MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




الجمال والإبداع والقانون

     

ذة نجوى ادريوش



 
تشكل نظرية الجمال إحدى ركائز الفلسفة المعاصرة، باعتبارها رافدا من روافد العقل الثلاث حسب التقسيم الكانطي، فقد ناقش المبادئ النظرية فيما سماه العقل المحض، أو العقل الخالص، أو العقل المجرد، وذلك في كتاب "نقد العقل المحض"، باعتباره مجموعة من المبادئ التي تعتبر معطيات قبلية لا تحتاج إلى خبرة أو تجربة، وتناول ملكة تطبيقها في كتاب "نقد العقل العملي" حيث ناقش القانون الأخلاقي الحاكم لأفعال الإنسان وسلوكاته، وهي سلوكات لا بد لها من إرادة، وهذه لا بد لها من حرية، لذلك كان كل من القانون الأخلاقي، والإرادة، والحرية، معطيات لابد من وجودها، تماما مثل المعطيات التي يحتاج إليها كل حساب رياضي.

وإذا كان العقل العملي إنزالا للعقل المحض على أرض الواقع، فإنهما محتاجان لا محالة إلى جسر يربط بينهما، فينطلق مما هو نظري ويطبقه على أرض الوقائع، وهنا تأتي أهمية الكتاب الثالث لكانط، وهو كتاب "نقد ملكة الحكم"، ففيه تناول ملكة الحكم على الأشياء، باعتبارها الموجه الأساسي لسلوك الإنسان، لأنه لا يقدم على فعل قبل أن يحدد هل هو فعل جيد أم سيء، خير أم شرير، جميل أم قبيح، لذلك تساءل كما تساءل في الكتابين الآخرين، كيف يمكن البحث في مقدمات هذه الملكة وتحديد قوانين عملها؟ وهل هي قابلة للتقنين أصلا؟
والحقيقة أن التقنين هنا يعني إخضاع ملكة الحكم لقواعد علمية، وهذا يستدعي أولا تعريف الجمال، ومعرفة كيفية تأثيره في الواقع، ثم السؤال عن علاقته بالقانون، باعتباره الضابط الحضاري لكل سلوكات الإنسان.

 
I
مفهوم الجمال

 
أ ـ الجمال والنزعة الشخصية

أطلق الألماني ألكسندر بومجارتن على علم الجمال مصطلح الإستيطيقاAisthethica ، وهو مصطلح عرفه العرب قبله في تراجمهم للفكر اليوناني، لأنه مأخوذ من الكلمة اليونانية  Aisthetikos التي تعني الإدراك الحسي أو المعرفة الحسية.

ما علاقة الجميل بأوصاف أخرى مثل: الرائع، والساحر، والفاتن، والجليل، والفخم، والرشيق... إلخ؟
وما العلاقة بين وصفنا للمرأة بأنها جميلة، وللسيارة بأنها جميلة؟
هل  الجمال هنا وصف مجرد يقبل التطبيق على عدة أشياء، أم إنه يتغير بتغير الموصوف؟
هل هناك طريقة مجردة للنظر إلى الأمور الجميلة، أم إن كلا منا له طريقته في تذوق الجمال؟
لقد حاول الفكر توحيد حكم الجمال بالابتعاد عن الموقف النفعي أو العملي (البرغماتي)، لأنه لا يهتم بالأشياء لجمالها، بل لغايات نفعية يحققها. فالتاجر يقيس جمال الأشياء  بما تدره عليه من ربح في تداولها، والفلاح يقيس جمال الأرض بمدى استجابتها لما سيزرعه فيها، وهذا المعيار النفعي قد يغزو المجال الفني نفسه، فالممثل أو المخرج أو المنتج قد يعملون في فيلم أو مسرحية لأنها ستلاقي نجاحا وتحقق مردودا ماليا، وقد لا يعملون في غيرها ولو كان جميلا، إذا كان من المحتمل ألا يقبله الجمهور.
فهل يتأسس الذوق الجمالي على موقف شخصي؟

قد نحكم على أغنية بأنها جميلة، لأنها ترتبط في أذهاننا بذكريات عزيزة، وقد نحكم على صورة بأنها جميلة لأنها تجمعنا بشخص عزيز، وقد نحكم على فيلم أو مسرحية بالجمال لأننا نرى أنفسنا في إحدى شخصياتها، وفي هذا يقول إدوارد بولو: "إن الرجل الذي يذهب إلى المسرح لمشاهدة مسرحية "عطيل" وبدلا من أن يركز تفكيره على المسرحية ، يفكر فقط في التشابه بين موقف "عطيل" وموقفه الشخصي مع زوجته، فإنه في الواقع لا يشاهد المسرحية من منظور استاطيقي (جمالي)، ذلك لأن موقفه هنا هو موقف شخصي، في حين أن الموقف الإستاطيقي يتطلب منا أن نستجيب له، ولكل ما يقدمه لنا، استجابة استاطيقية، وليس من حيث علاقته بحياتنا الشخصية "(إمام عبد الفتاح إمام 2000 ص 13).

يرى ولترستيس أنه لايوجد خيط رابط بين الأشياء الجميلة، بمعنى أن وصف الجمال لا يربط الأشياء الجميلة، فالوردة جميلة والمرأة جميلة والسيارة جميلة، وليس بينها من رابط عن طريق فكرة الجمال وحدها، ذلك لأن الأشياء الجميلة دائمة عينية، بمعنى أننا لا نحوز فكرة الجمال في أذهاننا مجردة، ونطبقها على الأشياء، بل يجب أن نعاين كل شيء على حدة لنحكم عليه بالجمال أو القبح.
وهذا مايميز بين الفن والعلم، فالفن ذوق يرتبط بشيء، بينما العلم تصورات ومناهج نظرية.

 ب ــ ارتباط الجمال بالإدراك

نظرا لأن الإدراك قد يتعلق بدواخلنا فيما يخص الإرادة والانفعال والحب والكره... إلخ، وقد يظهر في الخارج عندا يتعلق بأشياء العالم الخارجي، فإن له علاقة بالأخلاق المرتبطة بالحرية والإرادة ، وهما من دواخل النفس، فعندما نصف شخصا بأنه خير أو جميل، فإنما نصف في الحقيقة أخلاقه، أو مدى استجابته لقانون الأخلاق المجرد بالمفهوم الكانطي.

ج ــ ارتباط الجمال بالتصورات المجردة

بعض مدارس الفكر الإنساني تقلل من أهمية التصور أو المفهوم المجرد في معرفة الجمال، وتعتمد بدله "الحدس"، والمسألة تكاد تكون خلافا في الألفاظ لا غير، فنحن لا نستطيع أن ننكر أن الحكم على شيء بأنه جميل، هو حكم يرتبط بالمعرفة، بمعنى أنه عملية معرفية، حيث نقول: "إنه جميل"، تماما كما نقول: "إن الطلبة يوجدون بالقاعة"، بمعنى أننا قلنا ذلك لأننا أدركنا وجودهم وعرفناه.
ونظرا لأن العملية المعرفية تتأسس على عنصرين هما الحس والفهم، أي الاحتكاك بالحواس وتطبيق مفاهيم وتصورات العقل على هذا الاحتكاك، فإن للحكم الجمالي علاقة بالمفاهيم والتصورات.
 إذن، فما الذي يميز الحكم الجمالي عن الحكم المعرفي العادي في فروع اللعلم المختلفة؟

لهيجل تصوير مساعد في هذا الخصوص، فهو يقول إن الجمال هو إشعاع الفكرة من خلال الموضوعات الحسية، وإذا جردنا هذه الفكرة من طبيعة المطلق أو الروح الذي أغرم به هيجل: سنقول إن الحكم الجمالي حكم معرفي، لكنه حكم من نوع خاص، لأنه حكم له بريق مشع، بمعنى أنه حكم متميز يجمع بين الفكر والواقع. إنه النظر إلى الواقع من جهة الحسن والجمال، لا من الجهة العملية أو النفعية المحضة.

إن الحكم الجمالي هو المنفذ الذي تمر به الذات إلى الإبداع والتغيير والتقدم، لذلك يعرف ولترستيس الجمال بأنه "امتزاج مضمون عقلي مؤلف من تصورات تجريبية غير إدراكية، مع مجال إدراكي، بطريقة تجعل المضمون العقلي وهذا المجال الإدراكي لا يتميز أحدهما عن الآخر".

لقد قلنا إن الجمال يرتبط بالأعيان لا بالأفكار المجردة، بمعنى أنه يتعلق بأفراد الأشياء. وإذا علمنا أن الأشياء في الوجود متعددة وكثيرة، سندرك أن الأحكام الجمالية لن تنضب أبدا، ومعنى هذا أن الإنسان لن يكف عن الإبداع في يوم من الأيام.

 
II
الحكم الجمالي والحكم القانوني

إذا كان الجمال هو منطلق الحكم على الأشياء، وبالتالي اتخاذ القرار بالسلوك على نحو معين، فإن الإنسان وهو يحكم على ما حوله، ويتخذ حكمه مصدرا لسلوكه نحو الآخرين، لا بد أن يراعي مجموعة من العناصر، منها شعور الآخرين، أو ما يسميه كانط: المعاملة بالمثل، وهي قاعدة نصت عليها جل الأديان، وتوجد فيها نصوص في التوراة أشار إليها كانط صراحة، كما توجد فيها نصوص بالأناجيل والقرآن الكريم والسنة النبوية.

يقول رائد الفلسفة العقلية إيمانويل كانط إن القانون الخلقي قانون ثابت، فقد ناقش ثلاثة مبادئ أساسية اعتبرها مسلمات لكل عقل عملي ممكن، لا يمكن تقديم البرهان المادي عليها، لكنها بالنسبة لكانط من الضروريات، وفق المنهاج الرياضي المعتمد من طرفه، وهي:

1- الإرادة، لأن الفعل الإنساني دون إرادة توجهه وتحدد مداه، سيكون من قبيل العبث. والإرادة عند كانط هي "الاستقلال الذاتي، أي الخاصية التي تتميز بها الإرادة، فتجعل منها قانونا لنفسها، وبذلك فإن"الإرادة نوع من العلية تتصف بها الكائنات الحية"، و"الحرية هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية، فتجعلها قادرة على الفعل وهي مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها".

2-الحرية، لأن الإرادة بدون حرية مجرد لغو. ولا شك أن ما يثير الارتباك في فهم علاقة الحرية بالقانون الأخلاقي هو عدم التمييز بين الحرية باعتبارها تصورا وفكرة، وبين الحرية باعتبارها فعلا، وكانط باعتباره فيلسوفا مثاليا، كان يقصد إلى الحديث عن فكرة الحرية لا عن تطبيقها، فإن"جميع بني الإنسان يتصورون أنفسهم أحرارا في إرادتهم، من هنا تأتي جميع الأحكام على الأفعال كما كان ينبغي لها أن تحدث، حتى لو لم تحدث على هذا النحو. ومع ذلك فليست هذه الحرية تصورا مستمدا من التجربة، ولا يمكنها تلك المطالب التي تتمثل في افتراض الحرية على أنها مطالب ضرورية" (كانط، 2002،ص 165).

3-القانون الأخلاقي، باعتباره مجموع القواعد العليا التي تضبط السلوك الإنساني بما فيه من إرادة وحرية، وتشكل وازعا يدفع الفرد إلى التعايش مع الجماعة، على ضوء واجبات صارمة تتعالى على الرغبات الشخصية. وحسب كانط، فإن "الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة لقوانين أخلاقية شيء واحد بالذات"(كانط، 2008، ص 248).

على ذلك، فقد ميز كانط، في العقل العملي، بين نوعين من القوانين في ضبط السلوك البشري:

الأول: القانون الأخلاقي الذي يوجه سلوك الأفراد من داخل ذواتهم، ويدفعها نحو احترام النفس والغير، سواء كان هذا الغير فردا أو مؤسسة، وهو قانون لم يشرعه عقلنا ولا السلطة العامة، بل هو قانون مفترض، ثابت، صارم، مسلم به، وفي غيابه لا يمكن الحديث عن الإرادة والحرية حسب كانط.

الثاني: القانون باعتباره مجموعة القواعد التي تسنها السلطة التشريعية، أي القواعد المنظمة لسلوكات الأفراد والمؤسسات تحت طائلة الجزاء، وقد بناها كانط على ضرورة المعاملة بالمثل، فإن الإنسان إذا انعدم لديه الزارع الأخلاقي الذاتي، أو تجاوز في أفعاله وأضر بالغير، لا بد أن يجد أمامه القانون لحماية المجتمع من أفعاله (مرقس،1987، ص 23- السنهوري، 1968، ص 37) .

أ – نسبية الحكم الجمالي والأخلاقي

 لم تنه الثورة الفرنسية الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الفرنسي، ففي المجال السياسي طبع القرن التاسع عشر بسقوط الملكية تارة وعودتها تارة أخرى، حيث تعاقبت على الحكم السياسي بعد الثورة عن طريق الملوك لويس الثامن عشر و شارل العاشر ثم لويس فيليب الأول الذين تخلل فترات حكمهم النظام الإمبراطوري ممثلا في نابليون الأول والثاني ثم الثالث، كما تخللته الجمهورية وصولا إلى الجمهورية الخامسة التي استمرت إلى اليوم، فظل المجتمع يغلي بين أنصار الأنظمة الثلاثة.

 وفي المجال الاقتصادي استمر النزاع بين أنصار النظام الإقطاعي الذي ضعف بسقوط الملكية وإلغاء القوانين والمؤسسات التي كانت تحميه، وبين النظام الجديد المفعم بروح الثورة التي بثها في فكر التنوير طيلة القرن الثامن عشر، فعانى المجتمع من الخلاف بين المحافظين من الطبقات الارستقراطية، وبين الثوار من الطبقات الوسطى والفقيرة.

 وفي المجال الاجتماعي لم تستطع الثورة تغيير العقائد والأفكار بسهولة، بسبب تواضع وسائل الإعلام آنئذ، لذلك استمر الانقسام بين أنصار التبعية الدينية للكنيسة وسلطتها في تسيير الأمور الدنيوية كما كانت تفعل في الماضي، وبين أنصار الفكر الحر الذي يؤمن بحل مشاكل الحياة استنادا إلى العقل وحده، خاصة مع المد البروتستانتي الذي دفع إلى الاعتقاد بأن كل فرد يستطيع بلوغ الحقيقة الدينية بمفرده من الكتاب المقدس دون حاجة إلى الكنيسة، وصولا إلى نحت مصطلح العلمانية في منتصف القرن التاسع عشر.

وقد دفعت هذه التناقضات بكثير من علماء القرن التاسع عشر بفرنسا إلى صياغة مناهج جديدة تهدف إلى الإصلاح، فقد كان مونتسكيو قد تحدث عن مبدأ فصل السلط المبني على الحرية التي لا تحدها إلا الحرية، وعلى الاختصاص الذي  يحصره اختصاص آخر يوازيه (مونتسكيو، 1953، ص 110)، وقبيل الثورة الفرنسية وبعدها، كان كوندورسي مشغولا بضرورة إعادة بناء العلوم الإنسانية لتقف على أساس متين كالعلوم الحقة، فقسم مراحل تطور الفكر البشري إلى عشرة بدأت بمرحلة الصيد التي تبعتها مرحلة الرعي فالزراعة ثم  العلوم والفلسفة اليونانية ثم الحضارة اليونانية التي جاء بعدها الجمود العلمي ليتلوه اختراع الطباعة ثم التحرر الفكري والإصلاح الديني ثم الثورة الفرنسية وبعدها المرحلة الأخيرة التي هي مرحلة السعادة لجميع الناس، وقد قال في خطابه أمام الأكاديمية الفرنسية عام 1872:"الحق أنه لا يسعنا ونحن نتأمل طبيعة العلوم الأخلاقية، أن نمنع أنفسنا من أن نرى أنه بالاستناد إلى ملاحظة الأحداث مثلما هو الشأن في العلوم الفيزيائية، يجب أن يتبع المنهاج نفسه، وأن توظف لغة مضبوطة ودقيقة كذلك، وأن تبلغ درجة اليقين نفسها"Baker, 1988,p34)). وقد اقتفى أوجست كونت خطى أستاذه سان سيمون واعترف بفضل سلفه كوندورسي (Comte,1839,p63)، فذهب إلى أن هناك مرحلتان عاشتهما البشرية، هما المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزية، وبعدهما دخل العقل مرحلته الثالثة، وهي المرحلة الوضعية التي ساد فيها تطبيق المناهج العلمية في دراسة الواقع، وذلك بعد الاكتشافات العلمية التي حققتها أوربا على يد علماء أمثال كوبرنيك وجاليلي ونيوتن، لذلك قال إن هذه المناهج التي عرفت في علوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء، يجب أن يدرس بها المجتمع الفرنسي خاصة والمجتمعات الإنسانية على وجه العموم، وذلك بواسطة أطر وحدود وضعية، حيث اقترح ما سماه: "الدين الوضعي"(Baumann, 1903, p75)،وقدم دروسه في "الفلسفة الوضعية" بمقدمة مستقلة تحت عنوان :"الروح الوضعية"(Comte,1844,p2)، فسمى العلم الجديد الذي يريد استخدامه في دراسة المجتمع بـ"الفيزياء الاجتماعية"، غير أن استعمال هذا الاسم من قبل معاصريه جعله ينحت اسما آخر هو "علم الاجتماع" الذي اختار له إيميل دوركايم موضوعا أنسب ليكون محور بحثه، وهو "الظواهر الاجتماعية"(دوركايم 2011، ص49)، حيث اهتم بالتغيرات التي تؤول إلى التحولات الاجتماعية، وركز بصورة خاصة على أهمية التضامن الاجتماعي والأخلاقي، فبحث في الأواصر التي تشد بعض المجتمع إلى بعضه الآخر وتمنعه من التشرذم والفوضى، لذلك وصل إلى أن دارس علم الاجتماع يجب أن يركز بحوثه على الوقائع والظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء تدرس على غرار ما تدرس به أشياء الطبيعة من مناهج طبيعية وفيزيائية وكيميائية، لتشكل بنيات وأنساق تقود إلى استخلاص قوانين علمية، بل إنه خص التربية الأخلاقية بكتاب مستقل، لمحاولة فك ارتباط الأخلاق بالدين، رغم انه اعترف بصعوبة ذلك، إذ قال إن "الأخلاق والدين قد ارتبطا ارتباطا وثيقا منذ أمد بعيد، وظلا كذلك طوال قرون عديدة متشابكين، فلم تعد العلاقات التي تربطهما علاقات خارجية أو ظاهريو، ولم يعد من السهل فصلهما بعملية يسيرة كما نتصور"(دوركايم، 2015، ص 10). وقد استمر ماكس فيبر في تأسيس علم الاجتماع، واختار الفعل الاجتماعي بدلا من البنية الاجتماعية، فقد انتبه إلى طغيان التطور الذي عرفته أوربا على الحياة الاجتماعية التي تنكرت للقواعد والعادات والطرق القديمة، وهذا هو ما يميز الرأسمالية في نظر فيبر، وهو ما جمعه في عبارة "إبطال السحر"، ولم يميزها الصراع الطبقي كما ذهب إلى ذلك ماركس، غير أنه مع ذلك توجس خيفة من مآل الترشيد العقلاني للحياة، لأنه توقع له مزيدا من تدمير الروح الإنسانية، سعيا إلى جمع الثروة وتطوير المنهاج العلمي وتوطيد البيروقراطية (غدنز، 2005، ص 70) .

والغاية أن نتبع نفس الطريق في تأسيس مفاهيمنا حول الدين أو الاخلاق، وفق مناهج علمية تتوخى دراسة الظواهر الاجتماعية الناتجة عن تلك المفاهيم بموضوعية، على غرار ما سلكه علماء الغرب الذين ذكرنا نماذج منهم.

ب أثر نسبية الحكم الجمالي

 قدمت دراسات كل من بومغارتن، ووالتر ستيس، وجورج سانتيانا في علم الجمال، لبنات مهمة لتكملة نظرية الحكم الجمالي وتخليصها من الصلابة التي لحقتها من خلال أفكار المدرسة الكانطية. فقد أطلق الألماني ألكسندر بومغارتن على علم الجمال مصطلح الأستطيقا، وهو مصطلح عرفه العرب قبله في تراجمهم للفكر اليوناني، لأنه مأخوذ من اللفظ اليوناني  Aisthetikos التي تعني الإدراك الحسي أو المعرفة الحسية (ستيس، 2000، ص9).

وقد لا تثير مسألة الجمال إشكالا إذا ما نظر إليها من كل فرد على حدة، لكن الإشكال يثار عندما نريد مناقشة الجمال وفق معيار علمي مجرد، هذا إذا سلمنا بإمكان خضوع الجمال للدراسة العلمية، كما هو دارج في وقتنا بسائر الفنون. هنا تنشأ أسئلة حول علاقة الجميل بأوصاف أخرى من قبيل: الرائع والساحر والفاتن والجليل والفخم والرشيق...الخ. فهل الجمال هنا وصف مجرد يقبل التطبيق على عدة أشياء أم إنه يتغير بتغيير الموصوف؟ وهل هناك طريقة مجردة للنظر إلى الأمور الجميلة، أم إن كلا منا له طريقته في تذوق الجمال؟ بمعنى: هل يتأسس الذوق الجمالي على موقف شخصي؟ 

لقد حاول الفكر الإنساني توحيد أحكام الجمال بالابتعاد عن الموقف النفعي أو العملي (البراغماتي)، لأنه لا يهتم بالأشياء لجمالها المحض، بل لغايات نفعية تحققها. فالتاجر يقيس الأشياء بما تدره عليه من أرباح في تداولها، والفلاح يقيس جمال الأرض بمدى استجابتها لما سيزرعه فيها، وهذا المعيار النفعي قد يغزو المجال الفني نفسه، فالممثل أو المخرج أو المنتج...قد يعملون في فلم أو مسرحية أو عرض، كائنا ما كان، لأنها ستلاقي نجاحا وتحقق مردودا ماليا، وقد لا يعملون في غيرها ولو كان جميلا، إذا قدروا أن من المحتمل ألا يقبله الجمهور. وقد نحكم على أغنية بأنها جميلة لأنها ترتبط في وجداننا بذكريات غالية، وقد نحكم على صورة بأنها جميلة لأنها تجمعنا بشخص عزيز، وقد نحكم على فلم أو مسرحية بالجمال لأننا نرى أنفسنا في إحدى شخصياتها، وفي هذا يقول إدوارد بولو E.Boulough : "إن الرجل الذي يذهب إلى المسرح لمشاهدة مسرحية عطيل، وبدلا من أن يركز تفكيره فقط في المسرحية، يفكر في التشابه بين موقف عطيل وموقفه الشخصي مع زوجته، فإنه في الواقع لا يشاهد المسرحية من منظور إستاطيقي (جمالي)، ذلك لأن موقفه هنا موقف شخصي، في حين أن الموقف الجمالي يتطلب أن نستجيب له ولكل ما يقدمه لنا استجابة جمالية وليس من حيث علاقته بحياتنا الشخصية"(ستيس، 2000، ص 13).

في رأي والتر ستيس، لا يوجد خيط رابط بين الأشياء الجميلة، بمعنى أن وصف الجمال في ذاته لا يربط بين عدة أشياء إذا كانت جميلة، فالبحر جميل والوردة جميلة والسيارة جميلة، وليس بينها جميعا رابط يتمثل في فكرة الجميل وحدها، فكل منها له هويته الخاصة، إذ الأشياء الجميلة دائما عينية، بمعنى أننا لا نحوز فكرة الجمال في أذهاننا مجردة ونطبقها على الأشياء، بل يجب أن نعاين كل شيء على حدة لنحكم عليه بالجمال أو القبح، وهذا هو ما يميز بين الفن والعلم، فالفن ذوق يرتبط بشيء، بينما العلم تصورات ومناهج نظرية.

من جانب آخر، ذهب جورج سانتيانا إلى أن التفكير في الجمال هو تفكير في عالم الممكنات، في مقابل عالم الوجود الفعلي، وعندما يفكر الإنسان في الممكن، فهو يفكر في عالم الروح، أي في الأخلاق والجمال، فإذا تحققت أفكاره في الواقع بأن أخرج عملا إبداعيا جميلا، صار هذا العمل من مشمولات عالم الواقع المشاهد(سانتيانا، 2011، ص 41).

ومعنى ذلك أن الجمال عند سانتيانا يعتمد تراكم الخبرات، حيث يفترض أن كل إنسان يحدث له احتكاك مع الواقع منذ طفولته، إلى دراسته الجامعية وممارسته المهنية وقراءاته المتعددة، فتصبح لديه أفكار عن نماذج من الجمال، وهنا تتأسس ملكة الحكم الجمالي لديه، فإذا استطاع أن يمس بعمله أكبر قدر ممكن من الخبرات الجمالية للآخرين ويقنعهم، يكون عمله الفني ناجحا، بمعنى أن العمل الإبداعي يخضع دائما للحرية والمنافسة. لذلك فإنه من صميم الطبيعة الإنسانية التي تعشق كل جديد وجميل.
 
III
الحكم الجمالي والحكم الشرعي

يعتبر الدين في المجتمعات الشرقية أهم مصادر القانون، خاصة في الجوانب المتعلقة بالنظام العام، والدين مجموعة من النصوص التي تتعدد فهومها وتفسيراتها، لكنها غير مقطوعة الصلة بالطبيعة الإنسانية، فالنظرة السائدة بأن غاية الدين هي الزجر والعقاب، غير صحيحة، بل غايته الرقي بالإنسان وفقا لطبيعته التي خلق عليها، وتترسخ هذه الغاية إذا تم تغيير فهم النصوص على أساس علمي.

وتفيد كلمة "دين" في اللغات الشرقية القديمة علاقة إلزام، قد تكون بين الإنسان وإلهه فيكسر دالها: "دِين"، وقد تكون بين أفراد الإنسان فيفتح دالها: "دَين". ومن هذه العلاقة اشتق اسم الدين في اللغات اللاتينية بعد ذلك، حيث تفيد كلمة "religare" اللاتينية معنى "يصل ويربط"، ثم تطورت في اللغات الأوربية الحديثة كالفرنسية إلى فعل "relier"، ومنها نحت اسم "religion". وعند المقارنة بين الاتجاه الطبيعي والاتجاه المؤله في الدين، ندرك أن كليهما يحتفظ للعقل والطبيعة الإنسانية بمكان واضح، يجب الاعتماد عليه لتأسيس قبول اجتماعي للإبداع الفني،  فقد نشأت اختلافات كبرى في تاريخ الأديان ومقارنتها حول مسائل دينية كثيرة من قبيل: مفهوم الدين، وكيفية نشوء الشعور الديني، وعلاقة النصوص الدينية بالعقل ومناهج العلم الحديثة، وبصرف النظر عن ذلك فإنه وفقا للاتجاه الطبيعي الذي يجعل نشأة الدين في أسباب مثل عبادة الأسلاف أو السحر أو الطوطمية...إلخ، والاتجاه المؤله الذي يقابله في أن الدين نشأ عن الوحي الآتي من إله واحد جدير بالعبادة، ليس ثمة في الحقيقة تعارض بين الدين والإبداع الفني، وذلك لسببين:

- أن الاتجاه الطبيعي يجعل الدين نابعا من العقل، وقد بلغ هذا العقل أوجه مع مناهج العلم الحديث، لذلك يبدو مناسبا، حسب هذا الاتجاه، تغليب ثمار هذه المناهج للمساهمة في الإبداع الفني وقبول نتائجه.

- أن الاتجاه المؤله يعترف أنصاره بأن الوحي ورد وفقا للطبيعة الانسانية، بمعنى أن نصوصه لا تعارض العقل ومنجزاته العلمية، لكن هذه الفكرة يغلب عليها الطابع النظري، و تحتاج إلى تحقيق عملي، وتصحيح لكثير من المفاهيم، وذلك باستقراء المعاني الدقيقة في نصوص الوحي والمقارنة بينها وبين حالات الابداع الفني في تاريخ المجتمعات الدينية (الرسومات القديمة والأشعار والنصوص النثرية...)، وتحيين فهمها ليتلاءم مع مستجدات الحياة، وهذا يتطلب إيمانا قويا بالمنهاج العلمي دون سواه.

 
IV
الجمال وضرورة التنظيم القانوني

الجمال من روافد الإبداع، وينبني الإبداع على الحرية، لذلك فإن مصدره الإرادة والذوق الإنسانيين، لكن الحرية يمكن أن ينتج عنها سلوك ضار بالغير أو بالجماعة، وهنا لابد أن تتدخل قواعد أجنبية عن المبدع الذي ارتكب هذا السلوك؛ تلك هي قواعد القانون التي هي إحدى معالم التحضر الإنساني، باعتبارها مصدرا احتياطيا لضمان التعايش السلمي بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بتعويض المضرور ضد مرتكب الضرر سواء كان بحسن نية أو بسوئها.

ومعنى ذلك أن تدخل القانون في الإبداع الفني هو تدخل استثنائي، في حالتين:  الحفاظ على عملية الإبداع من جهة، وحماية الأغيار مما قد ينتج عن عملية الإبداع من أضرار مادية من جانب آخر.
أ ــ دور القانون في حماية الإبداع الفني ــ  لا شك أن لقواعد القانون أهمية كبرى في الحفاظ على عملية الإبداع ذاتها، وذلك من خلال حماية الإنتاج الفكري والفني في صورة ما يعرف بالملكية الفكرية والصناعية والتجارية، حيث يقرر القانون مفهوم هذه الملكية ويحدد مداها ويرسم طرق حمايتها بوسائل أولها تقييدها باسم أصحابها، كما يبين سبل نقلها وانقضائها، وبذلك يحصنها من السرقة والتزوير والانتحال ومختلف أشكال الإضرار. (قوانين الملكية الفكرية والتجارية والصناعية، مكتب الملكية الصناعية، مكتب الإيداع القانوني، قانون الصحافة...)

ب ــ  دور القانون في حماية الأغيار من الأضرار الاستثنائية للعمل الإبداعي ــ  إلى جانب الوظيفة السابقة للقانون في حماية الإبداع الفني، فإن له دورا آخر في حماية الأغيار، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات، من كل سلوك ضار قد يحدث بمناسبة العملية الإبداعية، لأن الإبداع سلوك بشري قد يصيب وقد يخطئ، وقد ينفع الغير وقد يسيء إليهم.

لكن القانون لا يمنع إلا السلوك المادي الضار بالغير، إذ لا شأن له بالنوايا وما قد يستنتج من الفعل الإبداعي على سبيل التخمين، لذلك يعاقب على السب، وهو كل قول أو فعل غايته وصف الغير بوصف قبيح يشينه ويمس كرامته، فإذا كان في صورة نسبة عمل مشين لهذا الغير يصبح قذفا، كما يعاقب على التزوير بسبب ما ينتج عنه من اضطراب اجتماعي وفوضى داخل المجتمع، سواء كان بمناسبة فعل إبداعي أو بمناسبة غيره، وهكذا كل فعل يمارس بمناسبة العملية الإبداعية، وينتج عنه ضرر بالغير، لذلك فإن المبدأ في المطالبة القانونية ضد أي عمل إبداعي أن يثبت المتضرر أمورا ثلاثة: أولها صدور الفعل الضار، وثانيها حدوث ضرر، وثالثها علاقة سببية بينهما.
 
قائمة المراجع

1-بالعربية

ـ[1] ــ  إمام عبد الفتاح إمام مقدمة كتاب نظرية الجمال لولتر ستيسن،المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 2000 .
- الجرجاني، علي بن محمد الشريف. دون تاريخ. معجم التعريفات. تحقيق محمد صديق المنشاوي. دار الفضيلة بالقاهرة.
- التهانوي، محمد علي. 1996. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم. تحقيق علي دحروج. مكتبة لبنان ناشرون ببيروت.
- ابن منظور، محمد. 1998لسان العرب. دار صادر ببيروت. الجزء العاشر. حرف اللام. مادة خلق.
- الجابري، محمد عابد 2001. العقل الاخلاقي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت .
السنهوري، عبد الرزاق. 1968. الوسيط في شرح القانون المدني. الجزء الثاني. دار النهضة العربية بالقاهرة .
- الفارابي، أبو نصر 1986. الجمع بين الحكيمين. دار المشرق ببيروت.
- ابن مسكويه، احمد بن محمد 1966. تهذيب الأخلاق. تحقيق قسطنطين زريق. بيروت.
جدنز، أنتوني. 2005. علم الاجتماع. ترجمة فايز الصباغ. المنظمة العربية للترجمة ببيروت.
- دوركايم، إيميل:
- 2011. قواعد المنهج في علم الاجتماع. ترجمة محمود قاسم. المركز القومي للترجمة.
- 2015. التربية الأخلاقية. ترجمة السيد محمد بدوي. المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
- ديوي، جون. 2015. الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني. ترجمة محمد لبيب النجيحي. المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
-كانط،إيمانويل:
-2008. نقد العقل العملي. ترجمة غانم هنا. المنظمة العربية للترجمة ببيروت.
- 2002. تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة عبد الغفار مكاوي. منشورات الجمل بكولونيا بألمانيا.
مونتسكيو، شارل. 1953. روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر. الجزء الأول . دار المعارف بالقاهرة.
-مرقس، سليمان. 1987. الوافي في شرح القانون المدني. الجزء الأول. دار صادر ببيروت .
سانتيانا، جورج. 2011. الإحساس بالجمال. ترجمة مصطفى بدوي. المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
- ستيس، والتر.  2000. نظرية الجمال. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.

2-بالفرنسية

- Baumann ,Antoine. 1903 . La religion positive. Paris.
-Comte ,Auguste.
- 1839.Cours de philosophie positive. T4 .paris.
-1844. Discours sur l’esprit positif. Paris
--Emil ,Durkheim.2008 Les formes élémentaires de la vie religieuse, le système totémique en Australie. http://www.uqac.ca/jmt-sociologue.
-Condorcet,Jean-Antoine-Nicolas de Caritat. Esquisse d'un tableau historique des progrès de l'esprit humain (1793-1794) . http://www.uqac.ca/jmt-sociologue .
- Baker Michael. Condorcet.1988 . Raison et politique. Herman . Paris.
 
 

الجمال والإبداع والقانون



الاثنين 9 أكتوبر 2023
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter