تمهـــــــيد :
في سياق الحراك الحقوقي الذي عرفه المجتمع المغربي التواق إلى الحرية والديمقراطية، جاء الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011 ليشكل منعطفا إصلاحيا جديدا وعاملا مساهما في فتح ورش الإصلاح السياسي والدستوري، استجاب التعديل الدستوري لمضامينه، التي فاقت انتظار المواطن الحقوقي والمهتم والعادي، حيث تمت دسترة ميلاد جديد للسلطة القضائية، بارتقائه بالقضاء إلى مستوى سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، قائمة على ركائز متينة وصلبة معززة بفصل متوازن للسلط الثلاث، وذلك خلاف دستور 1996 الذي كان ينص على القضاء كوظيفة فقط دون تسميته بالسلطة.
وبالرغم من أن الوثيقة الدستورية لم تفصل في حدود ونطاق العلاقات التي تربط بين السلطة القضائية وباقي السلط، فإن تمكينها من أداء دورها في المجتمع، وجب أن تكون مستقلة، بيد أن المستجد الاستراتيجي البارز والقوي الأبعاد، يتمثل في المقتضيات التي جاء بها الفصل 109 من الدستور، في اتجاه تحصين وتمنيع استقلال السلطة القضائية، بحيث "" يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط ""، كما يمنع على هذه الأخيرة – السلطة القضائية- أن تتجاوز صلاحياتها، وذلك حسب منطوق فصول نفس الدستور.
ويستمد القضاء استقلاليته من مبدأ الفصل بين السلطات، الذي تأخذ به الدول الديمقراطية التي تحترم الحقوق والحريات. ويقتضي هذا المبدأ بضرورة استقلال كل سلطة من السلط الثلاث في الدولة باختصاصاتها، فالسلطة التشريعية يجب أن تستقل بأمور التشريع، فيما يجب أن تستقل السلطة التنفيذية بأمر التنفيذ، والسلطة القضائية بأمور القضاء، غير أن هذا الفصل العضوي والشكلي بين السلط، لا ينفي إمكانية التعاون مستقبلا في جميع الحالات حفاظا على الأمن والاستقرار وسيادة القانون، علما أن هناك علاقة وطيدة بين جميع السلط، سواء السلطة القضائية والسلطة التشريعية ( المبحث الأول )، أو السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ( المبحث الثاني).
المبحث الأول: السلطة القضائية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية
جاء دستور 2011 بالعديد من القواعد المكرسة لاستقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية، أهمها التنصيص على استبعاد وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما يؤشر على نقل صلاحياته إلى هذه المؤسسة دستورية الجديدة، خاصة بعدما أضحت متمتعة بالاستقلال المالي والإداري، كما أضحت تتولى حصرا صلاحيات تدبير المسار المهني للقضاة[1]. وبالرغم من غموض طبيعة السلطة التي تتبع لها مؤسسة النيابة العامة في الدستور، إلا انه سجل مؤخرا تكريس استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل وإسنادها الى الوكيل العام بمحكمة النقض ، ضمن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة.
الواقع أن الدستور عندما نص على استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط، فهو بذلك قد حظر على هذه الأخيرة ضمنيا التدخل في أعمال الأولى، إلا أن هذا المنع لا يعني بالضرورة فك الارتباط بينهما في جفاء وتصلب، بل انه من المصلحة العامة التعاون بين السلط فيما يحقق المصلحة العليا للوطن دون المساس طبعا باختصاصات وسلطات وأعمال كل سلطة على حدة، لأن وسيلة القضاء مثلا في أداء وظيفته المتمثلة أساسا في الحكم القضائي تتلاقي مع وسيلة الإدارة المتمثلة في القرار الإداري، فكل منهما ينقل حكم القانون من حالة العموم والتجرد إلى حالة الخصوصية والواقعية، وذلك بتطبيقه على الحالات الفردية، وهذا التشابه هو الذي أدى إلى اختلاف الفقهاء في وضع معيار يميز العمل القضائي عن العمل الإداري[2].
لقد دأبت مجموعة من الدراسات الأكاديمية على تقسيم أعمال الإدارة إلى : أعمال قانونية[3] ومادية [4] ثم أعمال السيادة، وهي الإجراءات والتدابير التي تتخذها الإدارة بوصفها سلطة حكم لا سلطة إدارية لتنفيذ قراراتها الرامية إلى الحفاظ على الأمن العام الداخلي والخارجي، وهي الأعمال التي يمنع على المحاكم النظر فيها [5].
وكما يمنع على السلطة القضائية البث في أعمال السيادة، فانه لا يسوغ لها أيضا إصدار قرارات إدارية أو تعديله أو توجيه أوامر للإدارة أو الحلول محلها فيما يعتبر من اختصاصها، ولا يحق للسلطة التنفيذية إصدار أحكام أو إعطاء تعليمات للقضاة، أو منح نفسها صلاحية الفصل في المنازعات التي تدخل في اختصاصاتهم، لان في ذلك مساس بمبدأ الاستقلالية[6]
وإذا وجدت المحاكم الإدارية لمراقبة أعمال السلطة التنفيذية بمناسبة الدعاوى التي تدخل في صميم اختصاصها، لا يعني عرقلة سير الإدارة، وهكذا تنص الفقرة الأولى من الفصل 25 من ق. م. م. على ما يلي:
" يمنع على المحاكم عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة أن تنظر ولو بصفة تبعية في جميع الطلبات التي من شأنها أن تعرقل سير الإدارات العمومية للدولة أو الجماعات الأخرى وأن تلغي إحدى قراراتها "
لكن بالمقابل، القاضي ملزم بأن ينظر في جميع القضايا المطروحة أمامه[7]، وأن يصدر فيها حكم، حتى ولو تعلق الأمر بمصالح الدولة.
يبدو أن هناك تعارض بين الفصلين، لكن الفصل 25 ينص على الإجراءات والتدابير التي تتخذها الإدارة لتنفيذ قراراتها الرامية إلى الحفاظ على الأمن العام، أو أعمال السيادة أو الحلول محل الإدارة فيما يتعلق باختصاصاتها، والملاحظ أن الفصل 25 من ق م م، منع على القاضي النظر ولو بصفة تبعية لطلب أخر في جميع الطلبات الرامية لعرقلة سير الإدارات العمومية والجماعات العمومية الأخرى، بحيث يمنع على القاضي النظر فيها أو إصدار الحكم، كالطلب الرامي إلى إغلاق مستشفى أو منع الأمن من الوصول إلى منطقة معينة، وحتى ولو كان الطلب تبعيا لدعوى قائمة، أو توقيف مثلا السير العادي لإدارة من الإدارات أو إيقافها – لأن هناك نزاع حول الأرض التي تم البناء عليها[8]
هناك من يرى أن الاستقلال الكلي للقضاء غير ممكن، وذلك بسبب التقسيم الثلاثي للسلطة، حيث تستدعي هذه الأخيرة، تحديد هذا الاستقلال المكرس لكل من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبعبارة أخرى، يجب تكريس الاستقلال لكل من السلط الثلاثة، وهذا يعني الحد من استقلال كل واحدة منها، وفي حالة الإخلال بهذا التوازن بين السلطات الثلاث على حساب استقلال، يعتبر هذا خطر على السلطات الأخرى[9]
لكن الدستور الجديد في نفس الوقت ركز على استقلالية السلطة القضائية عن بقية السلط بضمانة ملكية[10]، ويأتي في الفصل 109 ما يلي: " يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط...".
فحماية القاضي من التدخلات والضغط خصوصا من طرف السلطة التنفيذية، ارتقى به المشرع لمبدأ دستوري، فقد كانت التعليمات والأوامر تخرق مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، عن طريق رموزها ومسؤوليها النافذين، حيث يؤثر هؤلاء على القضاء بشكل مباشر آو غير مباشر خرقا لمبدأ فصل السلط واستقلال القضاء وكذا الفصل 238 من القانون الجنائي[11].
الرأي فيما أعتقد أن السلطة القضائية تقف إزاء سلطتين أقوى منها فالسلطة التشريعية تمثل إرادة الشعب، وتصدر تشريعات ملزمة للسلطة القضائية و لغيرها، أما السلطة التنفيذية فتزاول اختصاصاتها من خلال إصدار قرارات تنظيمية وتكون مسؤولة عن تنفيذ القوانين، فضلاً عن دورها في التدخل بتنظيم الجهاز القضائي، وبالتالي نجد أن اختصاص السلطة التشريعية و التنفيذية ايجابيا،ً في حين أن اختصاص السلطة القضائية سلبياً في الغالب، فهو يقتصر على تطبيق القانون في حالة الطلب من احد المتنازعين، أي بمناسبة إقامة الدعاوى، وبالتالي يتبين ضعفها إزاء باقي السلطات.
المبحث الثاني : السلطة القضائية و علاقتها بالسلطة التشريعية
يبقى من الثابت في الدساتير المتعددة التي عرفها المغرب منذ سنة 1962، أنها لم تعطي أي نفوذ للسلطة التشريعية على السلطة القضائية، باستثناء سلطة التشريع في الأمور المتعلقة بالقضاء، والتي اتخذت فيما سبق شكل قوانين عادية، لكنها ارتقت في ظل الدستور الجديد إلى مستوى قوانين تنظيمية، مما يكفل لها رقابة قبلية لمدى مطابقتها للدستور.
يلاحظ أن الفصل 67 من الدستور الجديد يمنع تكوين لجان برلمانية لتقصي الحقائق من طرف البرلمان، في وقائع تكون موضوع متابعة قضائية ما دامت هذه المتابعات جارية، كما نص على مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق سبق تكوينها تنتهي فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها.
لكن في المقابل لا يجوز للسلطة القضائية أن تتدخل في اختصاصات السلطة التشريعية، إذ يبقى دورها محدودا في تفسير القوانين وتأويلها، إذ ينص الفصل 110 من الدستور على أن"" الأحكام القضائية لا تصدر إلا على أساس التطبيق العادل للقانون"".
لكن قد تتدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية، وذلك بوضعها للقانون بذل تفسيره بمناسبة عرض النزاعات عليها في إطار اجتهاداتها القضائية، لكن هناك فرق شاسعا بين خلق وإبداع وابتكار قواعد اجتهادية لسد فراغ قانوني أو تنظيمي، بقصد الوصول إلى حل النزاع المعروض على المحاكم في كل نازلة على حدة، وبين وضع قانون أو قاعدة عامة تطبق على كل النوازل أيا كان موضوعها، ففي الحالة الأولى يكون القضاء محقا في خلق وابتكار قواعد جديدة لسد الفراغ دون معارضة من باقي السلط الأخرى خاصة السلطة التشريعية، أما في الحالة الثانية يعتبر القضاء قد سلب بعض اختصاصات السلطة التشريعية والتي لا يسمح له بممارستها إلا بناء على نص خاص[12]
كما لا يجوز أيضا للسلطة القضائية أن تبت في دستورية القوانين، لأن ذلك من اختصاص المحكمة الدستورية[13]، إلا بنص خاص كما هو الحال بالنسبة للمادة 25 من قانون المسطرة المدنية، والمعدل بمقتضى ظهير 10-9-1993 (( لا يجوز للجهات القضائية أن تبت في دستورية القوانين ))، ومعنى هذا أن المشرع ترك إمكانية مراقبة المراسيم وما دونها.
خاتمة :
وأخيرا، يبدو أن المشرع الدستوري كرس حقيقة استقلال السلطة القضائية، إلى جاني السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحاطها بضمانات مهمة تكفل عملها دون أي تأثير خارجي، لكن السلطة القضائية وان كانت محصنة دستوريا على المستوى الخارجي، فان المحيط الداخلي للسلطة القضائية يجب أن يعرف هو بدوره تحصينا ضمن مشاريع قوانين المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والنظام الأساسي للقضاة، هذا بالإضافة إلى ضرورة وجود إرادة حقيقية لدى الأشخاص الفاعلين داخل السلطة القضائية للحفاظ على استقلاليتهم، لأن القوانين مجرد نصوص تحتاج لمن يفعلها. وبالتالي بذل الانكباب على إصلاح الحجر (المؤسسات ) يجب الالتفات شيئا ما إلى إصلاح البشر.
في سياق الحراك الحقوقي الذي عرفه المجتمع المغربي التواق إلى الحرية والديمقراطية، جاء الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011 ليشكل منعطفا إصلاحيا جديدا وعاملا مساهما في فتح ورش الإصلاح السياسي والدستوري، استجاب التعديل الدستوري لمضامينه، التي فاقت انتظار المواطن الحقوقي والمهتم والعادي، حيث تمت دسترة ميلاد جديد للسلطة القضائية، بارتقائه بالقضاء إلى مستوى سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، قائمة على ركائز متينة وصلبة معززة بفصل متوازن للسلط الثلاث، وذلك خلاف دستور 1996 الذي كان ينص على القضاء كوظيفة فقط دون تسميته بالسلطة.
وبالرغم من أن الوثيقة الدستورية لم تفصل في حدود ونطاق العلاقات التي تربط بين السلطة القضائية وباقي السلط، فإن تمكينها من أداء دورها في المجتمع، وجب أن تكون مستقلة، بيد أن المستجد الاستراتيجي البارز والقوي الأبعاد، يتمثل في المقتضيات التي جاء بها الفصل 109 من الدستور، في اتجاه تحصين وتمنيع استقلال السلطة القضائية، بحيث "" يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط ""، كما يمنع على هذه الأخيرة – السلطة القضائية- أن تتجاوز صلاحياتها، وذلك حسب منطوق فصول نفس الدستور.
ويستمد القضاء استقلاليته من مبدأ الفصل بين السلطات، الذي تأخذ به الدول الديمقراطية التي تحترم الحقوق والحريات. ويقتضي هذا المبدأ بضرورة استقلال كل سلطة من السلط الثلاث في الدولة باختصاصاتها، فالسلطة التشريعية يجب أن تستقل بأمور التشريع، فيما يجب أن تستقل السلطة التنفيذية بأمر التنفيذ، والسلطة القضائية بأمور القضاء، غير أن هذا الفصل العضوي والشكلي بين السلط، لا ينفي إمكانية التعاون مستقبلا في جميع الحالات حفاظا على الأمن والاستقرار وسيادة القانون، علما أن هناك علاقة وطيدة بين جميع السلط، سواء السلطة القضائية والسلطة التشريعية ( المبحث الأول )، أو السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ( المبحث الثاني).
المبحث الأول: السلطة القضائية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية
جاء دستور 2011 بالعديد من القواعد المكرسة لاستقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية، أهمها التنصيص على استبعاد وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما يؤشر على نقل صلاحياته إلى هذه المؤسسة دستورية الجديدة، خاصة بعدما أضحت متمتعة بالاستقلال المالي والإداري، كما أضحت تتولى حصرا صلاحيات تدبير المسار المهني للقضاة[1]. وبالرغم من غموض طبيعة السلطة التي تتبع لها مؤسسة النيابة العامة في الدستور، إلا انه سجل مؤخرا تكريس استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل وإسنادها الى الوكيل العام بمحكمة النقض ، ضمن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة.
الواقع أن الدستور عندما نص على استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط، فهو بذلك قد حظر على هذه الأخيرة ضمنيا التدخل في أعمال الأولى، إلا أن هذا المنع لا يعني بالضرورة فك الارتباط بينهما في جفاء وتصلب، بل انه من المصلحة العامة التعاون بين السلط فيما يحقق المصلحة العليا للوطن دون المساس طبعا باختصاصات وسلطات وأعمال كل سلطة على حدة، لأن وسيلة القضاء مثلا في أداء وظيفته المتمثلة أساسا في الحكم القضائي تتلاقي مع وسيلة الإدارة المتمثلة في القرار الإداري، فكل منهما ينقل حكم القانون من حالة العموم والتجرد إلى حالة الخصوصية والواقعية، وذلك بتطبيقه على الحالات الفردية، وهذا التشابه هو الذي أدى إلى اختلاف الفقهاء في وضع معيار يميز العمل القضائي عن العمل الإداري[2].
لقد دأبت مجموعة من الدراسات الأكاديمية على تقسيم أعمال الإدارة إلى : أعمال قانونية[3] ومادية [4] ثم أعمال السيادة، وهي الإجراءات والتدابير التي تتخذها الإدارة بوصفها سلطة حكم لا سلطة إدارية لتنفيذ قراراتها الرامية إلى الحفاظ على الأمن العام الداخلي والخارجي، وهي الأعمال التي يمنع على المحاكم النظر فيها [5].
وكما يمنع على السلطة القضائية البث في أعمال السيادة، فانه لا يسوغ لها أيضا إصدار قرارات إدارية أو تعديله أو توجيه أوامر للإدارة أو الحلول محلها فيما يعتبر من اختصاصها، ولا يحق للسلطة التنفيذية إصدار أحكام أو إعطاء تعليمات للقضاة، أو منح نفسها صلاحية الفصل في المنازعات التي تدخل في اختصاصاتهم، لان في ذلك مساس بمبدأ الاستقلالية[6]
وإذا وجدت المحاكم الإدارية لمراقبة أعمال السلطة التنفيذية بمناسبة الدعاوى التي تدخل في صميم اختصاصها، لا يعني عرقلة سير الإدارة، وهكذا تنص الفقرة الأولى من الفصل 25 من ق. م. م. على ما يلي:
" يمنع على المحاكم عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة أن تنظر ولو بصفة تبعية في جميع الطلبات التي من شأنها أن تعرقل سير الإدارات العمومية للدولة أو الجماعات الأخرى وأن تلغي إحدى قراراتها "
لكن بالمقابل، القاضي ملزم بأن ينظر في جميع القضايا المطروحة أمامه[7]، وأن يصدر فيها حكم، حتى ولو تعلق الأمر بمصالح الدولة.
يبدو أن هناك تعارض بين الفصلين، لكن الفصل 25 ينص على الإجراءات والتدابير التي تتخذها الإدارة لتنفيذ قراراتها الرامية إلى الحفاظ على الأمن العام، أو أعمال السيادة أو الحلول محل الإدارة فيما يتعلق باختصاصاتها، والملاحظ أن الفصل 25 من ق م م، منع على القاضي النظر ولو بصفة تبعية لطلب أخر في جميع الطلبات الرامية لعرقلة سير الإدارات العمومية والجماعات العمومية الأخرى، بحيث يمنع على القاضي النظر فيها أو إصدار الحكم، كالطلب الرامي إلى إغلاق مستشفى أو منع الأمن من الوصول إلى منطقة معينة، وحتى ولو كان الطلب تبعيا لدعوى قائمة، أو توقيف مثلا السير العادي لإدارة من الإدارات أو إيقافها – لأن هناك نزاع حول الأرض التي تم البناء عليها[8]
هناك من يرى أن الاستقلال الكلي للقضاء غير ممكن، وذلك بسبب التقسيم الثلاثي للسلطة، حيث تستدعي هذه الأخيرة، تحديد هذا الاستقلال المكرس لكل من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبعبارة أخرى، يجب تكريس الاستقلال لكل من السلط الثلاثة، وهذا يعني الحد من استقلال كل واحدة منها، وفي حالة الإخلال بهذا التوازن بين السلطات الثلاث على حساب استقلال، يعتبر هذا خطر على السلطات الأخرى[9]
لكن الدستور الجديد في نفس الوقت ركز على استقلالية السلطة القضائية عن بقية السلط بضمانة ملكية[10]، ويأتي في الفصل 109 ما يلي: " يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط...".
فحماية القاضي من التدخلات والضغط خصوصا من طرف السلطة التنفيذية، ارتقى به المشرع لمبدأ دستوري، فقد كانت التعليمات والأوامر تخرق مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، عن طريق رموزها ومسؤوليها النافذين، حيث يؤثر هؤلاء على القضاء بشكل مباشر آو غير مباشر خرقا لمبدأ فصل السلط واستقلال القضاء وكذا الفصل 238 من القانون الجنائي[11].
الرأي فيما أعتقد أن السلطة القضائية تقف إزاء سلطتين أقوى منها فالسلطة التشريعية تمثل إرادة الشعب، وتصدر تشريعات ملزمة للسلطة القضائية و لغيرها، أما السلطة التنفيذية فتزاول اختصاصاتها من خلال إصدار قرارات تنظيمية وتكون مسؤولة عن تنفيذ القوانين، فضلاً عن دورها في التدخل بتنظيم الجهاز القضائي، وبالتالي نجد أن اختصاص السلطة التشريعية و التنفيذية ايجابيا،ً في حين أن اختصاص السلطة القضائية سلبياً في الغالب، فهو يقتصر على تطبيق القانون في حالة الطلب من احد المتنازعين، أي بمناسبة إقامة الدعاوى، وبالتالي يتبين ضعفها إزاء باقي السلطات.
المبحث الثاني : السلطة القضائية و علاقتها بالسلطة التشريعية
يبقى من الثابت في الدساتير المتعددة التي عرفها المغرب منذ سنة 1962، أنها لم تعطي أي نفوذ للسلطة التشريعية على السلطة القضائية، باستثناء سلطة التشريع في الأمور المتعلقة بالقضاء، والتي اتخذت فيما سبق شكل قوانين عادية، لكنها ارتقت في ظل الدستور الجديد إلى مستوى قوانين تنظيمية، مما يكفل لها رقابة قبلية لمدى مطابقتها للدستور.
يلاحظ أن الفصل 67 من الدستور الجديد يمنع تكوين لجان برلمانية لتقصي الحقائق من طرف البرلمان، في وقائع تكون موضوع متابعة قضائية ما دامت هذه المتابعات جارية، كما نص على مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق سبق تكوينها تنتهي فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها.
لكن في المقابل لا يجوز للسلطة القضائية أن تتدخل في اختصاصات السلطة التشريعية، إذ يبقى دورها محدودا في تفسير القوانين وتأويلها، إذ ينص الفصل 110 من الدستور على أن"" الأحكام القضائية لا تصدر إلا على أساس التطبيق العادل للقانون"".
لكن قد تتدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية، وذلك بوضعها للقانون بذل تفسيره بمناسبة عرض النزاعات عليها في إطار اجتهاداتها القضائية، لكن هناك فرق شاسعا بين خلق وإبداع وابتكار قواعد اجتهادية لسد فراغ قانوني أو تنظيمي، بقصد الوصول إلى حل النزاع المعروض على المحاكم في كل نازلة على حدة، وبين وضع قانون أو قاعدة عامة تطبق على كل النوازل أيا كان موضوعها، ففي الحالة الأولى يكون القضاء محقا في خلق وابتكار قواعد جديدة لسد الفراغ دون معارضة من باقي السلط الأخرى خاصة السلطة التشريعية، أما في الحالة الثانية يعتبر القضاء قد سلب بعض اختصاصات السلطة التشريعية والتي لا يسمح له بممارستها إلا بناء على نص خاص[12]
كما لا يجوز أيضا للسلطة القضائية أن تبت في دستورية القوانين، لأن ذلك من اختصاص المحكمة الدستورية[13]، إلا بنص خاص كما هو الحال بالنسبة للمادة 25 من قانون المسطرة المدنية، والمعدل بمقتضى ظهير 10-9-1993 (( لا يجوز للجهات القضائية أن تبت في دستورية القوانين ))، ومعنى هذا أن المشرع ترك إمكانية مراقبة المراسيم وما دونها.
خاتمة :
وأخيرا، يبدو أن المشرع الدستوري كرس حقيقة استقلال السلطة القضائية، إلى جاني السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحاطها بضمانات مهمة تكفل عملها دون أي تأثير خارجي، لكن السلطة القضائية وان كانت محصنة دستوريا على المستوى الخارجي، فان المحيط الداخلي للسلطة القضائية يجب أن يعرف هو بدوره تحصينا ضمن مشاريع قوانين المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والنظام الأساسي للقضاة، هذا بالإضافة إلى ضرورة وجود إرادة حقيقية لدى الأشخاص الفاعلين داخل السلطة القضائية للحفاظ على استقلاليتهم، لأن القوانين مجرد نصوص تحتاج لمن يفعلها. وبالتالي بذل الانكباب على إصلاح الحجر (المؤسسات ) يجب الالتفات شيئا ما إلى إصلاح البشر.
[1] الفصل 113 من الدستور
[2] الحسن سيمو، استقلال القضاء، المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية عدد 26 يناير 1999،ص15
[3] وهي تأتي في شكل قرارات مثلا يترتب عليها حدوث تغيير في المراكز القانونية للأفراد يتسبب لهم ضرر، فيجوز لهم عندئذ ان يطالبوا قضائيا بإلغائها
[4] وتكون عبارة عن وقائع مادية تضر بمصالح او حقوق بعض الأشخاص فيلجؤون الى القضاء، قصد مطالبة الإدارة بتعويقهم عما لحقهم من ضرر جراء تسيير مرافقها.
[5] الفقرة 1 من المادة 25 من قانون المسطرة المدنية
[6] الشنيوي نورة عزلان، التحديات الكبرى للدستور المغربي الجديد في مجال القضاء وأوجه تطبيقاتها في مادة التنظيم القضائي للمملكة دراسة من صميم اصلاحات 2011،مطبعة الورود،ط1، سنة 2012، ص 334
[7] تنص الفقرة الاولى من الفصل 2 من ق م م على ما يلي : " لا يحق للقاضي الامتناع عن الحكم او اصدار قرار ويجب عليه البت بحكم في كل قضية رفعت الى المحكمة "
[8] محمد الازهر السلطة القضائية في الدستور – دراسة مقارنة 2013 - ص39
[9] Benard Bertosse(juge fédéral) séparation des pouvoirs , L’indépendance des juges en danger, Bellinzona, 5 nouvembre 2005. P 1
[10] الفصل 107 من الدستور
[11] ينص الفصل 238 من القانون الجنائي على ما يلي :
" يعاقب بالتجريد من الحقوق الوطنية كل عامل او باشا او قائد ممتاز او قائد او حاكم اداري تدخل اما في عمل من اعمال السلطة التشريعية، وذلك باصدار نظم تتضمن نصوصا تشريعية او بتعطيل او توقيف تنفيذ قانون او اكثر، واما في عمل من اعمال السلطة القضائية باصدار امرا ومهي الى المحاكم ""
" يعاقب بالتجريد من الحقوق الوطنية كل عامل او باشا او قائد ممتاز او قائد او حاكم اداري تدخل اما في عمل من اعمال السلطة التشريعية، وذلك باصدار نظم تتضمن نصوصا تشريعية او بتعطيل او توقيف تنفيذ قانون او اكثر، واما في عمل من اعمال السلطة القضائية باصدار امرا ومهي الى المحاكم ""
[12] الحسن سيمو، مرجع سابق ص 15
[13] أحدثت المحكمة الدستورية بموجب دستور 29 يوليوز 2011 ، الذي تستقل في كنفه بالفصول من 129 الى 134، وتختص حسب الفصل 133- بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك اذا دفع احد الأطراف بان القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وينسخ كل مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس هذا الفصل، ابتداء من تاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية في قرارها، الذي لا يقبل أي طريق من طرق الطعن، ويلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية عملا بمقتضى الفصل 134