تعد إشكالية التنمية الترابية من أهم الانشغالات الراهنة سواء على الصعيد الدولي أو الوطني نظرا للمشاكل المتشعبة التي تعيشها الدول ولاعتبارها السبيل الوحيد للتطور والتقدم، لذلك اصبحت المقاربة الترابية، تحتل أهمية قصوى من أجل دعم التنمية الشاملة والمستدامة.
جاء ذلك بالأساس نتيجة لعوامل عديدة ومتداخلة ساهمت في التحول الذي شهدته الوظيفة التنموية للجماعات الترابية بعدما كانت في البداية تكتفي بوظائفها الكلاسيكية المتمثلة في تقديم الخدمات الإدارية واشباع الحاجات الضرورية للسكان، لعل أبرزها التحولات الكبرى التي تعرفها بنيات الدولة وتجدد أدوارها، وفي ظل تراجع وظيفتها التنموية في إطار ما يعرف بدولة التخلي أو دولة الحد الأدنى.
بيد أن التجربة أثبتت أن الجماعات الترابية بحاجة إلى وسائل مبتكرة مالية وبشرية وقانونية تمنحها القدرة على التأقلم المستمر مع معطيات واقعية وظروف خاضعة للتغير من خلال توظيفها واستغلالها الاستغلال الأمثل لكي تساعد على الاستجابة لحاجات ومتطلبات الحياة الكريمة للفرد والجماعة.
فالجماعات الترابية لا يمكنها أن تحتكر وحدها مهمة تقديم الخدمات العمومية الترابية كما لا يمكنها أن تفوتها بشكل كامل للخواص، وبين التدبير المباشر والتدبير المفوض يمكنها أن تختار بديلا يمثل نصف الطريق بين الأسلوبين المذكورين، وذلك بإحداث شركة للتنمية المحلية.
انطلاقا من هذه الأفكار التمهيدية، سنحاول معالجة هذا الموضوع بطرح عدة تساؤلات من بينها:
ماهي الدواعي التي اقتضت التوجه نحو هذه الآلية من التدبير، وما هي أبرز السمات المميزة لها، والى أي حد يمكن ضمان نجاح وفعالية هذا الأسلوب في التدبير لتحقيق التنمية وتحسين نوعية إطار عيش المواطنين؟
أولا: منطلقات احداث شركات التنمية المحلية
تميز السياق الوطني بسيرورة من التحولات قوامها تدعيم مسلسل اللامركزية من خلال ما سجل من تطور كمي ونوعي على مستوى تخويل الجماعات الترابية المزيد من الاختصاصات والسلطات الرامية الى الارتقاء بها الى مرتبة الشريك والفاعل المحوري في تحقيق التنمية وصنع القرار الترابي.
كما ساهم في هذا التحول توسيع آليات الديموقراطية المحلية، وهو ما جعل إدارة التراب المحلي تشكل ميدانا خصبا للاجتهاد من أجل تطوير أفضل السبل والوسائل الكفيلة بالنهوض بالتنمية على المستوى المحلي، لعل أبرزها إعطاء الفرصة للرأسمال الخاص للمساهمة في هذه الدينامية الترابية.
وفي هذا الإطار ظهرت شركات التنمية المحلية كطريقة حديثة خولها المشرع المغربي للجماعات الترابية لتدبير مرافقها العمومية الترابية، سيما ذات البعد التنموي وفق منظور يتأسس على فكرة المزاوجة بين مبادئ الحكامة ونجاعة الشكل المقاولاتي لهذه الشركات بغية تقديم إجابات على مستويات متعددة للتنمية الترابية وتمكن في نفس الآن من تطوير طاقات الجذب للشركاء وتنعكس بكيفية خلاقة على مستوى الوحدات الترابية.
ولا شك ان إحداث هذه الشركات تمليه مجموعة من المنطلقات منها تقوية التعاون فيما بينها سواء تعلق الأمر بالتعاون اللامركزي الداخلي أو التعاون اللامركزي الدولي، أو تلك المتمثلة في تطوير علاقات الشراكة مع الفاعلين في التنمية المحلية.
فمن جهة، فان التعاون بين الجماعات الترابية آلية مهمة للارتقاء بخبرتها في مجال التدبير والتسيير، وبذلك تتيح شركات التنمية المحلية للجماعات ومؤسسات التعاون بين الجماعات ومجموعة الجماعات الترابية آلية قانونية ومؤسساتية لتفعيل التعاون اللامركزي الداخلي.
ومن جهة ثانية، يشكل التعاون اللامركزي الدولي فرصة للبحث عن افاق جديدة لتمويل التجهيز الجماعي وتحقيق التنمية، حيث يمكن التعاون الجماعات الترابية من الاستفادة من خبرتها نظـيرتها الأجنبية.
ومن جانب آخر، تعد شركات التنمية المحلية إطارا اقتصاديا مهما، فهي تمكن من إشراك الرساميل الخاصة في التنمية المحلية والجهوية وتساعد على انجاز المشاريع الاقتصادية التي تتطلب غلافا ماليا ضخما يصعب على الجماعة الواحدة توفيره.
ومن ثم فان التعاون والشراكة مع القطاع الخاص مؤداه توفير بيئة ملائمة لتوطيد استثمارات القطاع الخاص على المستوى المحلي، لأن تحقيق التنمية المحلية هي معادلة صعبة تجمع الأطراف الثلاث: الدولة والجماعات الترابية والقطاع الخاص.
ان الشراكة العمومية في إطار شركات التنمية المحلية يمكن أن تشكل أيضا أداة للتنسيق بين التدخلات العمومية المحلية والوطنية بحيث يجعلها تحقق تكاملا حقيقيا بين أدوار واختصاصات الدولة والجماعات الترابية خصوصا في الميادين التي تتقاسم فيها الصلاحيات أو تقتضي تدخل عدة أطراف.
وفي المحصلة فان احداث هذه الشركات يرتكز على فكرة أساسها توزيع السلطات العمومية، بحيث تمكن هذه الآلية من التوفيق بين الخطوات الأساسية المندرجة في استراتيجية التنمية الترابية والتحكم المباشر في القرارات التي تصب في المصلحة العامة، وفي نفس الوقت تجمع من حولها شركاء مؤسساتيين، وشركاء من القطاع الخاص بات بالإمكان أن يوظفوا خبرتهم وكفاءتهم لتجويد الخدمات وإعطاء قوة دفع للمشاريع.
ثانيا: الأدوار التنموية لشركات التنمية المحلية وحدود الفاعلية
من المفروض أن تمنح هذه الشركات حلولا متوازنة بغية تحقيق تدبير يحقق أكبر قدر من الفعالية والكفاءة الاقتصادية، ومن شأنه تجاوز بعض الجمود والعراقيل الإدارية للجماعات الترابية بفضل مرونة القانون الخاص في الجانب المتعلق بالمحاسبة التجارية وكذا بالتدبير الديناميكي للمهارات والمسارات المعنية، وسرعة مسار صنع القرار، وأخيرا بالقدرة على الاستجابة لإكراهات توظيف الموارد وتقدير حقيقة التكاليف والمخاطر.
بيد أن التجربة تظهر أن الاختيار الأنسب للاستجابة لمتطلبات المصلحة العامة يتعين أن يكون حصيلة لعملية تحليل وتشخيص ملائم يساعد على تقييم ذو إحاطة كافية بالبيئة المؤسساتية، التقنية، والسيو-اقتصادية والقانونية التي تنتج فيها الخدمة وتدرك كيف تقدم أو تُدبر هذه الخدمة، وفق منطق يأخذ بعين الاعتبار متطلبات المصلحة العامة وبتناغم مع خصوصيات السياق المحلي.
فبالنسبة لبعض المشاريع بما تتطلبه من تعبئة للموارد المالية الكافية وما تقتضيه من كفاءة في التدبير يمثل حضور شركاء القطاع الخاص إلى جانب الجماعات الترابية حلا لا غنى عنه، ليس فقط للاستفادة من الخبرة لتجويد الخدمات، وإنما أيضا من اجل تمكين شركات التنمية المحلية من تخصيص ملائم للتمويلات المالية المطلوبة.
واستنادا الى ما تقدم، فان تعدد وتنوع الأدوار التنموية التي تقوم بها شركات التنمية المحلية وتوسع مجالات تدخلها لتشمل العديد من الأنشطة التي يقدمها المرفق العمومي الترابي يقتضي الوقوف عند حدود الفاعلية التدبيرية وحدود الفاعلية التنموية لهذه الشركات.
فاذا كان من المنتظر أن تعرف شركات التنمية المحلية تطورا ملحوظا بعد صدور القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، إلا أن واقع التجربة الحالية يظهر أن إسهام هذه الشركات في تحقيق التنمية بقي محدودا، ولا تزال هناك العديد من الإشكاليات العملية التي تحد من فاعليتها التدبيرية، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
- غموض وجدال فيما يتعلق بعلاقة شركات التنمية المحلية بمجالس الجماعات المعنية. ففي الوقت
- على الرغم من تعدد آليات المراقبة المنصوص عليها قانونا إلا أن هناك ضعفا ملحوظا على
- ضعف البنيات المؤسساتية للجماعات الترابية، وضعف قابلتيها لاستيعاب أنماط حديثة للتدبير
- عدم إصدار المجلس الأعلى للحسابات أو المجالس الجهوية للحسابات أية تقارير خاصة عن
- تسجيل ضعف على مستوى المراقبة من خلال ما يلاحظ من تغييرات بشكل مستمر في نوع
- سوء التدبير الإداري والمالي، إذ يلاحظ مثلا بخصوص الموظفين الجماعيين أن بعضهم يتم وضعهم
- عدم وفاء بعض الجماعات الترابية بالتزاماتها المالية اتجاه شركات التنمية المحلية مما يتسبب في
ان الاختلالات المرصودة على مستوى تدبير شركات التنمية المحلية لا شك انها ستحد من الفاعلية التنموية لهذه الأخيرة، فالملاحظ وجود تباين على مستوى المردودية والإسهام التنموي لهذه الشركات، وهو ما يمكن تلخيصه بإيجاز فيما يلي:
- على الرغم من أن بعض الشركات حققت نتائج تقترب إلى حد ما من الأهداف المرسومة، إلا أن
- تركز شركات التنمية المحلية في محور الدار البيضاء- طنجة، لتبقى اغلب الجماعات غير قادرة
- غياب إستراتيجية للتنمية الترابية يمكن الاستناد إليها في إحداث هذه الشركات وتوجيه عملها.
- افتقاد الجماعات في أغب الأحيان للموارد والمؤهلات الكفيلة بأجرأة برامج التنمية.
- ضعف استقطاب التمويل العمومي في مقابل تنامي دور صندوق الإيداع والتدبير في المساهمة في
- تعبير بعض المنتخبين عن معارضتهم لإحداث شركات التنمية المحلية بدعوى الخوف من إبعادهم
ختاما يمكن القول أن شركات التنمية المحلية ولئن شكلت تطورا مهما على مستوى آليات التدبير الترابي وهو ما عكسته المقتضيات التنظيمية الجديدة والتي حاول من خلالها المشرع جعل هذه الجماعات الترابية تخرج من أدوارها الكلاسيكية نحو لعب أدوار تنموية، الا أن هذه التجربة يبدو أنها لا تزال محاصرة بمعوقات مختلفة.
وتشهد على ذلك الكثير من الإخفاقات والاختلالات المصاحبة لإنجاز مشاريع كبرى رصدت لها اعتمادات مالية ضخمة وتشرف على إنجازها هذه الشركات في العديد من المدن المغربية، وخاصة بالعاصمة الاقتصادية للمملكة بحكم عدد الشركات المحدثة بها وتنوع مجالات تدخلها، على الرغم من تخصيص هذه المدينة بتوجيهات ملكية خاصة للنهوض بها وتصحيح أوضاعها.
بيد أنه في الوقت الراهن وفي غياب دراسة تقييمية شاملة لمختلف المؤشرات والاحصائيات حول النقائص والاختلالات التي يعرفها التطبيق العملي من الصعب تكوين فكرة حاسمة حول مدى نجاعة هذه الشركات، لذلك يبدو أنه آن الأوان للقيام بدراسات تقييمية لهذه الشركات للتدقيق أكثر فيما تعرفه من اختلالات واقتراح بعض سبل المراجعة والتطوير.
وفي هذا الإطار يمكن أن نقترح مجموعة من التوصيات لتجويد هذه التجربة، من بينها:
- يجدر أن تؤطر شركات التنمية المحلية بنظام قانوني خاص أو مدونة خاصة من شأنها أن تسعف في توضيح العلاقات التي تجمع مختلف المتدخلين: الجماعات الترابية، السلطة المكلفة بالداخلية، القطاع الخاص داخل هذه الشركات، وكذا توضيح مجالات التدخل بالشكل الذي يجعل منها أداة فعلية لتحقيق التنمية، علما أن المشرع حصر غرض شركات التنمية المحلية في الأنشطة الصناعية والتجارية.
- وضع استراتيجية للتنمية الترابية تسهم في اللجوء المعقلن إلى شركات التنمية المحلية وفق ضوابط وأهداف واضحة ومحددة.
- تفعيل مبادئ الشفافية والحكامة والافتحاص وربط المسؤولية بالمحاسبة لتشمل جميع المشاريع التي
تتولاها شركات التنمية المحلية، حتى لا يفتح غياب المحاسبة الباب على مصراعيه أمام تكرار تجارب الفساد وتبديد المال العام
.
- يجدر بالمشرع المغربي تدارك إفلات هذه الشركات من رقابة المجالس الجهوية للحسابات عن طريق إيجاد صيغة معينة لبسط الرقابة على معاملاتها المالية، وذلك غرار ما هو معمول به في التجربة الفرنسية التي استلهمت منها في الأصل فكرة احداث هذه الشركات.
- من الأهمية بمكان توفير بيئة قانونية وعملية ملائمة ومحفزة لاستقطاب استثمارات ورساميل القطاع الخاص لفائدة شركات التنمية المحلية، لكن ذلك يمر حتما عبر قطاع خاص مواطن يتجاوز نسبيا فكرة الربح كغاية وحيدة لفائدة المساهمة في تنمية البلاد.
- ضرورة مساهمة الجامعة إلى جانب باقي الشركاء في تسليط الضوء على آليات التدبير الحديث، وتعزيز القدرات التدبيرية والمعرفية للجماعات في هذا المجال.