لعل الحرية من أهم المفاهيم التي شغلت الفلاسفة والمفكرين على مر العصور، لكونها تمكّن الإنسان من التصرف وفق إرادته وميوله، وتمنع عنه تسلط الغير، أو بمعنى آخر تسمح له بصنع ماهيته وتحديد نطاق علاقاته مع الآخرين.
ومازال الحديث حول الحرية وآفاقها وضوابطها جاريا في جميع المحافل الفكرية والقانونية، على الرغم من أن التصور العام حول ماهية المفهوم يدور اليوم حول غياب الإكراه وتعدد الخيارات المتاحة ضمن القانون، مع الإقرار بنسبية الحرية من جهة، وبكون نقاشها لا يتم إلا ضمن الإطار القانوني والتشريعي الذي تكفله الدولة من جهة أخرى، إذ لا يمكن أن تكون هناك حرية منفلتة من ضوابط القانون، ولا يمكن أيضاً أن يغيب الإكراه بالمطلق، كما لا يمكن أن تكون هناك خيارات لا متناهية أمام الإنسان.
ولعل الحديث عن الحرية الدينية وحرية المعتقد يأتي على رأس النقاشات التي تدور حول الحرية في عصرنا الحالي، إذ إن تنوع المعتقدات والقيم فرض نفسه كجزء من بنية المجتمعات المعاصرة، وكأنها الجذر الذي تتفرع عنه باقي الحريات، وبالتالي صار على الحكومات التفكير بالكيفية التي ستمكّنها من إدارة هذه التنوعات بما يحفظ الحريات الفردية ويعزز في الوقت نفسه السلم المجتمعي.
المفهوم المعاصر لحرية الدين
تبلور المفهوم المعاصر لحرية الدين نتيجة للتاريخ الغربي الذي شهد صراعاً دامياً بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، فكان لردة الفعل على الاستبداد الكنسي أثر واضح في تشكيل الفهم الغربي لمفهوم الحرية الدينية، إذ أضحى دور الدولة يركز على علمنة المجتمع، وتخليص الفرد من وصاية المعتقدات الدينية وتحكّمها بحياته، مما أسهم بإزاحة الدين من الحيز العام إلى الحيز الفردي الخاص عموماً.
وجاءت المواثيق والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان لتؤكد الجانب الفردي للحرية الدينية، بعيداً عن وصاية المجتمع، فبحسب مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان تُعرّف حرية الدين بأنها: “الحق في اعتناق الفرد أي دين يختاره، وإظهار دينه في العبادة من دون تدخل لا مبرّر له”. أما المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فجاء فيها: “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”، والمادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، وغيرهما من المواثيق الدولية ضمّا نصوصاً في الاتجاه ذاته.
كما تم ربط حرية الدين أو المعتقد بحقوق فردية أخرى، على رأسها الحق في حرية التعبير وإبداء الرأي، فهما مبدآن مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ومتكاملاً، وقد تم توضيح الحق في حرية التعبير دولياً عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في نص المادة (19): “بأن كل شخص يملك الحق في التمتع بحرية التعبير والرأي، والحق هذا يشتمل على: التماس الأفكار والأنباء، وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأي وسيلة كانت ودونما اعتبار للحدود”. ونظم هذا الحق أيضاً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في المادة (19) التي تقول: إن “لكل إنسان الحق في أن يعتنق آراءه دون مضايقة”.
حين تتحول العلمانية إلى دين
حرصت المواثيق الدولية أن تكون موادها قادرة على التأصيل للقوانين المحلية في دول العالم لأجل ضمان حرية المعتقد والدين وحرية التعبير وإبداء الرأي، لكنها واجهت اعتراضاً من بعض الدول التي تقوم على أساس الدين الواحد الذي لا يلغي الأديان الأخرى، لكنه لا يوفر لها مستوى التقدير نفسه، أو أنها لا تعترف إلا بالديانات السماوية وحدها دون غيرها من الأديان والمعتقدات، فرفضت النص على الحرية الدينية بشكلها الدولي في دساتيرها أو قوانينها، ووضعت قيوداً مدروسة ترجمت من خلالها نظرة مجتمعاتها لموضوع حرية الدين أو قبول الآخر، ومن جهة أخرى، رفضت بعض الدول العلمانية الأديان عامة، إلى حدّ تحول العلمانية فيها إلى دين يحمل أطروحات متعصبة، وأبرز مثال على ذلك فرنسا، التي تسعى لمحو كل المظاهر الدينية في المجتمع لمواطنيها، وخاصة المسلمين منهم.
لا حماية قانونية
المواثيق الدولية التي انبثقت متأثرة بالفكر الغربي المعادي لاستبداد الكنيسة، ضمّنت، كما أشرنا، الحق الفردي في اختيار الدين وتبني الآراء والتعبير عنها، ولم ترم إلى حماية الأديان ورموزها لكيلا تعطي للديانات حماية قانونية، وهو ما من شأنه أن يكسب التنديد “بازدراء الأديان” الشرعية، ما يفتح الباب أمام الرقابة الدينية وأمام فرض قيود في مجال حرية التعبير؛ لذلك تم اعتماد نص في الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني 2009، بشأن حرية الدين والمعتقد يؤكد على ضرورة توفير ضمانات كافية وفعلية لحرية الفكر والوعي والدين والمعتقد، مع الإشارة على وجه الخصوص إلى الحق في انتقاد الديانات، وذلك ردا على تبني مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارا غير ملزم يدين “الإساءة إلى الدين” باعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان. ومؤخراً وعلى إثر تكرر حوادث إحراق وتدنيس المصحف في بعض الدول الغربية، تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قراراً يدين ما وصفه بأعمال “الكراهية الدينية”، ولم يتطرق لموضوع حماية الأديان، ومع ذلك أعربت عدد من الدول الغربية عن رفضها للقرار، ودعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا إلى التصويت ضده، لأنه يتعارض، وفق وجهة نظرهم، مع مواقف اُتخذت منذ فترة طويلة في شأن حرية التعبير.
اعتراف الدولة بحرية الدين أو المعتقد وآثاره القانونية والمجتمعية
يسفر إقرار واعتراف الدولة بالحرية الدينية للمواطنين عن جملة من الحقوق والالتزامات لأصحاب الأديان والمعتقدات المختلفة في هذه الدولة، وفق ما أقره إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقد وغيره من المواثيق الدولية المماثلة، وعلى رأس هذه الحقوق الحق في التدين والحق في ممارسة العبادة والشعائر وتعليمها وإظهارها، (من ذلك: حرية التجمع فيما يخص الدين أو المعتقد والأعمال الاحتفالية، والعادات مثل اتباع القواعد الغذائية، وارتداء الملابس أو أغطية الرأس المميزة، والمشاركة في الطقوس التي ترتبط بمراحل معينة، وكذلك حرية استخدام لغة معينة تتحدثها مجموعة دينية ما عند ممارستهم لدينهم، وكذلك حرية إقامة وصيانة المؤسسات الخيرية أو الإنسانية المناسبة والاحتفال بالعطلات وأيام الراحة…..إلخ)، وتُلزم الدولة بتأمين الحماية القانونية لذلك. لكن في الوقت نفسه للدولة الحق في تقييد هذه الحرية بغرض حماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية وفق تقديرها هي، ورغم وجود اتجاه عام في المواثيق الدولية يشدد على تضييق نطاق هذه التقييدات.
لكن التصور العلماني الذي ترتكز إليه الدولة الحديثة يتجه نحو إبعاد الدين عن الحيز العام، والتأكيد على الفصل بين الدين والدولة من ناحية وحيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات الأخرى من ناحية أخرى، مع التأكيد على مبدأ حرية الرأي والتعبير وإتاحة الحق في انتقاد الأديان، لذلك يثير الاتحاد الأوروبي بانتظام قضية حرية الدين أو المعتقد وحرية انتقاد الأديان في الأمم المتحدة، بهدف جعل المفهوم الأوروبي لحق الإنسان في حرية الدين والمعتقد والتعبير وإبداء الرأي عالمياً، مما يعني إلزام الدول بإدراج هذا الحق بحمولاته الفكرية ومفهومه الغربي في قوانينها المحلية.
الدول الرافضة لهذا يصنفها الاتحاد الأوروبي ضمن الدول الاستبدادية التي تقيد حرية الرأي والتعبير، مما يشير إلى أن فرض القيود على الحرية الدينية ربما يكون أيسر وفق وجهة النظر الغربية من فرض القيود على حرية التعبير، التي عادة يكون لها ضوابط تتعلق بصحة الأخبار وعدم نشر الكراهية أو الحض على العنف، وغير ذلك من المهددات الأخرى، لكن مع تعددية الأديان والمعتقدات التي تعيشها المجتمعات الحديثة اليوم، وبحكم التزامها بحماية الحريات الفردية يزداد لجوء الأشخاص والجماعات الدينية في المجتمعات الديمقراطية عامة وفي أوروبا خاصة للمطالبة بحقوقهم واحترام أديانهم ومعتقداتهم، والإشكالية اليوم تتمحور حول السؤال التالي: كيف تحمي دولة ما الحرية الدينية لأفرادها، وتحترم في الوقت نفسه معتقداتهم، وتحفظ كذلك حرية إبداء الرأي والتعبير حول هذه المعتقدات والأديان لباقي الأفراد؟.
مبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان لم يكن في يوم من الأيام مطلقاً، ويتم الانتقال اليوم من تصور علماني لدولة تُبعد الدين عن الحيز العام، إلى تصور يرى أن الدولة يجب أن تركز على كيفية إدارة التعددية الدينية والثقافية والقيمية فيها، لكون وجود الدين في الحيز العام صار بديهياً ولا يمكن نفيه، وهذا يقود للنقاش أيضاً حول سقف إبداء الرأي وحرية التعبير في انتقاد الأديان، فازدراء الأديان وفق بعض الآراء يجب ألا يكون جزءا من حرية التعبير لأنه يؤسس للكراهية ويهدد السلام المجتمعي، بينما يرى آخرون أن أي تنازل عن حرية التعبير لصالح احترام الأديان لن تعود بالنفع على أي شخص، لأن حقوق الإنسان مثل الحق في حرية التعبير تحمي الأفراد.
يظهر لنا التاريخ في كثير من الدول ذات التنوع الديني تقليداً طويلاً من الحروب الدينية والصراعات، لهذا السبب، نشأت حاجة في الدول الديمقراطية لوضع تنظيم يمنع كل ما من شأنه إثارة مثل التوترات، أما البلدان الديمقراطية التي لا يوجد فيها مثل هذه المحظورات فهي عادة بلدان تتمتع بتقليدٍ راسخٍ من التسامح والتنوع الاعتقادي والديني، لكن التغيرات التي فرضتها الهجرات على مستوى العالم، بالإضافة إلى وسائل التواصل وطرق وسرعة انتقال المعلومات، جعلتنا نشهد ما يشبه إعادة تشكيل لمجتمعات، وبروز تنوعات دينية واعتقادية لم تكن ظاهرة، مما يستدعي إعادة التفكير بالضوابط التي تحكم حرية التعبير وإبداء الرأي تجاه الأديان والمعتقدات، حفظاً للسلام المجتمعي وحماية للدولة من التهديدات الداخلية والخارجية، لذلك نسمع اليوم أن الحكومة السويدية مثلاً تدرس تعديل قانون النظام العام للسماح للشرطة برفض منح تصريح بارتكاب أفعال مثل حرق القرآن الكريم، فقط إذا كان الأمر يعد تهديداً للأمن القومي، على الرغم من أن القوانين الواسعة لحرية التعبير في السويد تحمي أفعالاً مثل إهانة الشخصيات العامة، أو السخرية من الأديان، لكن مع ذلك فإن وزير العدل جونار سترومر قال إنه سيعين لجنة للنظر في منح الشرطة سلطات أوسع لرفض التصريح بالقيام بأعمال مثل حرق المصحف، مما يعده بعضهم حماية للأديان، وتراجعاً “مقلقاً” لما يرونه حرية مطلقة للتعبير.
هل يقر الإسلام حرية الدين والاعتقاد وإبداء الرأي؟
النصوص القرآنية تقر وتؤكد بأن حرية الاعتقاد مكفولة لجميع الناس، وهي نصوص كثيرة وعديدة ودلالاتها واضحة ومباشرة، منها على سبيل المثال قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تَبَيّن الرشدُ من الغَيّ}[البقرة 256]، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: 272]. و{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}[ق: 45]، و{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}[الأنعام: 107]، و{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأكَبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية: 21 ـ 26]، و{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}[فاطر: 23]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، وغيرها من الآيات الواضحة في هذا الباب.
في هذه النصوص القطعية لا يوجد نص على إكراه أحد على الدخول في الإسلام أو قبول عقائده، وليس فيها نص على أي عقاب دنيوي على من لا يقبل الدخول في الإسلام ولا حتى على الخارج منه، والذي يسمى مرتداً، لكن هناك عقاب أخروي يجريه الله تعالى وحده على هؤلاء، مما يؤسس لحرية دينية مطلقة، تمكّن الإنسان من أن يكون مسؤولاً عن اختياراته العقائدية، التي سيحاسب عليها أمام الله في الآخرة، مسؤولية كاملة لا يشوبها إكراه من أي نوع.
ينظر الإسلام إلى الدين والاعتقاد على أنه فطرة عند الإنسان، لكن التعبير عن الفكر والمعتقد يقع في خانة المسؤولية، ويرتبط بالعلاقة مع الآخرين والتأثر والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً، لذلك فإن أساليب التعبير عن الفكر أو الشك أو الرأي يجب أن تكون وفق الرؤية الإسلامية أساليب موضوعية وسليمة وغير عدوانية، ولا تثير فتنة أو توترات اجتماعية، ولا تؤدي إلى الظلم، فالمنطلق في ممارسة حرية التعبير في الإسلام هو المسؤولية المناطة بالإنسان على الأرض، وهي تحديداً مسؤولية الكلمة في الحياة الدنيا أمام الآخرين وأمام المجتمع، وفي الآخرة أمام الله عز وجل. إذاً هي حرية مطلقة، لكنها مسؤولة، ومنضبطة بضابط المنطق والموضوعية والمهمة الاستخلافية التي خلق الله لأجلها الإنسان على هذه الأرض، لذلك فإن السؤال عن تحديد العوائق التي تحد من التمتع بحرية الدين أو المعتقد وحرية الرأي دون أن تهدر إحداهما الأخرى يجب أن يبدأ بتحديد ماهية هذه الحرية وغايتها وفق الرؤية الإسلامية، وليس فقط أخذها كما يُعبر عنها في الغرب بمتعلقاتها الفكرية والتاريخية، فالسياقات الثقافية والحضارية للشعوب تمثل الأساس الذي يُفسر استيعاب المجتمعات المختلفة لمبدأ حرية المعتقد وفق التصور المطروح عالمياً أو رفضها له، أكثر مما يفسره سيادة دين ما داخل المجتمع، لكن هذا الأمر لا يجد الفهم الصحيح من قبل المؤسسات الدولية التي تنطق بمواثيقها وإعلاناتها وقراراتها بلسان التجربة الحضارية الغربية، التي تحكمها قيم الفردية والعلمانية، حيث أزيح الدين من النطاق المجتمعي إلى النطاق الفردي، وباتت مجتمعاتها تصنف على أنها مجتمعات “مستنيرة” لأنها تتعاطي مع الدين من منظور نقدي، بعد أن تحررت من محرمات الدين، بينما توصم مجتمعات أخرى بأنها ما زالت متمسكة بأفكار لم تشهد تجديداً فيما يخص الدين، لكونها مازالت تعطي للدين أهمية ومكانة حاكمة فيها.
إن مفهوم الدين يختلف وفق الرؤية الإسلامية عنه وفق الرؤية الغربية، فبينما الدين في الإسلام مرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات؛ فإنه وفق الرؤية الغربية مجرد حالة نفسية وعقلية يتصف بها الإنسان ويكون لها آثار في عاداته وعلاقاته، لذلك فإن الإسلام حمى الدين الصحيح وأمر بنشره بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار النهضوي الفعال، وفي الوقت نفسه لم يلزم الناس على الدخول فيه، ولم يكرههم على ذلك.
وعندما ناقش الفقهاء المسلمون موضوع الحرية الدينية أكدوا على وجوب احترام الأديان، وفصّلوا في الآثار القانونية لموضوع تغيير الدين، خاصة في المواضيع المالية والأحوال الشخصية، وهذا ما نجده في كثير من قوانين الدول الإسلامية التي تعد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع فيها. بينما نجد في العالم الغربي قيوداً على الحرية الدينية باسم احترام القانون، أو الحفاظ على “مبادئ الجمهورية”، كما فعلت فرنسا عندما أقرت القانون الذي يمنع ما وصف بالرموز والملابس التي تعبر بشكل ظاهر عن الانتماء الديني، وجاء في عرض حيثياته أن الرموز الدينية الظاهرة هي “العلامات والملابس التي يؤدي ارتداؤها إلى التعرف الفوري على انتماء صاحبها الديني”، والمقصود بها “الحجاب الإسلامي أيا كان الاسم المعطى له، أو القلنسوة، أو الصليب ذو الحجم المبالغ به”.
القيود التي توضع على الحرية الدينية في العالم اليوم استناداً إلى القانون الدولي، أدت في كثير من البلدان إلى انتهاكات عديدة، وفي الوقت نفسه فإن “التسامح” الغربي مع الإساءة للأديان وازدراءها بحجة حرية التعبير وإبداء الرأي وحرية النقد يؤدي إلى تهديدات كبيرة للأمن المحلي والإقليمي والدولي، لذلك لا بد من تقييم الالتزامات الملقاة على عاتق الدول الغربية في هذا الخصوص، على اعتبار أنها تمتلك موارد وقدرات تؤهلها لتنظيم حقوق وحريات مواطنيها، وتنظيم وإدارة التنوع الموجود فيها بما يتوافق ومقتضيات المعايير الدولية نفسها التي تؤصل لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والتي اعتبرت أن كل ما يهدد الأمن العام أو يمس بحقوق وحريات الآخرين يمكن تقييده من قبل الدولة، ولكن يبدو أن إرادة التغيير ليست ناضجة حتى الآن في كثير من هذه الدول التي مازالت لا تحاول استيعاب الاختلافات الثقافية والرؤى العقدية في المجتمعات الموجودة في العالم، مما يدفع إلى مزيد من التعصب والعنف والعنصرية، ويشعل مزيداً من الحروب الثقافية بين أبناء المجتمع الواحد.
عن مركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان