مما لاشك فيه أن الأمم والحضارات الإنسانية لا تبلغ رقيها، ولا تقوم لها قائمة، إلا عندما يكون العدل أساسها، فبالعدل تبلغ عز مجدها، كما أن هذه الحضارات تكون عظمتها بعظمة القوانين التي تسود فيها، وقدرة هذه القوانين على الاستمرار ومواكبة التغيرات والتطورات على جميع المستويات.
ولذلك فالعدالة بالأهمية بما كانت، والأكيد، أنه لكي تعم العدالة لابد من وجود نصوص تشريعية عادلة يشارك في صياغتها الكل، مادام هو المعني بها، بعيدا عن أية عصبية وأنانية وتحكم، وبذلك كانت العدالة عكس الظلم والجور، ومن بين أهدافها، المساواة، والتوازن، وعدم التعدي، وحماية المصالح الفردية والعامة.
ومادام أن القانون الوضعي من صنع البشر، فإنه بطبيعة الحال يبقى معرضا للنقصان وعدم المثالية بما قد ينسجم مع العدالة أو عدم ذلك.
والتشريع كقواعد عامة مجردة وملزمة، تنظم العلاقات في المجتمع، وأيضا كمصدر من مصادر القانون، يقصد به عملية سن القواعد القانونية، فالتشريع إذن هو صناعة، وهذه الصناعة تتطلب مجموعة من الآليات والمعايير حتى تكون منتجة مادام أن التشريع هو أداة لتطوير المجتمع والكفيل بنهوضه وتقدمه.
فصناعة التشريع تتطلب توافر مجموعة من المعايير أهمها:
- أن تكون صياغة النص القانوني صياغة واضحة، أي أن يصدر في صيغة مكتوبة من خلال ألفاظ وكلمات وعبارات واضحة لا لبس فيها، وان يتم توخي الدقة والوضوح في انتقاء واستخدام المصطلحات القانونية، مما يجعلها منسجمة مع المفاهيم الراسخة في الفقه القانوني، مع تجنب ركاكة الأسلوب والحشو والإطناب.
- أن تكون أحكام النص التشريعي متناسقة ومتناغمة غير متناقضة، بما يضمن صلاحيتها للتطبيق على مدى طويل، دون اللجوء إلى التعديل مرة تلو الأخرى
- تحقيق التوافق والانسجام بين الدستور والقاعدة القانونية موضوع الصياغة والتشريع، ضمانا للإستقرار القانوني، مع مراعاة المواثيق الدولية في هذا الجانب.
- عدم التسرع في صياغة القوانين وتشريعها كرد فعل على أحداث أو وقائع معينة، ممكن معالجتها بوسائل أخرى غير التشريع، بما قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع أكثر من معالجتها.
- الإنطلاق من فلسفة واضحة ومحددة، ضمانا لقوة النص التشريعي ودوامه وفعاليته.
- الإلمام بجميع جوانب الموضوع المراد التشريع فيه، وإشراك ذوي الاختصاص في التشريع، والأخذ بآرائهم وملاحظاتهم ضمانا لجودة القاعدة القانونية.
- أن يكون التشريع مستهدفا لجميع الفئات، أي جميع المواطنين دون ترجيح مصالح فئة على فئة أخرى تحقيقا للعدل المنشود.
- عدم التمييز بين الدولة والأشخاص العادين في سن القوانين ترسيخا لمبدأ المساواة أمام القانون.
- ألا يكون التشريع يخدم مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة، أو أن يكون مستجيبا لضغوط سياسية، أو متأثرا بالجماعات الضاغطة أو ذوي النفوذ.
- أن يسعى إلى تحقيق الوحدة القانونية والسياسية للدولة.
وحتى يكون القانون منسجما مع روح المجتمع و ثقافته، وجب عليه أن يكون مستجيبا لحاجياته وتطور العلاقات فيه، ومتلائما مع قيمه، وضامنا للتوفيق بين المصالح الخاصة والعامة، وحريصا على سيادة الاستقرار والثقة في المعاملات وتكافؤ الفرص أمام الجميع.
والملاحظ مؤخرا وفي ظل ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والسياسات التي تنهجها الحكومة الحالية أن بلادنا تعرف أزمة حقيقة في التشريع.
ويبدو هذا جليا من خلال مجموعة من المسودات ومشاريع القوانين التي تم طرحها مؤخرا.
وأول مؤشر على أزمة صناعة التشريع، هو هيمنة السلطة التنفيذية على العمل التشريعي، عبر مشاريع القوانين التي تتقدم بها للسلطة التشريعية، هذه الأخيرة التي تخلت عن دورها واختصاصها المخول لها دستورا، لتكتفي بمناقشة مقترحات القوانين التي تتقدم بها الحكومة والمصادقة عليها، وهذه أول بوادر أزمة صناعة التشريع.
والأكيد ومادام أن الحكومة هي من تتولى صياغة مقترحات ومشاريع القوانين، فإنها تسعى جاهدة بأن تكون تلك القوانين خادمة لأجندتها السياسية، ومتناسقة مع رؤيتها لتدبير الشأن العام من وجهة نظرها، مما سيفرغ القاعدة القانونية من التجرد والموضوعية والحياد، وسينزع الثقة من هذه القاعدة القانونية، لأنها جاءت نتيجة ظروف معينة ولأهداف معينة.
وإن في تخلي السلطة التشريعية عن دورها في تشريع القوانين، تأثير كبير على مصالح المواطنين، التي تعد هي ممثلا لهم وناطقا بلسان حالهم.
وإننا نقول اليوم إن السلطة التشريعية في بلادنا تعيش أزمة حقيقية بخصوص دورها الريادي كمصدر تشريعي أول بمقتضى الدستور، متخلية عنه للسلطة التنفيذية التي عمدت إلى صياغة مجموعة من مسودات ومقترحات مشاريع قوانين عازمة تقديمها للبرلمان قصد المناقشة والمصادقة، ليتحول دور السلطة التشريعية من التشريع وصناعة القواعد القانونية إلى المناقشة والمصادقة عليها، فعن أي سلطة تشريعية نتحدث وعن أي دستور نتحدث.
وحتى ما إذا عرفت السلطة التشريعية قدرها، واقتنعت بأنها صاحبة الاختصاص، فإن الأزمة لن تزول مادام أن النائب البرلماني لا يتطلب فيه أي مستوى ثقافي وعلمي معين، بل قد يكون أميا.
فكيف أمام تواجد مثل هؤلاء أن نتحدث عن صناعة التشريع، ولعل الأسلوب التي تصاغ به القوانين والنقائص التي تعتريه غير دليل على ذلك.
إذن، فمن خلال الوقوف على بعض المسودات التي جاءت بها وزارة العدل وعلى سبيل المثال مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية، وأيضا مشروع القانون الذي جاءت به وزارة التشغيل والتكوين المهني، المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل، وأيضا مشروع القانون المالي لسنة 2015 التي جاءت به وزارة المالية، وما جاءت به من خلال بعض مضامينها سيتضح لنا جليا أننا نعيش في أزمة حقيقية في المجال التشريعي، لما عرفته من تراجعات بخصوص مجموعة من المكتسبات وأيضا لمخالفتها الصريحة للدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب.
وهذه المسودات والمشاريع تعد إنزالا لمضامين ميثاق إصلاح منظومة العدالة، هذا الميثاق الذي جاء من ضمن ما سمي بالرؤيا العامة لإصلاح منظومة العدالة في جزئه الأول المتعلق بالأسس العامة لإصلاح منظومة العدالة مايلي:
- العمل على ملاءمة التشريعات الوطنية مع دستور المملكة ومع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بمكافحة الجريمة وبحقوق الإنسان المصادق عليها والمنشورة.
- تطهير منظومة العدالة من الشوائب العالقة به.
إلا أن الملاحظ من خلال قراءتنا لبعض مضامين المسودات والمشاريع المذكورة أعلاه نجد أن ما قيل غير ماتم فعله، فلا هي كانت مستجيبة لروح الدستور ومتناغمة مع الاتفاقيات الدولية ، ولا هي سعت إلى تطهير منظومة العدالة من الشوائب العالقة بها.
فهذه مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية تضمنت عدة تراجعات بخصوص دور المحامي في المحاكمة العادلة، ووسعت من المساطر التي لا تحتاج لمحامي، فإذا كانت المحاكمة العادلة هي أحد الأعمدة الأساسية لدولة القانون، فإن من بين أهم مبادئ هذه المحاكمة العادلة هو الحق في الدفاع.
والمحاكمة العادلة لن تقوم لها قائمة بدون الاستعانة بمحامي، لأنه هو القائم الساهر على احترام شروطها ومبادئها بحكم تكوينه واختصاصه.
وإن دور المحامي في الدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم ومبادئ المحاكمة العادلة، ليس ترفا أو خيارا، بل هو حتمية وضرورة وجود، فالمحامي صمام الأمان للمتقاضي والمدافع عن حقوقه ومصالحه طبقا للقوانين الجاري بها العمل، وهو الممثل الشرعي والقانوني للأشخاص أمام المحاكم.
وإن في تهميش دور المحامي، وتقزيمه، ما يجعل المواطن عرضة لضياع مصالحه وحقوقه، وما يفتح الباب أيضا أمام الفوضى والعشوائية في منظومة العدالة، بما يتيح للسماسرة ووسطاء السوء العبث والتلاعب بمصالح الناس.
وإذا كان الهدف الحقيقي لميثاق إصلاح منظومة العدالة هو الحرص على حماية مصالح وحقوق المواطنين داخل منظومة العدالة، فإن ذلك لن يتأتى إلا بتعزيز ضمانات استقلال القضاء وتعزيز دور المحامي، كضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات.
وفي هذا المجال يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في توفير المساعدة القضائية للأشخاص الذين لا يستطيعون تنصيب محامي للدفع عن مصالحهم، لا أن تعفيهم من المحامي، وفي ذلك ضرب لمصالحهم وحقوقهم بعرض الحائط.
وهكذا، فان مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية جاءت مخالفة تماما للدستور المغربي ( الفصول 119، 120، و 121 ) والمواثيق الدولية (المبادئ الأساسية بشان دور المحامين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بهافانا من 27 غشت إلى 7 شتنبر 1990)، لما غيبت دور المحامي، ولم تضعه في المكان المخصص له، وأيضا لما حاولت أن تعفي الدولة من التزامها بتوفير المساعدة القضائية للمتقاضين المعوزين، بأن سمحت لهم بالتقاضي بصفة شخصية، وفي ذلك مساس وخطورة على مصالحهم وحقوقهم لأنه يجهلوا قواعد التقاضي ويجهلوا القانون ويفتقدوا للخطاب القانوني مع المحكمة.
فحق التقاضي، لا يعني حتما ولزوما إتاحة الفرصة للشخص للجوء للقضاء بصفة شخصية دون الاستعانة بخدمات محامي، لأن المحامي يبقى هو المختص بالدفاع عن مصالح المتقاضين وحقوقهم أمام المحاكم، ولكونه العارف بالقواعد القانونية، والمتقن لغة الحوار القانوني مع المحكمة.
والدولة يجب عليها أن تتحمل مسؤوليتها في توفير الاستعانة بمحامي للمواطن المعوز الذي لا يستطيع سداد أتعاب المحامي في إطار المساعدة القضائية ، لا أن تعفي نفسها من هذا الواجب على حساب المواطن ومصالحه، بأن يتيح له حق التقاضي بصفة شخصية وهو الجاهل بقواعد القانون، وبذلك فهي تضيع عليه مصالحه وحقوقه لأنه يجهل كيفية الدفاع عنها لكونه يفتقد للآليات للازمة لذلك.
كما أن بعض مضامين هذه المسودة، أثقلت كاهل المتقاضين بمجموعة من الغرامات، فإذا كان حق التقاضي مكفول دستورا، ومضمون على مستوى المواثيق الدولية، فلماذا حاول واضعي المسودة الحد من هذا الحق بما سيصبح معه المواطن يخشى اللجوء للقضاء خوفا من الغرامة؟.
فأن يفرض المشرع مسبقا غرامة، فإنه يخلق الشك للمتقاضي ولو أن نيته حسنة، ويخشى أن تطبق عليه الغرامة في حال أنه خسر دعواه.
وغني عن البيان أن أصعب ما يمكن الوقوف عليه هو النية، وما مدى حسنها من عدم ذلك.
ومن شأن كل هذه المقتضيات أن تمس بحق التقاضي ، فمحاصرة المتقاضي بمجموعة من الغرامات تجعله قد يفكر ألف مرة قبل اللجوء للقضاء قصد الدفاع عن مصالحه وحقوقه، وهو ما يشكل خرقا لمبدأ حق التقاضي المكفول دستورا والمضمون بمقتضى المواثيق الدولية.
وما جاء به مشروع القانون المتعلق بالتعويض على حوادث الشغل بخصوص مسطرة الصلح، التي تكون إلزامية أمام شركة التأمين قبل اللجوء للقضاء.
إذ أنه يجب على الضحية أو ذوي حقوقه قبل اللجوء إلى القضاء اللجوء إلى مسطرة الصلح، وذلك حسب الإجراءات المنصوص عليها في المشروع من 133 إلى 138 وذلك بان يلجأ الضحية أو ذوي حقوقه للمقاولة المؤمنة للمشغل قصد إبرام اتفاق من أجل الحصول على المصاريف والتعويضات كما هي منصوص عليها في هذا المشروع.
ونحن نقولها وبكل صراحة أن مسطرة الصلح هذه وبهذه الكيفية فيها انتصار وتحيز كبير لفائدة شركات التامين على حساب مصالح المواطن، ولن تشفع الفقرة الأخيرة من المادة 133 من هذا المشروع في قول غير ذلك، لأن المصاب أو ذوي حقوقه يجهلون أصلا كيفية احتساب المصاريف والتعويضات حتى يمكن أن يتقدموا بالطعن في محضر الصلح إذا كانت التعويضات تقل عن تلك المضمونة قانونا.
ونحن نلاحظ في كثير من الأحيان خلال الملفات المعروضة على القضاء أن العروض التي تقدم من طرف شركة التأمين تبقى مختلفة تماما وتقل عن التعويضات المستحقة قانون والتي تحكم بها المحكمة.
ولو كان الأمر للوهلة الأولى أمام القضاء ومباشرة، لما قلنا ذلك، لأن القضاء ملزم بتطبيق القانون خصوصا وان قواعد هذا القانون من النظام العام، أي أن المحكمة ملزمة باحتساب التعويضات المنصوص عليها قانونا ولو لم يطلبه الأطراف بكيفية صحيحة، أما أن نترك المواطن وجها لوجه مع شركة التامين ففي ذلك حيف كبير ومساس خطير بمصالح هذا المواطن، خصوصا وان مسطرة الصلح إلزامية وليست اختيارية.
وعليه يا إما أن تكون مسطرة الصلح اختيارية، أوان يتم الاحتفاظ بها مع ضرورة الاستعانة بمحام لكونه سيسهر على حماية مصالح موكله طبقا للقانون.
وهذا ما قلنا عنه أن التشريع لا ينبغي أن يكون متحيزا لفئة على حساب أخرى، وألا يكون مستجيبا لتأثير الجماعات الضاغطة وأصحاب النفوذ على حساب المواطن البسيط.
وأيضا ما جاءت به المادة 8 من مشروع قانون المالية لسنة 2015ن والتي نصت صراحة على أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية.
ومن هذا المنطلق فإن من يحمل حكما قضائيا قابلا للتنفيذ في مواجهة الدولة، لن يكون له الحق في الحجز على أموال الدولة بصفة صريحة من خلال المادة8.
وهــــــــــــــــذا، ما يعزز أكثر تهرب الدولة من تنفيذ الأحكام القضائية ويكرس له، بل إن الدولة وفي ظل مقتضيات القانون الحالية تتهرب وتمتنع من تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها، فما بالنا بتواجد نص مثل المادة 8 هاته.
فأن يخاطبنا النص بأنه يمنع الحجز على أموال الدولة، فإنه بذلك يحرم المستفيد من آلية من آليات الإجبار على التنفيذ وهي الحجز على الأموال.
وما معنى أن يتم سن هذه المادة أمام ما ضمنه الدستور من خلال الفصل 126 الذي نص على أن الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع، وعندما تقول الجميع فان الدولة ضمن هذا الجميع.
وهذا أيضا ما يدخل في خانة التمييز في التشريع بين المواطن والدولة، ويشكل خرقا للدستور.
إذن ومن خلال الوقوف على بعض المضامين والمقتضيات التي جاءت بها مسودات ومشاريع القوانين، وما شكلته من مخالفة صريحة لنصوص الدستور، والمواثيق الدولية، وما جاءت به من تراجعات على مستوى مجموعة من المكتسبات مقارنة مع القوانين الحالية، وما عبرت عنه صراحة في أنها لم تكن موفقة في عدم التميز بين فئات المجتمع، وبين المواطن والدولة.
يجعلنا نقول أننا نعيش أزمة حقيقية في صناعة التشريع في ظل ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والسياسات التي تنهجها الحكومة، وتراجع السلطة التشريعية عن دورها الريادي في التشريع أمام هيمنة السلطة التنفيذية.