أثارت الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة بخصوص تعديل مدونة الأسرة جدلا واسعا في أوساط عديدة من داخل المجتمع، وتباينت مستويات وجهات النظر إزاء الموضوع، ما بين توجه محافظ، والذي يعتبر أن المرحلة الراهنة تعرف تنامي موجة حداثية تسعى إلى تغيير (منظومة القيم) في المجتمع، انطلاقا من استهدافه للثوابت المتجذرة في الوعي الجمعي للمغاربة، والتي تحتل فيها (الأسرة) مكانة مركزية باعتبارها حاضنة للقيم المتأصلة، معتبرة أن طبيعة المجتمع ذي النزعة المحافظة والمتشبعة بقيم الأصالة الممتدة تاريخيا بمختلف مستوياتها، بحيث لا يجوز بصورة أو بأخرى تحويلها أو تغييرها، مهما كانت الغاية وإن تعلق الأمر بمدونة الأسرة. وما بين توجه آخر، يعتبر أن التحولات التي يعيشها العالم تتطلب انخراط المغرب في هذه الدينامية عبر تدشين إصلاحات ترتبط بالمجالات الاجتماعية، وعلى وجه الخصوص تعديل مقتضيات مدونة الأسرة، وفي هذا السياق، كان لا بد من التفاعل مع هذه التحولات وطرح صيغ قانونية متلائمة مع السياق الوطني عبر قنوات حوارية حضارية، والتفاعل مع كل الحساسيات في أفق إنتاج نص قانوني يوافق تطلعات المجتمع بمختلف مكوناته، ويجعل من الانفتاح على التجارب المجتمعية الناجحة مدخلا لتجاوز أغلب المشاكل التي تعتري النص القانوني الحالي وتطبيقاته العملية، ففي ظل هذا التجاذب بين المواقف، طفا على السطح نقاش مكذوب، يجعل من الدعوة إلى تعديل نصوص مدونة الأسرة وسيلة تكتنفها محاولات حثيثة للتطاول على منظومة القيم، وتحريف هوية المجتمع وإفراغها من محتواها.
فعلى ضوء هذا النقاش، تثار الكثير من الأسئلة حول طبيعة النقاش المطروح اعتبارا أن الضبابية واللبس المصاحبة لهذا الجدل من خلال الأفكار المروج لها، تدفعنا إلى التساؤل عن ما هي الغاية منها؟ وهل تمت إلى كنه ومضمون مدونة الأسرة بصلة؟
حقيقة يجدر بنا أن نبحث عن الأهداف المرجوة من هذا اللغط ومن المستفيد منه؟ وهل دعاة الأصالة ينتعشون في ظل خطاب التخويف والترهيب؟ أم أن دعاة الحداثة بدورهم يقيسون درجة تأثر المجتمع بالمفاهيم المستجدة، والتي تعطي انطباعا بتحول ملموس في منظومة القيم داخل المجتمع؟
x محتوى اعلاني
1- منطلقات تعديل مدونة الأسرة
استقرت إرادة الدولة المغربية على فكرة تعديل نصوص مدونة الأسرة، بالنظر إلى الإشكالات العملية التي تعترض تنزيل مقتضياتها، والتي تؤكدها الأرقام الرسمية (التطليق للشقاق، النفقة، الحضانة….) حيث أضحت تؤثر على كيان الأسرة في جوانب متعددة، بيد أن تعديل هذه الأخيرة أصبح اليوم مسالة ملحة بالنظر إلى هذه الإكراهات، كما أن تعديل النص القانوني ينطلق من محددات صارمة، متجسدة في الثوابت التي لا يمكن تجاوزها، والتي تعد من المرتكزات (الدين الإسلامي والمذهب المالكي كأصل) فحسب ديباجة دستور 2011 التي أعطت للإسلام مكانة محورية ضمن المحاور الكبرى في تعديل الدستور، حيث أولاه عناية وجعله من الثوابت الأساسية في مرجعية الدولة، ويرجع إليه عند كل عملية تشريعية.
هذا الاختيار أكده الخطاب الملكي لـ9 مارس 2011، الذي حدد الخطوط العريضة لتعديل الدستور، كما أن المقتضيات الدستورية (الفصول 1 و3 و41) جسدت هذا الاختيار، بل منحت للملك سلطات موسعة باعتباره أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى وضامنا لحرية ممارسة الشعائر الدينية، فأمام هذا الحرص الكبير عبر أسمى قانون (الدستور)، والذي يعزز موقع الإسلام كمحدد أساسي في اختيارات الدولة، وفي السياق نفسه أناط الدستور لهيئات مؤسساتية (المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية، الرابطة المحمدية للعلماء) مهمة القيام بأدوار رقابية وضبطية في سبيل حماية الاختيار الديني للمغاربة، عبر إصدار فتاوى وآراء بخصوص قضايا مطروحة. وفي هذا الصدد فإن صياغة مشروع قانون مدونة الأسرة لن تخرج عن هذا الإطار، إذ برز دور هذه المؤسسة بشكل جلي من خلال تشكيلة اللجنة المعهود إليها إعداد مشروع القانون، حيث ضمت في عضويتها الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وذلك بالنظر إلى الخصوصية التي يمتاز بها هذا القانون والذي له ارتباط وطيد بالمرجعية الدينية للمغاربة.
فمن خلال ما أشرنا إليه، يبدو أن الترويج لخطاب التخويف والانحراف عن عدم احترام المرجعية الدينية ليس هناك ما يدعو إليه، في ظل الالتزام بهذه المحددات، وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن الجدوى من طرح هذه المغالطات؟
2- مستويات تدخل بعض أصوات التوجه الأصولي المغربي في موضوع تعديل مدونة الأسرة
في خضم هذا السجال تنبري بعض المواقف المتشنجة، والتي تنطلق من فكرة أن تعديل مدونة الأسرة سوى توجه غربي/ملتبس، هدفه النيل من كيان الأسرة عبر مباشرة إصلاحات تحمل في طياتها مضامين هدامة، تنحوا في اتجاه انحلال المنظومة الأسرية.
هذا الاتجاه سبق له الإعلان عن مواقفه الممانعة خلال مراحل سابقة، (إبان تعديل مدونة الأحوال الشخصية) ومازال يعتنق المنطلقات نفسها وإن كانت تكتنفها مغالطات ولا تنهض على أسس منطقية، خصوصا إبان المرحلة الراهنة، فكما هو ملحوظ يبتغي هذا التوجه السير في اتجاه تحييد النقاش عن مساره العادي، وإقحام مفاهيم وأفكار مغلوطة تثير الرهبة والخوف في نفوس الناس، إذ يمكن القول عن هذه الاستراتيجية الترويجية/ الدعائية آلية فعالة غايتها ليس الدفاع عن الأسرة وتحصين كيانها في حد ذاته ولكن تستعمل من أجل خلق الانتعاش والامتداد التنظيمي داخل المجتمع، والذي تحققه بمثل هكذا مواقف، فهذه التيارات تنصب نفسها ككيانات لها مرجعية دينية/ محافظة تتماهي مع التوجه العام للمغاربة، وتمنح لنفسها شرعية الترافع عن مثل هذه القضايا، مما يكسبها القدرة على الصمود وكسب التعاطف الشعبي والتجذر داخل المجتمع لأطول مدة، خصوصا في الأوساط الشعبية.
إن الوقوف على هذه الوقائع ليس تجنيا في حق هذه الأصوات، بقدر ما هو استخلاص بسيط لسيرورة من المواقف عبر مراحل زمنية متباينة، بدء بتعديل مدونة الأحوال الشخصية، مرورا بالنقاش حول تعديل بعض مضامين القانون الجنائي، (إلغاء عقوبة الإعدام، العلاقات الرضائية…) ففي كل مناسبة يطرح موضوع يندرج في هذا السياق، إلا وتعقبها حملات ترويجية لأفكار مغلوطة تقحم عنوة وعن سابق إصرار، كما هو الحال بالنسبة للنقاش الدائر حاليا حول مدونة الأسرة، والذي يتضح من خلاله وبشكل جلي الكيفية التي صودرت بها الحقيقة مقابل الانتشار الواسع للإشاعة، فما بين تاريخ الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة قصد تعديل مضامين مدونة الأسرة، ومسارعة هذا الأخير إلى تعيين لجنة للاضطلاع بهذه المهمة، عبر مباشرة حوار مفتوح وبشكل موسع مع جميع المهتمين والمتدخلين بموضوع الأسرة، في أفق إنتاج مشروع قانون يعرض على الجهاز التشريعي للمصادقة عليه، سارت مياه كثيرة تحث هذا الجسر، فتم الترويج عبر بلاغات وخرجات إعلامية، تتضمن مجموعة من الأفكار لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة، في المقابل يؤكد الواقع عدم وجود أي مسودة لمشروع قانون مدونة الأسرة، كما أن اللجنة لم تباشر أي مناقشات مع أي جهة، وفضلا عن هذا، فمضامين الرسالة الملكية تؤكد على مبدأ الحوار المعمق والمفتوح مع جميع المعنيين بالموضوع، كما أن جوهر النص القانوني سيظل مؤطرا بالمرتكزات والثوابت الدينية كمحدد بنيوي، وهو ما يغني عن المواقف المتشنجة والمغالطات المروج لها، حيث أن المرحلة تدعو إلى مزيد من ضبط النفس، والتسلح بفضيلة الحوار الحضاري العقلاني، بعيدا عن الاستغلال السياسوي للقضايا المجتمعية الملحة.
فأمام التنامي غير المسبوق لخطاب التخويف، المبني على أسس غير معقولة، أضحى من الضروري التصدي لهذا المد المتصاعد، وكبحه حتى لا يفقد الهدف الأسمى من تعديل مدونة الأسرة في بعده الاجتماعي والإنساني.
فما نعيشه اليوم من تداول كبير للإشاعات حول هذا الموضوع، باستخدام الوسائط الإلكترونية، أصبح يشكل خطرا محدقا بالنظر إلى الكم الهائل من المعلومات الخاطئة المتداولة والمنتشرة على أوسع نطاق، الشيء الذي يدعو إلى الوقوف في وجه هذا الانحراف بكل الوسائل الممكنة، وتعبئة كل الإمكانات المتاحة، واستخدام كل الأدوات، وتكثيف الجهود ما بين الدولة والهيئات والتنظيمات (مؤسسات دينية/ منظمات حزبية/مجتمع مدني /مؤسسات إعلامية) في سبيل إقرار شروط موضوعية من أجل بلورة حوار وطني موسع هادف ومسؤول، مجاله تداول الأفكار والتصورات ما بين كل الحساسيات داخل المجتمع، بروح حضارية تتفاعل مع التحولات التي يعيشها المغرب، فحماية هذا الخيار مسؤولية على عاتق الجميع، وفرصة تاريخية لا بد وأن تستغل بشكل أمثل، حتى نتجاوز الإشكالات العالقة والتي لم تستطع مدونة الأسرة في شكلها الحالي تقديم إجابات بخصوصها.
3- مستويات تدخل بعض أصوات التوجه الحداثي المغربي في موضوع تعديل مدونة الأسرة
يبرز إلى العلن توجه يطرح نفسه كنقيض للتوجه المحافظ وذلك من خلال بعض المواقف اتجاه بعض القضايا ذات الصلة، بـ(الإرث، الولاية، اقتسام الأموال المكتسبة أثناء قيام العلاقة الزوجية….) حيث ما فتئ هذا التيار(الحداثي) يتشبث بمثل هذه المواقف، معتبرا أن المرحلة تتطلب إعادة النظر في بعض المفاهيم التي ترتبط بموضوع الأسرة، والتي أصبحت متجاوزة حسب المرجعيات التي ينطلقون منها، كما يعتبر هذا التوجه أن قضية الأسرة مسألة مجتمعية يتطلب الأمر منحها العناية والأهمية الكافيتين، وإن كان الأمر يبدو من وجهة نظرهم التزام (أخلاقي/سياسي) يمكن النظر إليه (حسب هذا التوجه) باعتباره مؤشرا دالا على التحولات التي يعيشها المجتمع في جميع الميادين، ولا سيما “منظومة القيم” والتي لا تتطلب سوى الإرادة والجراءة في طرح وتناول بعض المواضيع ذات الصلة، وإزالة غطاء القداسة عنها، على اعتبار أن تحول المجتمع وتطوره يفضي بالأساس إلى تغيير في منظومة القيم، كما يشكل هذا النقاش أداة لقياس نسبة التفاعل/التحول داخل المجتمع في علاقته بهذه الأخيرة، ومدى اقتناعه بضرورة التغيير، فهذه الصيغ التي يتناول بها النقاش تطرح إشكالات عدة، أولاها تتجلى في الكيفية التي يدار بها النقاش، فالملاحظ بخصوص تلك المواقف حيث تطبعها نبرة صدامية، وتقدم نفسها كأطروحة “نقيض جذري” للتوجه المحافظ، مما يوحي بوجود أزمة حوار داخل المجتمع، وتعطي انطباعا على أن الوصول إلى حل متوافق بشأن هذا الموضوع وغيره أضحى أمرأ غير ممكن حصوله في الأفق بالمطلق، وهو ما نؤاخذه على هذا التوجه، بحيث أن مثل هذه المواقف يساء استغلالها من خلال تحريف مضامينها وسياقها، ويتم استعمالها في بناء خطاب مضاد، مما يسهم في إثارة البلبلة ويؤثر سلبا على المسار الإيجابي للنقاش الذي نطمح إليه، ويجسد نفسه كتعبير حضاري وراق، يعكس الاتزان والنضج الذي بلغه المجتمع، عبر نخبه السياسية والحقوقية والمدنية.
فالمجتمع المغربي شأنه شأن باقي المجتمعات المحافظة، ذات الامتداد التاريخي الذي يمنحه سمات تقليدانية راسخة، وبالتالي يجب التعامل معها بحذر شديد. فالتحولات التي يعيشها العالم وتنامي المد الحداثي، ساهم في بروز نخبا وطنية تنويرية/حداثية، تبتغي الإصلاح في سبيل تطوير المجتمع والدفع به قدما نحو التغيير، من خلال تطوير بنيته المركزية (الأسرة)، عبر تغيير بعض المقومات التي تراها حسب تشخيصها متجاوزة، وإن كان الأمر من وجهة نظرهم ينسجم مع مرجعياتهم الحداثية العقلانية، فإن تناولهم لموضوع مدونة الأسرة لا ينبغي التعاطي معه بشكل مجرد، دون استحضار لهذه الخصوصيات (التاريخية، الدينية، التراثية)، وإن كانت هذه المحددات تصطدم مع المرجعيات التاريخية في جوانب عدة، غير أن هذا لا يعني عدم تكييف الخطاب ومد جسور التواصل مع الجميع، في سبيل إيجاد أرضية توافقية تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات. فالتطلع إلى التغيير الإيجابي يتطلب الحفاظ على مقومة الوحدة الوطنية، وعدم طرح تصورات قد تشكل مجالا خصبا للاستغلال والتحريف، وشغل الرأي العام بقضايا هامشية، مما تضيع معه المصلحة العامة مقابل الاستغلال الضيق لقضاياه الأساسية.
فعلى ضوء هذا النقاش، تثار الكثير من الأسئلة حول طبيعة النقاش المطروح اعتبارا أن الضبابية واللبس المصاحبة لهذا الجدل من خلال الأفكار المروج لها، تدفعنا إلى التساؤل عن ما هي الغاية منها؟ وهل تمت إلى كنه ومضمون مدونة الأسرة بصلة؟
حقيقة يجدر بنا أن نبحث عن الأهداف المرجوة من هذا اللغط ومن المستفيد منه؟ وهل دعاة الأصالة ينتعشون في ظل خطاب التخويف والترهيب؟ أم أن دعاة الحداثة بدورهم يقيسون درجة تأثر المجتمع بالمفاهيم المستجدة، والتي تعطي انطباعا بتحول ملموس في منظومة القيم داخل المجتمع؟
x محتوى اعلاني
1- منطلقات تعديل مدونة الأسرة
استقرت إرادة الدولة المغربية على فكرة تعديل نصوص مدونة الأسرة، بالنظر إلى الإشكالات العملية التي تعترض تنزيل مقتضياتها، والتي تؤكدها الأرقام الرسمية (التطليق للشقاق، النفقة، الحضانة….) حيث أضحت تؤثر على كيان الأسرة في جوانب متعددة، بيد أن تعديل هذه الأخيرة أصبح اليوم مسالة ملحة بالنظر إلى هذه الإكراهات، كما أن تعديل النص القانوني ينطلق من محددات صارمة، متجسدة في الثوابت التي لا يمكن تجاوزها، والتي تعد من المرتكزات (الدين الإسلامي والمذهب المالكي كأصل) فحسب ديباجة دستور 2011 التي أعطت للإسلام مكانة محورية ضمن المحاور الكبرى في تعديل الدستور، حيث أولاه عناية وجعله من الثوابت الأساسية في مرجعية الدولة، ويرجع إليه عند كل عملية تشريعية.
هذا الاختيار أكده الخطاب الملكي لـ9 مارس 2011، الذي حدد الخطوط العريضة لتعديل الدستور، كما أن المقتضيات الدستورية (الفصول 1 و3 و41) جسدت هذا الاختيار، بل منحت للملك سلطات موسعة باعتباره أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى وضامنا لحرية ممارسة الشعائر الدينية، فأمام هذا الحرص الكبير عبر أسمى قانون (الدستور)، والذي يعزز موقع الإسلام كمحدد أساسي في اختيارات الدولة، وفي السياق نفسه أناط الدستور لهيئات مؤسساتية (المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية، الرابطة المحمدية للعلماء) مهمة القيام بأدوار رقابية وضبطية في سبيل حماية الاختيار الديني للمغاربة، عبر إصدار فتاوى وآراء بخصوص قضايا مطروحة. وفي هذا الصدد فإن صياغة مشروع قانون مدونة الأسرة لن تخرج عن هذا الإطار، إذ برز دور هذه المؤسسة بشكل جلي من خلال تشكيلة اللجنة المعهود إليها إعداد مشروع القانون، حيث ضمت في عضويتها الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وذلك بالنظر إلى الخصوصية التي يمتاز بها هذا القانون والذي له ارتباط وطيد بالمرجعية الدينية للمغاربة.
فمن خلال ما أشرنا إليه، يبدو أن الترويج لخطاب التخويف والانحراف عن عدم احترام المرجعية الدينية ليس هناك ما يدعو إليه، في ظل الالتزام بهذه المحددات، وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن الجدوى من طرح هذه المغالطات؟
2- مستويات تدخل بعض أصوات التوجه الأصولي المغربي في موضوع تعديل مدونة الأسرة
في خضم هذا السجال تنبري بعض المواقف المتشنجة، والتي تنطلق من فكرة أن تعديل مدونة الأسرة سوى توجه غربي/ملتبس، هدفه النيل من كيان الأسرة عبر مباشرة إصلاحات تحمل في طياتها مضامين هدامة، تنحوا في اتجاه انحلال المنظومة الأسرية.
هذا الاتجاه سبق له الإعلان عن مواقفه الممانعة خلال مراحل سابقة، (إبان تعديل مدونة الأحوال الشخصية) ومازال يعتنق المنطلقات نفسها وإن كانت تكتنفها مغالطات ولا تنهض على أسس منطقية، خصوصا إبان المرحلة الراهنة، فكما هو ملحوظ يبتغي هذا التوجه السير في اتجاه تحييد النقاش عن مساره العادي، وإقحام مفاهيم وأفكار مغلوطة تثير الرهبة والخوف في نفوس الناس، إذ يمكن القول عن هذه الاستراتيجية الترويجية/ الدعائية آلية فعالة غايتها ليس الدفاع عن الأسرة وتحصين كيانها في حد ذاته ولكن تستعمل من أجل خلق الانتعاش والامتداد التنظيمي داخل المجتمع، والذي تحققه بمثل هكذا مواقف، فهذه التيارات تنصب نفسها ككيانات لها مرجعية دينية/ محافظة تتماهي مع التوجه العام للمغاربة، وتمنح لنفسها شرعية الترافع عن مثل هذه القضايا، مما يكسبها القدرة على الصمود وكسب التعاطف الشعبي والتجذر داخل المجتمع لأطول مدة، خصوصا في الأوساط الشعبية.
إن الوقوف على هذه الوقائع ليس تجنيا في حق هذه الأصوات، بقدر ما هو استخلاص بسيط لسيرورة من المواقف عبر مراحل زمنية متباينة، بدء بتعديل مدونة الأحوال الشخصية، مرورا بالنقاش حول تعديل بعض مضامين القانون الجنائي، (إلغاء عقوبة الإعدام، العلاقات الرضائية…) ففي كل مناسبة يطرح موضوع يندرج في هذا السياق، إلا وتعقبها حملات ترويجية لأفكار مغلوطة تقحم عنوة وعن سابق إصرار، كما هو الحال بالنسبة للنقاش الدائر حاليا حول مدونة الأسرة، والذي يتضح من خلاله وبشكل جلي الكيفية التي صودرت بها الحقيقة مقابل الانتشار الواسع للإشاعة، فما بين تاريخ الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة قصد تعديل مضامين مدونة الأسرة، ومسارعة هذا الأخير إلى تعيين لجنة للاضطلاع بهذه المهمة، عبر مباشرة حوار مفتوح وبشكل موسع مع جميع المهتمين والمتدخلين بموضوع الأسرة، في أفق إنتاج مشروع قانون يعرض على الجهاز التشريعي للمصادقة عليه، سارت مياه كثيرة تحث هذا الجسر، فتم الترويج عبر بلاغات وخرجات إعلامية، تتضمن مجموعة من الأفكار لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة، في المقابل يؤكد الواقع عدم وجود أي مسودة لمشروع قانون مدونة الأسرة، كما أن اللجنة لم تباشر أي مناقشات مع أي جهة، وفضلا عن هذا، فمضامين الرسالة الملكية تؤكد على مبدأ الحوار المعمق والمفتوح مع جميع المعنيين بالموضوع، كما أن جوهر النص القانوني سيظل مؤطرا بالمرتكزات والثوابت الدينية كمحدد بنيوي، وهو ما يغني عن المواقف المتشنجة والمغالطات المروج لها، حيث أن المرحلة تدعو إلى مزيد من ضبط النفس، والتسلح بفضيلة الحوار الحضاري العقلاني، بعيدا عن الاستغلال السياسوي للقضايا المجتمعية الملحة.
فأمام التنامي غير المسبوق لخطاب التخويف، المبني على أسس غير معقولة، أضحى من الضروري التصدي لهذا المد المتصاعد، وكبحه حتى لا يفقد الهدف الأسمى من تعديل مدونة الأسرة في بعده الاجتماعي والإنساني.
فما نعيشه اليوم من تداول كبير للإشاعات حول هذا الموضوع، باستخدام الوسائط الإلكترونية، أصبح يشكل خطرا محدقا بالنظر إلى الكم الهائل من المعلومات الخاطئة المتداولة والمنتشرة على أوسع نطاق، الشيء الذي يدعو إلى الوقوف في وجه هذا الانحراف بكل الوسائل الممكنة، وتعبئة كل الإمكانات المتاحة، واستخدام كل الأدوات، وتكثيف الجهود ما بين الدولة والهيئات والتنظيمات (مؤسسات دينية/ منظمات حزبية/مجتمع مدني /مؤسسات إعلامية) في سبيل إقرار شروط موضوعية من أجل بلورة حوار وطني موسع هادف ومسؤول، مجاله تداول الأفكار والتصورات ما بين كل الحساسيات داخل المجتمع، بروح حضارية تتفاعل مع التحولات التي يعيشها المغرب، فحماية هذا الخيار مسؤولية على عاتق الجميع، وفرصة تاريخية لا بد وأن تستغل بشكل أمثل، حتى نتجاوز الإشكالات العالقة والتي لم تستطع مدونة الأسرة في شكلها الحالي تقديم إجابات بخصوصها.
3- مستويات تدخل بعض أصوات التوجه الحداثي المغربي في موضوع تعديل مدونة الأسرة
يبرز إلى العلن توجه يطرح نفسه كنقيض للتوجه المحافظ وذلك من خلال بعض المواقف اتجاه بعض القضايا ذات الصلة، بـ(الإرث، الولاية، اقتسام الأموال المكتسبة أثناء قيام العلاقة الزوجية….) حيث ما فتئ هذا التيار(الحداثي) يتشبث بمثل هذه المواقف، معتبرا أن المرحلة تتطلب إعادة النظر في بعض المفاهيم التي ترتبط بموضوع الأسرة، والتي أصبحت متجاوزة حسب المرجعيات التي ينطلقون منها، كما يعتبر هذا التوجه أن قضية الأسرة مسألة مجتمعية يتطلب الأمر منحها العناية والأهمية الكافيتين، وإن كان الأمر يبدو من وجهة نظرهم التزام (أخلاقي/سياسي) يمكن النظر إليه (حسب هذا التوجه) باعتباره مؤشرا دالا على التحولات التي يعيشها المجتمع في جميع الميادين، ولا سيما “منظومة القيم” والتي لا تتطلب سوى الإرادة والجراءة في طرح وتناول بعض المواضيع ذات الصلة، وإزالة غطاء القداسة عنها، على اعتبار أن تحول المجتمع وتطوره يفضي بالأساس إلى تغيير في منظومة القيم، كما يشكل هذا النقاش أداة لقياس نسبة التفاعل/التحول داخل المجتمع في علاقته بهذه الأخيرة، ومدى اقتناعه بضرورة التغيير، فهذه الصيغ التي يتناول بها النقاش تطرح إشكالات عدة، أولاها تتجلى في الكيفية التي يدار بها النقاش، فالملاحظ بخصوص تلك المواقف حيث تطبعها نبرة صدامية، وتقدم نفسها كأطروحة “نقيض جذري” للتوجه المحافظ، مما يوحي بوجود أزمة حوار داخل المجتمع، وتعطي انطباعا على أن الوصول إلى حل متوافق بشأن هذا الموضوع وغيره أضحى أمرأ غير ممكن حصوله في الأفق بالمطلق، وهو ما نؤاخذه على هذا التوجه، بحيث أن مثل هذه المواقف يساء استغلالها من خلال تحريف مضامينها وسياقها، ويتم استعمالها في بناء خطاب مضاد، مما يسهم في إثارة البلبلة ويؤثر سلبا على المسار الإيجابي للنقاش الذي نطمح إليه، ويجسد نفسه كتعبير حضاري وراق، يعكس الاتزان والنضج الذي بلغه المجتمع، عبر نخبه السياسية والحقوقية والمدنية.
فالمجتمع المغربي شأنه شأن باقي المجتمعات المحافظة، ذات الامتداد التاريخي الذي يمنحه سمات تقليدانية راسخة، وبالتالي يجب التعامل معها بحذر شديد. فالتحولات التي يعيشها العالم وتنامي المد الحداثي، ساهم في بروز نخبا وطنية تنويرية/حداثية، تبتغي الإصلاح في سبيل تطوير المجتمع والدفع به قدما نحو التغيير، من خلال تطوير بنيته المركزية (الأسرة)، عبر تغيير بعض المقومات التي تراها حسب تشخيصها متجاوزة، وإن كان الأمر من وجهة نظرهم ينسجم مع مرجعياتهم الحداثية العقلانية، فإن تناولهم لموضوع مدونة الأسرة لا ينبغي التعاطي معه بشكل مجرد، دون استحضار لهذه الخصوصيات (التاريخية، الدينية، التراثية)، وإن كانت هذه المحددات تصطدم مع المرجعيات التاريخية في جوانب عدة، غير أن هذا لا يعني عدم تكييف الخطاب ومد جسور التواصل مع الجميع، في سبيل إيجاد أرضية توافقية تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات. فالتطلع إلى التغيير الإيجابي يتطلب الحفاظ على مقومة الوحدة الوطنية، وعدم طرح تصورات قد تشكل مجالا خصبا للاستغلال والتحريف، وشغل الرأي العام بقضايا هامشية، مما تضيع معه المصلحة العامة مقابل الاستغلال الضيق لقضاياه الأساسية.