MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




قضاء النيابة العامة والرأي العام

     

منير شماع
باحث في العلوم القانونية مختبر العلوم القانونية جامعة محمد الخامس الرباط



قضاء النيابة العامة والرأي العام
يتمتع هذا الجهاز بحكم القانون 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة وبسن قواعد بتنظيم النيابة العامة، باستقلالية تامة عن باقي الأجهزة الإدارية.

هذه الاستقلالية العضوية والوظيفية هي استقلالية خارجية عن باقي الأجهزة، لكنها ليست داخلية لأن جهاز النيابة العامة يعتبر وحده خاضعا لتراتبية هرمية تبدأ من المحاكم الابتدائية من خلال وكيل الملك ونوابه، مرورا بمحاكم الاستئناف من خلال الوكيل العام ونوابه، وصولا إلى رئاسة النيابة العامة؛ حيث يسمح القانون بإصدار أوامر من طرف الأجهزة العليا إلى الأجهزة الأقل درجة، شريطة أن تكون هذه الأوامر كتابية وقانونية، وهو ما يفسر بالدوريات المتكررة التي يصدرها رئيس النيابة العامة لتوجيه وكلاء الملك والوكلاء العامون إلى تبني مقتضيات معينة في التعامل مع قضايا بعينها.

إن مختلف هذه الصلاحيات المخولة للنيابة العامة تظل مؤطرة بمقتضيات قانونية لا يمكن مخالفتها تحت طائلة المتابعة. فالنيابة العامة في الجهاز القضائي المغربي تتخذ وضع سلطة اتهام؛ بمعنى أن وظيفتها هي حماية المجتمع والدفاع عن حقوقه وقيمه.
x محتوى اعلاني



من هذا المنطلق، أوكل لها المشرع صلاحيات إصدار الأوامر المتعلقة باعتقال المشتبه فيهم بارتكاب جرائم من درجة الجنح والجنايات بشكل خاص، والقيام بكل ما يمكن أن يثبت التهم الموجهة لهؤلاء، سواء تعلق الأمر بالتفتيش أو إجراء خبرة أو الاستنطاق…، وهي إجراءات تدخل ضمن ما سماه المشرع بالبحث التمهيدي الذي يعتبر اختصاصا حصريا للنيابة العامة.

وبالرغم من أهمية هذه الإجراءات ّ، فإنها لا تحول المشتبه به إلى متهم إلا بعد أن تقرر النيابة العامة سلك مسطرة المتابعة بناء على الأدلة والمعطيات التي تبرر التهم الموجهة إلى المشتبه فيه انسجاما مع الفصل الأول من قانون المسطرة الجنائية الذي يؤكد على قرينة البراءة.

وبالتالي فإن استقراء النصوص القانونية المؤطرة لعمل النيابة العامة، سواء كطرف أصلي في القضايا الجنائية، أو فيما يخص بعض القضايا المدنية التي تتدخل فيها بصفتها كطرف منظم، يؤكد بشكل صريح محدودية سلطة هذا الجهاز على مستوى الإدانة، لأن صلاحياته تبقى في حدود توجيه الاتهام وأقصى ما يمكن أن تصدره النيابة العامة هو الأمر بالوضع تحت تدابير الحراسة النظرية لمدة يحددها القانون أو الأمر بالإيداع في السجن.

وبهذا، فإن تضخيم بعض الحقوقيين لصلاحيات النيابة العامة والتحذير المفرض من توسيع صلاحياتها، ونشر مغالطات لدى الرأي العام حول خطورة استقلالية هذا الجهاز، يعكس سوء الفهم الموجود بين القضاء والرأي العام، ويحمل طابعا قصديا بسبق إصرار وترصد، ذلك أن استقلالية هذا الجهاز جاء نتيجة تفيل للمقتضيات الدستورية من خلال مؤسسة تشريعية أقرت القانون المتعلق بضمان استقلالية النيابة العامة.

لذلك فإن التحامل الحزبي أو الحقوقي المغرق في الإيديولوجيا لا يخدم دولة المؤسسات، ويكرس ثقافة الجهل القانوني التي تدفع البعض إلى الانسياق وراء تواطؤ مفتعل يعكس ارتفاع منسوب العدوى العاطفية اللاعقلانية في فهم وظائف اشتغال مؤسسات قضائية تمارس عملا يمس حقا مقدسا لدى الأفراد. فالرفض التلقائي لبعض الجمعيات الحقوقية والأحزاب السياسية لقرارات وملتمسات وتدابير النيابة العامة، يعبر عن ممارسة حقوقية انتقائية؛ حيث أن إصدار البيانات المنددة بالاعتقالات لشخصيات عمومية (صحافيين، برلمانيين، أعضاء لجان مركزية حزبية…) يبرز أن هذه الآلة الحقوقية لا تشتغل إلا عندما تصدر النيابة العامة أمرا باعتقال أشخاص يتمتعون بحضوة اجتماعية وسياسية. تحصن البعض ضد الاعتقال.

وهكذا، فلجوء بعض الأحزاب إلى إصدار بيانات وتوجيه أسئلة شفوية داخل البرلمان، يعكس أن المسؤول السياسي لازال يمتلك ثقافة الاستقواء العددي والرمزي على القانون ويرفض بشكل صريح وضمني الممارسة المؤسساتية التي تقضي باحترام القرارات الصادرة عن مؤسسة القضاء، باعتبارها أوامر لا تمتلك قوة الشيء المقضي به، بل هي مجرد تدابير احترازية قد تُبطل أمام قضاء الموضوع، إذ يحق لقضاء الحكم أثناء سريان المحاكمة الإقرار بمتابعة المتهم في حالة سراح بعد أن تابعته النيابة العامة في حالة الاعتقال.

فالمشرع عندما وضع هندسته التشريعية لصلاحيات هذا الجهاز، كيفها مع وضعه كخصم شريف يدافع عن قيم المجتمع وجعل مرافعاته تتخذ طابع الملتمسات التي يبقى لقضاء الموضوع الحق في قبولها أو رفضها، كما جعل في المقابل للدفاع الحق في المرافعة وحصن ممارساته بضمانات قانونية ضمانا للمحاكمة العادلة، موازاة مع ذلك رفض المشرع السماح بتجريح النيابة العامة لأن وضعها كخصم للمتهم لا ينسجم مع منطق التجريح، لكنها احتفظت مع ذلك للمتهم بحق مخاصمة القضاة بما في ذلك قضاة النيابة العامة كلما ثبت ما يبرر مخاصمتهم (الفصول من 391 إلى 400 من قانون المسطرة الجنائية).

إن هذه المعطيات تبرز أن حجم التهويل من اختصاصات النيابة العامة ومحاولة تصويرها للرأي العام كخصم يترصد الأخطاء للزج بالأفراد في المعتقلات هو أمر مجانب للصواب، لأن صلاحياتها تبقى محدودة في تقرير مصير الاعتقال الذي يعتبر السلاح الأقوى في يد النيابة العامة لتدبير عملها المتمثل في البحث عن الحقيقة وليس عن الإدانة، لهذا يصفها الفقه القانوني بالخصم الشريف بينما يصفها حقوقيو (الصدفة ) تعسفا ب “المغرق” كوصف قدحي لا ينسجم مع نبل وظائفها وغاياتها المهنية.



الجمعة 15 مارس 2024
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter