاء الاجتماعيين وهكذا بدأنا بوزارة التشغيل التي أنجزت ورقة بناء على ملاحظات مفتشي الشغل وحددت فيها بعض الثغرات واقتراحات المعالجة .
كما عرضنا لموقف الكونفدرالية العامة للمقاولات بالمغرب التي أنجزت كتابا أبيض في شكل مذكرة مطالب إلى الحكومة تناولت في جزء هام منه إصلاح مدونة الشغل وتعديلات بما يضمن مرونة أكبر ويساهم في تنمية القدرة التنافسية للمقاولة المغربية .
كما توقفنا عند مطالب النقابات العمالية التي تتناول المدونة ، ورغم أن هذه المنظمات لم تنجز مذكرة خاصة بالمدونة فقد حاولنا استنباط واستقراء مطالبها المتعلقة بالمدونة من مجموعة من الوثائق إما مذكرات أو بيانات أو مداخلات لمسؤولي هذه النقابات .
وقد استخلصنا من ذلك أن تطبيق المدونة يشكو من ثلاث عوائق :
1 ـ المعطيات الواقعية التي تعرقل تطبيق المدونة والراجعة لسلوك المقاولات وتعاملها سلبيا مع أحكام المدونة. ولضعف جهاز تفتيش الشغل بسبب فقر وسائله المادية والبشرية والقانونية.
2 ـ المعطيات القانونية الراجعة لعدم وضوح بعض نصوص المدونة وتضاربها وعدم انسجام بعضها مع معطيات النسيج المقاولاتي .
3 ـ ضعف فعالية القضاء الاجتماعي بسبب عدم إصلاح قواعد المسطرة وعدم التوفر على قضاء متخصص وقضاة متخصصين وضعف توحيد الاجتهاد القضائي .
وبصفة عامة يمكن القول بأن تطبيق مدونة الشغل مازال يحتاج لمجهود يمر عبر الحوار الجماعي بتشجيع المفاوضة من أجل إصلاح بعض مقتضيات المدونة وتفعيلها رقابيا وقضائيا . وخلق شروط انسجامها مع خصوصيات المقاولات والقطاعات بتشجيع إبرام الاتفاقيات الجماعية وإنجاز الأنظمة الداخلية وتفعيل أجهزة المشاركة المهنية .
كما تحتاج لمجهود حقيقي لتقوية أجهزة الرقابة والتفتيش ولإصلاح القضاء الاجتماعي .
وفي الأخير اختتمنا هذه الدراسة بأهم قرارات المجلس الأعلى وبعض قرارات محاكم الاستئناف مصنفة حسب موضوعاتها .
وفيما يلي الورقة التقديمية للموضوع التي ألقاها ذ عبد العـزيز العتيقي أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بفاس
لقد شكل إنجاز مدونة الشغل بالمغرب موضوع انشغال اجتماعي وحكومي منذ الاستقلال، وإذا كانت المفاوضات الجماعية التي عرفها المجلس الأعلى للاتفاقيات الجماعية منذ 1957 قد أفضت إلى توصيات هامة فقد اعتبرت كوسيلة مؤقتة لتعويض ثغرات تشريع الشغل إلى جانب بعض النصوص المستحدثة كنظام النقابات المهنية ونظام الاتفاقيات الجماعية وتشريع الشغل في القطاع الفلاحي وظل التفكير حول إعداد مدونة للشغل حاضرا في المطالب النقابية وفي انشغالات المهتمين بهذا المجال .
واستجابة لذلك بادرت الحكومة إلى التفكير في إعداد مشروع للمدونة منذ 1979 لم يكن إلا تجميعا للنصوص المتفرقة لتشريع الشغل .
وأمام امتداد المطالبة الاجتماعية بإصلاح هذا الأخير وتعدد ملاحظات ومطالب منظمة العمل الدولية بتحقيق الملائمة بين اتفاقياتها التي صادق عليها المغرب ما يقرب من 41 اتفاقية وبين تشريع الشغل المغربي وفي ظل شروط الاحتقان الاجتماعي الذي اتخذ شكل إضرابات قطاعية وعامة منذ 1980 بادرت الحكومة إلى إنجاز مشروع جزئي في 1993 أتمته في 1994 وعدلته في 1995 ثم في 1996 .
وفي ظل شروط التناوب التوافقي أعدت الحكومة نصا جديدا في 1998 وافتتح النقاش حوله بين الفرقاء الاجتماعيين وفي 1999 تمت إحالته على مجلس المستشارين إلا أن النقابات العمالية رفضته مقدمة تعديلات وصلت إلى 70% .
وهذا ما أدى إلى تعديل هذا النص من طرف الحكومة الجديدة في 2002 وقد أعطى اتفاق 30 أبريل 2003 بخصوص الحوار الاجتماعي دفعة قوية لمناقشة هذا المشروع في إطار لجنة ثلاثية ، حيث تم التوصل إلى نص توافقي أحيل على مجلس المستشارين فصودق عليه بالإجماع مع تعديلات طفيفة وأحيل بعده على البرلمان لتتم المصادقة عليه أيضا بالإجماع .
نحن إذن أمام صيغة توافقية لنص تم اعتماده دون مشاركة المهنيين والأخصائيين مما طرح مجموعة من التساؤلات والثغرات في إطار تطبيقه .
وإذا كان هذا التطبيق لم يحقق بعد التراكم المطلوب للوقوف على الاتجاه القضائي ومواقف الأطراف فإن هذه الفترة القليلة تسمح على الأقل لتسجيل بعض الملاحظات وفتح النقاش حول هذا التطبيق . والتوقف عند بعض أوجه الغموض والتضارب وإمكانيات التأويل أو التفسير لبعض النصوص الملتبسة .
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على قرارات المجلس الأعلى بصفة أساسية المنشور منها وغير المنشور وكذا بعض قرارات محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية في حالات خاصة .
كما عرضنا إلى مواقف الفرقاء الاجتماعيين في إطار هذا التطبيق موقف وزارة التشغيل ومنظمات المشغلين والنقابات العمالية ، وذلك من خلال التصميم التالي :
المحور الأول : معطيات حول مجال تطبيق مدونة الشغل .
المحور الثاني : تحديد مدة عقد الشغل وظروف العمل .
المحور الثالث : إنهاء علاقة الشغل .
المحور الرابع : في اتجاه تعديل مدونة الشغل موقف الفرقاء الاجتماعيين
المحور الأول : معطيات حول مجال تطبيق مدونة الشغل
وتتعلق هذه المعطيات بالمجال البشري والمهني والمجال الزماني .
لذلك قدمنا مؤشرات حول النسيج المقاولاتي بالمغرب لمعرفة حجم المقاولات وتوزعها القطاعي . فرصدنا هيمنة القطاع غير المهيكل والمقاولات الصغرى والمتوسطة وضعف التأطير والتدبير المقاولاتي ورصدنا حجم النزاعات الفردية والجماعية وموضوعاتها .
كما تتعلق هذه المعطيات بمجال سريان المدونة حيث لئن كانت هذه الأخيرة قد راهنت على فكرة التوحيد فإنها أبقت على الأنظمة الخاصة وهو ما يطرح مشاكل على مستوى الاختصاص القضائي وتداخل النصوص المطبقة بين المدونة والأنظمة الخاصة . وهو ما يطرح بصفة خاصة بالنسبة للمؤسسات العمومية وشبه العمومية وعمال البحر .
أما بالنسبة لسريان المدونة في الزمان فإذا كان واضحا بأنها تطبيق بأثر فوري فإن هذا التطبيق يثير مشاكل باعتبار طبيعة عقد الشغل المستمرة وباعتبار استمرار العمل بالنصوص التنظيمية التي لم تعدل . وقد قدمنا في هذا الصدد قرار للمجلس الأعلى اعتبرناه مخالفا لمبدأ الأثر الفوري للتطبيق .
المحور الثاني : تحديد مدة عقد الشغل وظروف العمل
يشكل تحديد مدة عقد الشغل موضوعا نزاعيا بامتياز وهو ما برز واضحا من خلال مفاوضات مدونة الشغل وكذا المطالبة بتعديلها من طرف أرباب العمل بحثا عن مرونة أكبر.
ويتضح من خلال أحكام المدونة أنها كرست ما استقر عليه الاجتهاد القضائي من اعتبار أن الأصل في عقد الشغل أن يكون غير محدد المدة ولا يمكن تحديد مدته إلا في حالات مبررة بطبيعة العمل .
ومع ذلك فإن تحليل نصوص المدونة تبرز مجموعة من الثغرات بخصوص حالات إبرام عقد الشغل المحدد المدة منها مثلا ازدياد نشاط المقاولة بصورة مؤقتة حيث تم حسم النقاش في القانون التونسي والفرنسي ويحتاج الأمر إلى تحديد وضبط في القانون المغربي أو على الأقل من طرف الاجتهاد القضائي وهو ما طالب به مفتشو الشغل أنفسهم .
ويبدو أن المبدأ المستقر في الاجتهاد القضائي هو ربط مدة عقد الشغل بطبيعة العمل وهو ما يطرح مشكل الإثبات حيث يختلف الوضع حسب الحالات وبناء على قناعة المحكمة التي عليها أن تعتمد على المعطيات الواقعية والموضوعية المرتبطة بكيفية إنجاز الشغل ، لكن هذا لا يمنع من ضرورة تدخل التشريع كما حصل في تونس وفرنسا لحسم النقاش بصدد عدة حالات كمفهوم العمل الموسمي وحالات التزايد المؤقت في نشاط المقاولة...إلخ.
أما بالنسبة لمقاولات التشغيل المؤقت فيجب الاعتراف بأننا أمام إشكالية كبرى لابد من حسمها .
أما بخصوص تحديد ظروف العمل فقد طرح مشكل بخصوص تحديد ساعات العمل من طرف مدونة الشغل حيث تم إنقاص المدة الأسبوعية من 48 إلى 44 س مما أثار جدلا ونزاعا بين أطراف الشغل خاصة بعد الزيادة في الحد الأدنى للأجور وقد عرضنا لهذا الجدل الذي احتدم بين الفرقاء الاجتماعيين وقدمنا مواقفهم ، وقد انتهى الأمر بالحسم التشريعي إذ صدر مرسوم في 3 يناير 2005 يميز بين الأجراء الذين تم تشغيلهم قبل 8 يونيه 2004 ( تاريخ سريان المدونة) والأجراء الذين تم تشغيلهم بعد هذا التاريخ .
وهكذا تنص المادة الرابعة من المرسوم المذكور على أنه " لا يترتب أي تخفيض في الأجر عند تخفيض مدة الشغل السنوية في القطاعات غير الفلاحية من 2496 س إلى 2288 س بالنسبة للأجراء الذين يزاولون عملهم في تاريخ 8 يونيه 2004 تاريخ سريان أحكام المدونة " .
وبالتالي فهذه الأحكام لا تسري على الأجراء الذين تم تشغيلهم ابتداء من التاريخ المذكور. وقد صدرت دورية عن وزارة التشغيل توضح كيفية تطبيق هذا المرسوم. وهي مبادرة مهمة من جانب الوزارة لتفعيل المقتضيات القانونية ورفع اللبس في مثل هذه الحالات.
المحور الثالث : إنهاء علاقة الشغل
لقد استوحت المدونة الأحكام المنظمة لإنهاء علاقة الشغل من المعايير الواردة في اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 158 إذ نصت المادة 35 من المدونة على أنه " يمنع فصل الأجير دون مبرر مقبول إلا إذا كان هذا المبرر مرتبطا بكفاءته أو بسلوكه أو تحتمه ضرورة سير المقاولة ..." . نحن إذن أمام أربع مبررات موضوعية كبرى لإنهاء علاقة الشغل .
أولا : الفصل لعدم الكفاءة
الواقع أن حالات عدم الكفاءة يختلط فيها ما يتعلق بسلوك الأجير المهني مع ما تتعلق بضعف القدرات الجسمانية والفكرية للأجير بسبب الحادث أو المرض . وبالتالي نعتقد أنه يجب التمييز بين الحالتين .
ففي الحالة الأولى نكون أمام خطأ تأديبي لأن الأمر يتعلق بسلوك إرادي .
أما في الحالة الثانية فنكون أمام انخفاض في قدرات الأجير بشكل يؤثر على أدائه ومردوديته .
وهكذا نجد أنفسنا أمام أوضاع متعددة .
فوصول الأجير سن التقاعد يعني انخفاض كفاءته حكما وبالتالي يجب إحالته على التقاعد ما لم يكن قد استكمل مدة التأمين لدى الضمان الاجتماعي التي تخول له الاستفادة من راتب الشيخوخة ( 3240 يوما) إذ يجب تمديد عمله إلى حين بلوغه هذه المدة .
وهذا ما يطرح إشكالا من الناحية العملية .
أما حصول الانخفاض في قدرات الأجير بسبب إصابته بمرض أو حادث فيجب التمييز هنا بين المرض العادي حيث أن تغيب الأجير بسبب مرضه لمدة تفوق 180 ي خلال 365 يوما تعطي للمشغل حق وإمكانية اعتباره مستقيلا أي فصله من العمل . وبالطبع فهذا الحكم لا يمكن تطبيقه بصدد العجز الناتج عن حادثة شغل أو مرض مهني إذ ينص ظهير6 فبراير1963 على أن طبيب الشغل يمكنه أن يقترح على المشغل تكليف الأجير ببعض الأعمال التي تتناسب مع قدراته .
لكن إلى أي مدى يعتبر هذا الاقتراح الطبي ملزما للمشغل ؟
وهل يعتبر رفض المشغل بمثابة فصل غير مبرر ؟
هذا ما نراه اعتمادا على مقتضيات ظهير6 فبراير 1963 ذي الصبغة الآمرة .
ثانيا : الفصل التأديبي
لقد أدخلت المدونة مجموعة من التعديلات الناصة على المقتضيات التشريعية السابقة في مجال الفصل التأديبي .
وضمن هذا الإطار تحدثنا عن الأخطاء التأديبية الجسيمة وصنفناها إلى الأخطاء الجسيمة حسب المادة 37 والأخطاء الجسيمة حسب المادة 39 ولاحظنا عدم دقة التحديد في بعض الحالات والمشاكل العملية التي تطرحها بعضها مثل نقص المردودية وعدم الاستجابة لتغيير ظروف العمل وعرقلة حرية العمل ...إلخ..
وقد استحضرنا في هذا النقاش الاجتهاد القضائي المتوفر سواء الذي صدر في ظل المدونة أو سابقا ، كما عرضنا وجهات نظر الفرقاء الاجتماعيين وخاصة مفتشي الشغل .
وقد استخلصنا من ذلك بأن المجال التأديبي مازال يحتاج لضبط أكثر وخاصة عن طريق الأنظمة الداخلية للمقاولات والاجتهاد القضائي لكن ذلك لا يلغي ضرورة التدخل التشريعي لسد بعض الثغرات في المادتين 37 و39 م.ش .
وقد خصصنا حيزا كبيرا لمسطرة الفصل إذ تعرضنا لطابعها الإلزامي كما أكد على ذلك الاجتهاد القضائي مبدين تخوفنا من أن يطالها ما طال الفصل 6 من النظام النموذجي والذي تحول بصدده العمل القضائي ليعتبر مسطرته مجرد وسيلة إثبات وليست إجراء جوهريا .
غير أن هذا الطابع الملزم ليس مرتبطا بالنظام العام بل لابد من إثارته من قبل الأجير الذي عليه بدوره احترام المسطرة وإلا فقد ألحق الدفع بعدم احترامها وفي هذا الحكم اختلاف في الاجتهاد القضائي .
وإذا كانت صياغة المواد 62 إلى 65 توحي بطابعها الآمر الذي ينسحب على جميع مراحل المسطرة فإن تطبيق هذه الأخيرة يثير العديد من المشاكل المرتبطة بالآجال وموقف الطرفين في إطار مراحل هذه المسطرة. وقد لاحظنا أن القضاء قد حسم في بعض هذه الإشكالات لكن بقي البعض الآخر منها يحتاج للتوضيح والضبط لضمان حسن التطبيق ومن ذلك الفقرة الأخيرة من المادة 62 .
وفي إطار هذه المسطرة تطرح إشكالية الصلح سواء كان مباشرا أو عن طريق مفتش الشغل أي الصلح التمهيدي والتعارض الموجود بين المادتين 41 و532 .
فبالنسبة للصلح المباشر كانت المدونة واضحة في تنظيمها له إذ خرجت عن القواعد العامة للصلح والواردة في ق.ل.ع وهو خروج مبرر باسم النظام العام الاجتماعي الذي يقضي بحماية الصفة المعيشية لمستحقات الأجير ، لكن يبقى التساؤل واردا حول التنازل عن الدعوى الذي قد يستصدره المشغل من الأجير دون أن يكون متضمنا أو محيلا على الصلح هل سيكون على المحكمة أن تقبله طبقا لقواعد المسطرة أم أنها ستبحث عما إذا كان نتيجة لصلح ؟ .
أما بالنسبة للصلح التمهيدي الذي يباشره مفتش الشغل فإن التنافر قائم بين المادتين 41 و532 وهو ما يؤثر سلبا على اعتماد مسطرة هذا الصلح لكن هذا التنافر يمكن رفعه من خلال التأويل ، ذلك أننا نعتبر بأن المادة 532 وردت بصيغة عامة تتناول مختلف النزاعات التي تثور بين المشغل والأجير ويتدخل فيها ـ صلحا ـ مفتش الشغل ، بينما المادة 41 وردت خاصة بحالة الإنهاء الانفرادي لعقد الشغل حيث يكون محضر الصلح التمهيدي حاسما للنزاع بصورة نهائية .
ويساعدنا على هذا التأويل الرجوع إلى مفاوضات مشروع المدونة ، إذ أن الفقرة الخامسة من المادة 41 لا نجدها في مسودة المشروع. بحيث أضيفت بعد المفاوضات وما يؤكد ذلك صياغتها التي تفتقر لقواعد اللغة القانونية .
وعلى كل يبدو أن الاتجاه القضائي لدى محاكم الموضوع يعتمد هذا التفسير ولسنا ندري ماذا سيكون عليه موقف المجلس الأعلى .
ثالثا : الفصل لأسباب اقتصادية أو تكنولوجية أو هيكلية .
نسجل في هذا الصدد أن المسطرة التي أقرتها مدونة الشغل قريبة من المسطرة التي كان ينص عليها المرسوم الملكي لغشت1967 والتعديلات التي أدخلت عليه كانت من مستلزمات احترام مقتضيات اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 158 التي تستوجب الحوار والتفاوض مع ممثلي الأجراء قبل الفصل للأسباب المذكورة .
لكن ما يلاحظ أن الإبقاء على الإذن والترخيص بيد السلطة الإقليمية قد يضع مجموعة من العوائق كما طرح مجموعة من الانتقادات . وعلى كل فهذه المسطرة محدودة في مجال تطبيقها إذ لا تطال إلا المقاولات التي تشغل عشرة أجراء دائمين على الأقل كما لا تطال المؤسسات العمومية وشبه العمومية. وهذا ما يضعنا أمام تعدد الأنظمة الضابطة للفصل والإغلاق للأسباب المذكورة .
وفي إطار مناقشتنا لهذه المسطرة كان لابد أن نتوقف عند إشكاليتين أساسيتين :
الأولى تتعلق بسكوت عامل الإقليم عن الرد على طلب الإذن خلال الأجل المحدد له لأن المادة 67 تفيد حسب ظاهر صياغتها بأن الكتابة مقصورة على قرار الإذن الذي يجب أن يكون معللا .
لكن إذا حللنا المواد 66 وما بعدها واستحضرنا روح النص وإرادة المشرع فإن ذلك يفضي بنا إلى القول بأن الرفض بدوره يجب أن يكون مكتوبا ومعللا وبالتالي فالسكوت هنا يجب تأويله على أنه رفض للإذن ، وعلى كل فقرار العامل يعتبر قرارا إداريا قابلا للطعن كسائر القرارات الإدارية .
أما الإشكالية الثانية فتتعلق بتداخل هذه المسطرة مع مساطر معالجة صعوبات المقاولة المنصوص عليها في مدونة التجارة ، ذلك أن هذه الأخيرة تستوجب تطبيق المسطرة المنصوص عليها في مدونة الشغل كلما تطلبت المعالجة فصل الأجراء لأسباب تعود لوضعية المقاولة .
فكيف إذن يمكن إعمال هذه الإحالة ؟ هل تتوقف مسطرة المعالجة إلى حين سلوك مسطرة مدونة الشغل ؟ هذا ما تقتضيه مدونة التجارة .
وإذا كان الأمر كذلك فهل المشغل هو الذي ينجز المسطرة أم السنديك ؟
ثم ماذا لو اعتبر القاضي المنتدب بأن ما اقترحه عليه السنديك كسبيل لإنقاذ المقاولة من فصل بعض الأجراء هو المسلك الوحيد موضوعيا لإنقاذ المقاولة .
دون شك فإن هذا التداخل بين المسطرتين يطرح مشاكل عملية لابد من تدخل تشريعي لحسمه .
رابعا : إشكالية المغادرة التلقائية
لقد اعتبرنا المغادرة التلقائية إشكالية حقيقية سواء على المستوى النظري أو العملي . ذلك لأن موقعها ضمن النصوص المنظمة لطرق إنهاء عقد الشغل يبدو مهتزا وهو وضع يشبه الإقحام .
فهل تعتبر تغيبا غير مشروع ؟ وفي هذه الحالة يجب تطبيق مسطرة الفصل مادام الأمر يتعلق بخطأ جسيم حسب المادة 39 م.ش .
وهل تعتبر استقالة ؟ هذه الفرضية غير منسجمة مع التنظيم الذي استحدثته مدونة الشغل للاستقالة .
أين إذن نموقع المغادرة التلقائية مادامت مفهوما قانونيا جديدا لم يعرفه التشريع القديم.
لقد انطلقنا من رصد هذا المفهوم في إطار الاجتهاد القضائي واعتبرناه فعلا إنتاجا قضائيا ابتدعه بمناسبة التخلي عن الصبغة الجوهرية والآمرة للفصل 6 من النظام النموذجي بعدما كان الاجتهاد القضائي متشبتا بها .
وبالتالي اعتمد هذا المفهوم من طرف المشغلين كدفع في مواجهة ادعاء الأجير بكونه فصل تعسفيا دون احترام المسطرة الواردة في الفصل6 من ن.ن.
وتكريسا لهذا المنحى ورد النص على المغادرة التلقائية بصورة محتشمة كما تبرزها صياغة المادة 63 ، إذ أضيفت المغادرة التلقائية في آخر المادة بطريقة تثير التساؤل وهذا لا يتناسب حقيقة مع الموقع الذي أفردته المدونة للصور الأخرى لإنهاء عقد الشغل .
وقد عقدنا في هذا الصدد مقارنة بين المغادرة التلقائية والتغيب عن العمل والاستقالة واستخلصنا بأن الإبقاء على إمكانية الدفع وإثبات المغادرة التلقائية من طرف المشغل يفرغ مسطرة الفصل التأديبي والاستقالة من محتوياتها ويضعف من صبغتها الآمرة .
لذلك يبدو في نظرنا أنه من الإنصاف الرجوع على الأقل إلى الاجتهاد القضائي السابق خاصة قرار المجلس الأعلى رقم 1538/89 بتاريخ 18/9/1989 ورد فيه على الخصوص بأنه " تطبيقا لمقتضيات الفصل السادس من النظام النموذجي فإن الطرد يكون تعسفيا حتى مع تشبث المشغل بالمغادرة التلقائية ما لم يثبت أن هذا الأخير قد سلك المسطرة المنصوص عليها في الفصل المذكور" .
هذا فضلا عن قرارات أخرى للمجلس منها :
ـ قرار عدد 707 في ملف اجتماعي 5112 .
ـ وأيضا قرار 760 في 23/12/1985 ملف 6304/95 .
ـ وقرار 704 في 12/11/1984 ملف 5112 .
والحقيقة أن بحثنا أفضى إلى التوصل بأن النص على المغادرة التلقائية لم يكن واردا في مسودات المشاريع السابقة على المشروع المعتمد من طرف الفرقاء الاجتماعيين عبر مفاوضاتهم ، بمعنى أنه من إضافات آخر ساعة ومن تم تبدو نشازا في النسق القانوني المنظم للفصل من العمل .
المحور الرابع : في اتجاه تعديل مدونة الشغل وإصلاح القضاء الاجتماعي
من الملفت للنظر أن المدونة قد تعرضت للانتقاد بصورة مبكرة من طرف الفرقاء الاجتماعيين إما بسبب غموض أو تضارب بعض نصوصها أو صعوبة تطبيقها أو عدم ملاءمتها مع ظروف ومتطلبات المقاولات خاصة مع التأثيرات المتزايدة للعولمة على القدرة التنافسية للمقاولات المغربية .
كما أن القضاء الاجتماعي بدوره ـ وإذ شكل موضوعا مغيبا في الحوار التفاوضي حول المدونة ـ قد تعرض للانتقاد ومطالب الإصلاح .
وقد حاولنا في هذا المحور استعراض مواقف الفرقاء الاجتماعيين وهكذا بدأنا بوزارة التشغيل التي أنجزت ورقة بناء على ملاحظات مفتشي الشغل وحددت فيها بعض الثغرات واقتراحات المعالجة .
كما عرضنا لموقف الكونفدرالية العامة للمقاولات بالمغرب التي أنجزت كتابا أبيض في شكل مذكرة مطالب إلى الحكومة تناولت في جزء هام منه إصلاح مدونة الشغل وتعديلات بما يضمن مرونة أكبر ويساهم في تنمية القدرة التنافسية للمقاولة المغربية .
كما توقفنا عند مطالب النقابات العمالية التي تتناول المدونة ، ورغم أن هذه المنظمات لم تنجز مذكرة خاصة بالمدونة فقد حاولنا استنباط واستقراء مطالبها المتعلقة بالمدونة من مجموعة من الوثائق إما مذكرات أو بيانات أو مداخلات لمسؤولي هذه النقابات .
وقد استخلصنا من ذلك أن تطبيق المدونة يشكو من ثلاث عوائق :
1 ـ المعطيات الواقعية التي تعرقل تطبيق المدونة والراجعة لسلوك المقاولات وتعاملها سلبيا مع أحكام المدونة. ولضعف جهاز تفتيش الشغل بسبب فقر وسائله المادية والبشرية والقانونية.
2 ـ المعطيات القانونية الراجعة لعدم وضوح بعض نصوص المدونة وتضاربها وعدم انسجام بعضها مع معطيات النسيج المقاولاتي .
3 ـ ضعف فعالية القضاء الاجتماعي بسبب عدم إصلاح قواعد المسطرة وعدم التوفر على قضاء متخصص وقضاة متخصصين وضعف توحيد الاجتهاد القضائي .
وبصفة عامة يمكن القول بأن تطبيق مدونة الشغل مازال يحتاج لمجهود يمر عبر الحوار الجماعي بتشجيع المفاوضة من أجل إصلاح بعض مقتضيات المدونة وتفعيلها رقابيا وقضائيا . وخلق شروط انسجامها مع خصوصيات المقاولات والقطاعات بتشجيع إبرام الاتفاقيات الجماعية وإنجاز الأنظمة الداخلية وتفعيل أجهزة المشاركة المهنية .
كما تحتاج لمجهود حقيقي لتقوية أجهزة الرقابة والتفتيش ولإصلاح القضاء الاجتماعي .
وفي الأخير اختتمنا هذه الدراسة بأهم قرارات المجلس الأعلى وبعض قرارات محاكم الاستئناف مصنفة حسب موضوعاتها .