إن الدستور باعتباره أسمى القواعد القانونية في التنظيم القانوني للدولة، طرح مجموعة من التبعات والنتائج، كان من أولى هذه النتائج ما يعرف بمبدأ تدرج القوانين، و يقصد بهذا المبدأ " تمتع بعض القواعد القانونية بقوة إلزامية أعلى مما تتمتع به القواعد القانونية الأخرى التي تليها في المرتبة، وبالتالي يجب على كل سلطة عامة عند قيامها بإنشاء القواعد القانونية، أن تراعي أحكام القواعد القانونية الأعلى، حيث لا يجوز للقاعدة الأدنى مرتبة تعديل أو إلغاء القاعدة القانونية الأعلى مرتبة وإلا كانت مخالفة للمشروعية، فإذا تعرضت بعض هذه القواعد فيما بينها، فإنه يمكن تغليب القاعدة القانونية الأعلى مرتبة" . وبالتالي أضحى من اللازم الحديث عن الرقابة على الدستورية تطبيقا لمبدأ سمو الدستور وخضوع هذه القواعد القانونية لهذه القاعدة العليا. إن الرقابة على دستورية القوانين هي في الغالب رقابة وقائية تعمل على ضمان تطابق مختلف القواعد القانونية التي تدخل في هرمية التشريع مع الدستور. وهذه الرقابة تناط بهيئة مختصة تختلف باختلاف طبيعة النظم السياسية.
وتماشيا مع مبدأي تدرج القواعد القانونية وسمو الدستور، ظهرت آراء فقهية واجتهادات قضائية ارتبطت فيما أطلق عليه باسم "المجال الدستوري" أو"الكتلة الدستورية" Bloc de Constitutionnalité من طرف بعض الفقهاء الدستوريين، و قد عرف الفقيه الفرنسي Louis FAVOREU المجال الدستوري بكونه"مجموع القواعد القوانين التي تشير إليها العدالة الدستورية لممارسة رقابتها على الدستورية"
وبالمجمل فإن "المجال الدستوري" يأخذ معنيين، معنى واسع يدل على مجموع القواعد القانونية، ذات القيمة العليا والتي يعمل المجلس الدستوري على ضمان احترامها. أما المعنى الضيق stricto sensus فهو مجموع المبادئ والقواعد ذات القيمة الدستورية، التي يجب أن تحترمها السلطة التشريعية .
ارتبط ظهور ما أطلق على تسميته ب"الكتلة الدستورية" باجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي، ففي خضم النقاش الفقهي الحاد الذي عرفته فرنسا حول تدرج بعض القواعد الدستورية، أتى قرار المجلس الدستوري ل 16 يوليوز 1971، والذي ظهرت من خلاله فكرة المجال الدستوري، للتدليل على مجموعة من النصوص المتباينة التي يشير إليها المجلس الدستوري لتبرير قراراته، أثناء خضوع النصوص القانونية لمراقبته(المعاهدات، القوانين التنظيمية، النظام الداخلي للجمعية الوطنية والقوانين العادية). ويضم هذا المجال-حسب اجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي- ثلاثة أنواع من النصوص: الفصول المرقمة في دستور 4 أكتوبر 1958، ديباجة دستور 1946، وأصناف أخرى أنتجت من قبل المجلس الدستوري
شكل الخلاف الفقهي الحاد حول مكونات المجال الدستوري العلوية، ومدى تدرج هذه المكونات سمة أساسية في هذا الإطار، فإذا كانت فرنسا-مهد الاجتهادات في هذا الصدد- قد عرفت مثل هذه النقاش، توج بوضع كل من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ديباجة دستور 1946 ودستور 1958 في مرتبة متساوية في البناء الفوقي للنصوص القانونية(القرار 16 يناير 1982) فإن الجدل والاجتهادات مازالت قائمة حول "الكتلة الدستورية" في المغرب...
إن الحديث عن المجال الدستوري داخل التنظيم القانوني المغربي، يقتضي منا ذكر مكونات هذا المجال و مدى تدرجها (الدستور، المبادئ، ذات القيمة الدستورية، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، والأنظمة الداخلية للبرلمان) (المبحث الأول) . ثم الحديث عن معيارية احترام هذا التدرج من خلال اجتهادات المجلس الدستوري المغربي، أو بتعبير آخر، مدى احترام الشرعية القانونية والدستورية لهذا التدرج (المبحث الثاني). وبالتالي، ما هي مكونات "الكتلة الدستورية" بالمغرب؟ و ما هو طبيعة التدرج الذي تتخذه؟ و هل استطاع القضاء الدستوري المغربي أن يضمن احترام تدرج القواعد القانونية من خلال اجتهاداته، ؟
وسيتم مقاربة هذه الأسئلة من خلال مبحثين:
المبحث الأول: تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" داخل المنظومة القانونية المغربية
المبحث الثاني: احترام تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" من خلال اجتهادات القضاء الدستوري المغربي
المبحث الأول: تدرج مكونات المجال الدستوري داخل المنظومة القانونية المغربية
يتخذ تدرج القواعد القانونية شكلين أساسيين، فهو إما تدرج شكلي أو تدرج يقوم على القوة الإلزامية للقاعدة القانونية.لأجل ذلك، سنقوم بإيراد لمحة عامة حول هذين الشكلين
- التدرج الشكلي للقواعد القانونية: يرتكز التدرج الشكلي للقواعد القانونية على مرتبة السلطة التي أصدرت القواعد القانونية و الإجراءات المتبعة في ذلك، فإذا صدرت القاعدتان عن نفس السلطة كانت الإجراءات المتبعة في إصدارها هي المرجح بينهما، فتعتبر القاعدة التي تصدر وفقا لإجراءات أشد، أعلى مرتبة من تلك التي لا تتطلب لإصدارها سوى إجراءات عادية، أو لا تتطلب بشأنها أية إجراءات.
- تدرج المرتبة الإلزامية للقواعد القانونية: يرتبط هذا التدرج أساسا بالقوة القانونية للقاعدة أو قوتها الإلزامية أو مرتبتها الإلزامية.
لذلك، فما سنروم تحقيقه في هذا المبحث، هو محاولة مناقشة تدرج القواعد القانونية، انطلاقا من الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية (المطلب الأول)، وكل من النصوص التشريعية والنظام الداخلي (المطلب الثاني
المطلب الأول: الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية
إذا كانت الاجتهادات القضائية الفرنسية قد أقحمت مجموعة من النصوص القانونية منها ما هو مرتبط بالمعاهدات الدولية وما هو خاص بكل من إعلان حقوق الإنسان والمواطن وديباجة دستور 1946 ضمن مكونات مجالها الدستوري العلوي، فإن الأمر في المغرب مازال مختلفا نوعا أو ما زال يشوبه بعض الغموض، فاجتهادات المجلس الدستوري المغربي لم توضح الأمر بعد(موقع المعاهدات الدولية و ديباجة الدستور ، و التي تم إبراز مكانتها بموجب التعديل الدستوري لسنة 2011)، فمكونات المجال الدستوري العلوية في المغرب تنحصر في كل من الدستور باعتباره أسمى القواعد القانونية(الفرع الأول)، والمبادئ ذات القيمة الدستورية التي توجد في قيمة متساوية مع الدستور(الفرع الثاني
الفرع الأول: مبدأ سمو الدستور
يعد الدستور بمثابة مجموعة من القواعد التي تتناول تنظيم الحكم، إذ تشكل هذه القواعد النواة الصلبة للدستور... إنه تعبير عن الإيديولوجية السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي تعطي لتنظيم الحكم في الدولة بعده ومدلوله الحقيقيين
و بذلك، فإن سمو الدستور داخل التنظيم القانوني يجد اعتباره في مجموعة من العوامل منها ما هو مرتبط بالشكل(بطريقة وضع وتعديل الدستور...) ومنها ما هو موضوعي يخص المواضيع العامة والحيوية التي يقرها الدستور
بالنسبة للاعتبارات الشكلية لسمو الدستور، فتتجسد في المكانة المهمة التي يكتسيها الدستور بالمقارنة مع باقي القواعد الأخرى سواء بالنسبة لطريقة وضعه لأول مرة أو ما يخص تعديله...
- وضع الدستور من قبل سلطة تأسيسية أصلية غير مشروطة
إن السلطة التأسيسية الأصلية التي تباشرعملها بوضع الدستور، هي سلطة لا تتقيد بأية اعتبارات قانونية، فهي إذن"لا تندرج ضمن السلطات العامة التي تخضع للقانون، ومن ثم لا تخضع لرقابة القضاء، بينما تخضع السلطات الأخرى لهذه الرقابة لوجود القواعد الدستورية التي يتعين عليها التزامها عند مباشرة اختصاصاتها .
- جمود الدستور: يجد هذا الاعتبار مسكنه في كون أن الدستور يخضع لمسطرة خاصة عند تعديله ينص عليها الدستور نفسه، فإذا كانت القوانين تعدل وفق مسطرة تتسع بالسهولة والمرونة، فإن الدستور يخضع لمسطرة فريدة تتميز بالجمود والصلابة
أما من حيث المواضيع والمحاور المهمة التي يحددها الدستور في مضامينه، فهي تتمحور في:
- تحديد طبيعة السلطة والحكم في الدولة و العلاقات بين هذه السلط ...
- الدستور هو الضامن لحقوق وحريات الأفراد، و المحدد الرئيسي لهذه الحقوق والواجبات..
لهذه الاعتبارات وغيرها، يتبوأ الدستور مكانة متميزة في قمة التنظيم القانوني للدولة، إذ لا يمكن أن تتحقق العدالة وتتجسد دولة القانون بدون هذا السمو، لهذا فقد اعتبر كيلسن
KELSEN
أن 'الدستور هو أساس
"fondement"
الدولة، وقاعدة
"la base"
النظام القانوني'
. وبالتالي، فإن الرقابة على الدستورية وخضوع القواعد القانونية الأخرى للدستور، ما هو إلا تجسيد لهذا السمو.
الفرع الثاني: المبادئ ذات القيمة الدستورية
نشأت المبادئ ذات القيمة الدستورية من خلال اجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي. "فبجانب المبادئ الموجودة في المصادر المكتوبة في دستور 1958، إعلان 1789 وديباجة دستور 1946، استعمل المجلس الدستوري أيضا صكوكا و قواعدا لمراقبة دستورية القوانين، تجسدت فيما سمي بـ"المبادئ ذات القيمة الدستورية" .
إن المبادئ ذات القيمة الدستورية هي مبادئ غير شرعية، يستنبطها القضاء الدستوري من روح الدستور و أهدافه العامة، ويعتبرها في قراراته بأنها مبادئ دستورية، توازي الدستور وبالتالي فإن مخالفتها تعد مخالفة دستورية .
ففي قرار المجلس الدستوري الفرنسي ل 27 ديسمبر 1973، اعتبر هذا المجلس لأول مرة المساواة كمبدأ أو كقاعدة ذات قيمة دستورية.
ولم تختلف اجتهادات المجلس الدستوري المغربي عن غيره الفرنسي، فقد اعتبر هذا المجلس في العديد قراراته مبدأ المساواة قاعدة ذات قيمة دستورية...
ففي القرار 95-52 (11) أشار المجلس الدستوري:
" وعن المادة 125 (الفقرة الأولى )... ويخل لذلك بمبدأ المساواة الذي يقره الدستور بين النواب، سواء كانوا منتميين إلى فرق نيابية أو غير منتميين إليها"
لأجل ذلك، فإن المبادئ ذات القيمة الدستورية تأتي في مرتبة متساوية مع الدستور، وبالتالي وجب الخضوع لهذه المبادئ( المساواة، الحرية...) واحترامها، فمخالفتها من منظور القضاء الدستوري يعد في الأصل مخالفة دستورية...
المطلب الثاني: القوانين والنظام الداخلي
سنحاول في هذا المطلب تحديد موقع كل من القوانين التنظيمية والقوانين العادية
والنظام الداخلي لمجلسي البرلمان ضمن هرمية التشريع، من خلال مقارنة القوانين التنظيمية بالنظام الداخلي(الفرع الأول)، وأيضا تحديد موقع كل من القوانين العادية والنظام الداخلي ضمن تدرج القواعد القانونية(الفرع الثاني)، وذلك بالاستناد إلى مقتضيات دستورية آراء فقهية ...
الفرع الأول: القانون التنظيمي والنظام الداخلي:
قد يبدو للوهلة الأولى، أو من الحكم المسبق المتسرع أن كل من النظام الداخلي والقوانين التنظيمية يأتيان في مرتبة متساوية بعد الدستور. لذلك، سنحاول اختبار صحة هذا الرأي و معرفة موقع كل منها ضمن تدرج القواعد القانونية...
- القوانين التنظيمية:
تعرف القوانين التنظيمية بكونها تلك:" القوانين الصادرة عن المشرع العادي، والمرتبطة بموضوع من الموضوعات المتصلة بالنظام الأساسي للدولة، سواء من حيث شكلها أو نظام الحكم فيها وبتنظيم سلطاتها العليا في الدولة وتحديد اختصاصاتها وكيفية ممارستها لوظيفتها. ومن هنا فإن الصيغة الغالبة لهذه النوعية من القوانين هي أنها قوانين مكملة لأحكام الدستور
تتميز القوانين التنظيمية عن غيرها من القوانين بمجموعة من الخصائص أهمها:
- محددة على سبيل الحصر في الدستور.
- لا يمكن للبرلمان أن يتداول فيها أو يصوت عليها إلا بعد مرور عشرة أيام من تاريخ إيداع اقتراح القانون التنظيمي( الفصل 58 من دستور 1996 ، الفصل 85 من دستور 2011 )...
- تحال بصفة إلزامية على أنظار المجلس الدستوري ليبث في مطابقتها للدستور، تطبيقا لأحكام الفصل 58 والفقرة الثانية من ف 81. (الفصلين 85 و 132من دستور 2011 )
- النظام الداخلي للبرلمان:
يعد بمثابة نظام خاص بمجلسي البرلمان، إذ يعمل هذا" القانون الداخلي" على تنظيم السير الداخلي للبرلمان، وهو بذلك يعد مصدرا من مصادر القانون البرلماني. بل يشكل في نظر بعض الفقه الفرنسي "مصدرا متميزا للقانون البرلماني طالما أن موضوعها محدد في تنظيم السير الداخلي للمجالس، والإجراءات المتبعة في مداولاتها وانضباط أعضائها. ومهمتها حسب تعبير المجلس الدستوري المغربي" تنحصر أساسا في السير الداخلي لمؤسسة البرلمانية وطرق التداول داخلها(القرار 405/2000).
تتميز الأنظمة الداخلية لمجلس البرلمان بمجموعة من الخصائص أهمها:
- تحال بصفة إلزامية على أنظار المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور (ف 44 و81 من دستور 1996 ، الفصلين 69 و 132 من دستور 2011 ).
- وضع النظام الداخلي هو عمل خاص بكل مجلس وأن إقراره يتم بالتصويت عليه من طرف المجلس الذي وضعه فقط (الفصل 44، الفصل 69 من دستور 2011).
- النظام الداخلي لا يحتاج إلى إصدار الأمر بتنفيذه، وإنما يشرع في تطبيقه مباشرة بعد بت المجلس الدستوري فيه...
لأجل ذلك، فقد يبدو أن النظام الداخلي يأتي في مرتبة متساوية مع القوانين التنظيمية، أخذا بعين الاعتبار مبدأ الإلزام الذي يجد سنده في الإحالة الإلزامية على أنظار المجلس الدستوري، والذي لا تقبل قراراته أي شكل من أشكال الطعن، وتلزم كافة السلطات العمومية (فق الأخيرة من ف 81 من دستور 1996 ، 134 دستور 2011)، مما سيجعله يستمد قوته الإلزامية من قرارات المجلس الدستوري.
إلا أن اجتهادات القضاء الدستوري المغربي أثبتت أن النظام الداخلي يأتي في مرتبة أدنى من القوانين التنظيمية، ففي كل من القرار 98-212 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب والقرار 98-213 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس المستشارين أكد المجلس الدستوري على أن "تطابق النظام الداخلي... مع أحكام الدستور، يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور".
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأساس القانوني الذي يتخذه المجلس الدستوري في قراراته (البناءات)، يسرد بشكل ترتيبي، ودائما يتم وضع القوانين التنظيمية في المرتبة التي تلي الدستور.
هذا من جهة اجتهادات القضاء الدستوري المغربي، أما من حيث المسطرة التشريعية، (كما سلف الذكر) فإن القوانين التنظيمية تتفرد بمسطرة تشريعية خاصة، تجعلها متميزة عن النظام الداخلي وتموقعها في مرتبة أعلى منه...
الفرع الثاني: القوانين العادية والنظام الداخلي
القوانين العادية: يتحدد مجال القانون في الدستور المغربي على سبيل الحصر من خلال الفصل 46 دستور 1996، (تم توسيع مجاله في الفصل 71 من دستور 2011 ) ومحتويات بعض الفصول الأخرى من الدستور، يتم التصويت على القوانين العادية وفق الإجراءات التشريعية العادية، ما يميز هذه القوانين أنها لا تخضع بصفة إلزامية للرقابة على دستورية القوانين، فالفقرة الثالثة من الفصل 81 (ما يقابلها الفصل 132 من التعديل الدستوري ل2011) ، أعطت الاختيار لأصحاب الصفة في إحالة القوانين على أنظار المجلس الدستوري، وبذلك فإن إحالة القوانين هي إحالة اختيارية وقبلية (قبل إصدار الأمر بتنفيذ القانون
إذا كانت القوانين التنظيمية-كما سلف الذكر- تأتي في مرتبة أعلى من النظام الداخلي، فإن الإشكال الذي يثار بخصوص القانون العادي والنظام الداخلي يتمحور حول من يحتل الأولوية ضمن هرمية تدرج القوانين.
إن المسطرة التشريعية لكل من القوانين العادية والنظام الداخلي، ربما قد تجعل من البداية القول بأن النظام الداخلي يأتي في مرتبة أعلى من القوانين العادية، على اعتبار أن النظام الداخلي-كما سبق- يحال بصفة إلزامية إلى المجلس الدستوري، في حين أن القانون العادي قد يحال على أنظار المجلس الدستوري وقد لا يحال بسبب الإحالة الاختيارية.
وقد يزيد من هذا الغموض أيضا أن ديباجة قرارات المجلس الدستوري تضع النظام الداخلي لمجلس النواب ضمن هرمية القواعد القانونية -في مرتبة أدنى من الدستور والقوانين التنظيمية-، وبالتالي تراقب مدى مطابقتها لهما، ولكن هذه الديباجة لا توضح مكانة النظام الداخلي للبرلمان بالنسبة للقوانين العادية، وهذا بخلاف الاجتهاد القضائي للمجلس الدستوري الذي يدخل ضمن نطاق قواعد القانون العادي كذلك .
لكن بالرجوع إلى بعض المقتضيات الدستورية الواردة في الدستور المراجع لسنة 1996، قد توضح الصورة وتزيل بعض اللبس حول تدرج القانون العادي والنظام الداخلي ضمن هرمية التشريع.
فالفصل الرابع من الدستور يؤكد على أن القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له.
-جميع المغاربة سواء أمام القانون (ف 5 ، يقابله الفصل 6 من د 2011
-لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون (ف 9 دستور 1996 ، انظر الباب الثاني من دستور 2011).
-يصدر القانون عن البرلمان بالتصويت (ف 45 من دستور 1996، ف 70 من د 2011) في حين يضع كل من مجلسي البرلمان نظامه الداخلي ويقره لوحده بالتصويت (ف 44 من دستور 1996، ف 69 من د 2011
-يصدر الملك الأمر بتنفيذ القانون..." (ف 26 من دستور 1996، ف 50 من د 2011). أما النظام الداخلي لمجلس البرلمان، فيتم الشروع في تطبيقه مباشرة بعد بت المجلس الدستوري (ف81 من دستور 1996، ف 132 من د 2011) ولا يحتاج إلى إصدار الأمر بتنفيذه
إذا كانت المقتضيات الدستورية في هذا المجال تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القانون هو في مرتبة أسمى من النظام الداخلي، فإن اجتهادات المجلس الدستوري أكدت بدورها على هذا العلو، ففي القرار 2004-586 جاء في حيثيات المجلس الدستوري: "... الأمر الذي يستنتج منه أن القانون المعروض على نظر المجلس الدستوري سيؤدي إلى تعويض الآجال المحددة في النظامين الداخليين لكل من مجلسي البرلمان بالآجال الواردة في القانون العادي..."
يستشف من هذا القرار أن القوانين العادية توجد في مرتبة أعلى من النظام الداخلي، فالقاضي الدستوري أعطى للأولوية للأخذ بما ورد في القانون العادي بدل ما جاءت به الأنظمة الداخلية...
المبحث الثاني: احترام تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" من خلال اجتهادات القضاء الدستوري المغربي.
بعد التطرق إلى مبدأ تدرج القواعد القانونية في المبحث الأول، والذي تبين من خلاله أن الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية تتربع على قمة الهرم، ثم تأتي بعدها القوانين التنظيمية، وتليها القوانين العادية، أما النظام الداخلي لمجلس البرلمان فيأتي في قاع الهرم.
و إذا كان المجال الدستوري كما عرفه Dominique ROUSSEAu
يقصد به "مجموع القواعد القانونية التي تدخل في هرمية التشريع، بحيث يسموها الدستور، والتي تشكل مخالفتها مخالفة للدستور" ، فإن معرفة المجال الدستوري الخاص بكل قاعدة قانونية يستشف من خلال حصر تدرج القواعد القانونية وتحديد مكونات هذا المجال الدستوري (كما تم التوضيح في المبحث الأول
لأجل ذلك سنقوم بتوضيح التسلسل الهرمي للقواعد القانونية (انظر الرسم البياني)، وانطلاقا من هذا الرسم سيتم تحديد المجال الدستوري الخاص بكل قاعدة قانونية.
رسم يوضح تدرج القواعد القانونية داخل التنظيم القانوني للدولة
-المجال الدستوري للنظام الداخلي:
يتجسد المجال الدستوري له في كل من القوانين العادية، القوانين التنظيمية، الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية، فإذا خالف النظام هذه القواعد القانونية فإن ذلك يعتبر مخالفة دستورية لأنه بذلك يخالف قواعد قانونية عليا...
-المجال الدستوري للقوانين العادية:
يتمثل في القوانين التنظيمية، الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية، فمخالفة القوانين العادية للقوانين التنظيمية والدستور، يعد عملا مخالفا للشرعية الدستورية
.
-المجال الدستوري للقوانين التنظيمية:
يدخل في مجالها الدستوري كل من الدستور والمبادئ ذات القيمة، فمخالفة القوانين التنظيمية للدستور يعد عملا غير شرعي.
بعد تحديد المجال الدستوري لكل قاعدة قانونية التي تدخل ضمن هرمية التشريع، سنحاول معرفة إمكانية تدخل قاعدة قانونية عليا التدخل بالتشريع في مجال قاعدة قانونية دنيا (المطلب الأول)، وعدم إمكانية قاعدة قانونية دنيا التوغل بالتشريع في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا (المطلب الثاني) انطلاقا من اجتهادات القضاء الدستوري المغربي
.
المطلب الأول: إمكانية تدخل قاعدة قانونية عليا في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا
إن تكريس مبدأ تدرج القواعد القانونية داخل التنظيم القانوني للدولة، ما هو إلا تجسيد حقيقي لمبدأ المشروعية واحتراما لسيادة القانون بين مختلف السلطات العامة، وكل إخلال بهذا المبدأ ما هو في حقيقة الأمر إلا تجاوز للقانون، وانطلاقا من كل ذلك فإن مخالفة قاعدة قانونية دنيا لقاعدة قانونية عليا يعد من منظور القضاء الدستوري مخالفة دستورية، في حين إن تدخل قاعدة قانونية عليا في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا لا يعتبر مخالفة دستورية، وهذا ما سنحاول التطرق إليه بالاستناد إلى قرارات المجلس الدستوري الواردة في هذا الصدد.
الفرع الأول: تدخل القوانين التنظيمية في مجال خاص بالقوانين العادية
إذا كانت القوانين التنظيمية تدخل ضمن المجال الدستوري للقوانين العادية، فإن هذه الأخيرة ملزمة بعدم مخالفة القوانين التنظيمية لأنها توجد في مرتبة أعلى منها، ويمكن لهذه القاعدة العليا أن تتدخل بالتشريع في مجال القوانين العادية ولا يعد ذلك مخالفة دستورية وسندنا في القرارات الآتية: 2007-659، 2007-660 و 2007-661.
ففي القرار 2007-659 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 49.06 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 29.93 المتعلق بالمجلس الدستوري على م د
.
والقرار 2007-660 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 06.50 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97.31 المتعلق بمجلس النواب
.
والقرار 2007-661 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 06.51 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97.32 المتعلق بمجلس المستشارين على أنظار م د
.
هذه القرارات الثلاث جاءت بعد إضافة مواد جديدة إلى هذه القوانين التنظيمية تخص التصريح الإجباري بالممتلكات لكل من أعضاء المجلس الدستوري وأعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين
.
وحيث إن الدستور المراجع سنة 1996 في المقتضيات الدستورية التالية
:
الفصل 37 (فق 2): ويبين قانون تنظيمي عدد أعضاء مجلس النواب ونظام انتخابهم وشروط القابلية للانتخاب وأحوال التنافي ونظام المنازعات الانتخابية" وبذلك فإن هذا الفصل لم يورد عبارة "التصريح الإجباري بالممتلكات" ضمن المجالات التي يحددها هذا القانون التنظيمي
...
ونفس الشيء عن الفصل 38 المتعلق بمجلس المستشارين
...
وما قيل عن الفصل 37و 38، يقال أيضا عن الفصل 80، الذي لم يحدد "التصريح الإجباري بالممتلكات" ضمن اختصاص القانون التنظيمي 29.93 المتعلق بالمجلس الدستوري
.
وانطلاقا من كل ذلك قد يفهم أن إدراج مواد جديدة "التصريح الإجباري بالممتلكات) ضمن قانون تنظيمي لم يتم تحديدها في الدستور بأنها مخالفة دستورية...
لكن اجتهادات القضاء الدستوري المغربي سارت في منحى مغاير... فطالما تدخلت قاعدة قانونية عليا (القوانين التنظيمية) في مجال خاص بالقوانين الدنيا (القوانين العادية)، فإن ذلك عمل دستوري وليس فيه ما يخالف الدستور
.
وقد قضى المجلس الدستوري في هذه القرارات، بأن هذه القوانين "ليس فيها ما يخالف الدستور"، ما دام أن القوانين التنظيمية توغلت بالتشريع في مجال القوانين العادية...
الفرع الثاني: تدخل القوانين التنظيمية في مجال النظام الداخلي ومخالفة هذا الأخيرة للقوانين التنظيمية
كما سبقت الإشارة، فإن القوانين التنظيمية تأتي في مرتبة أعلى من النظام الدخلي للاعتبارات المذكورة آنفا. بتعبير آخر، فإن القوانين التنظيمية تدخل في المجال الدستوري للنظام الداخلي، وبذلك أمكن لهذه القوانين أن تتدخل بالتشريع في مجال محفوظ لهذه القاعدة الدنيا دون أن يعد ذلك مخالفة دستورية... وبالمقابل من ذلك، فإن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية...
ففي القرار 95-52 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب على أنظار المجلس ليبت في مطابقته للدستور أكد المجلس الدستوري بشكل صريح أن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية لأنه بذلك يخالف الدستور ..."حيث ان تطابق النظام الداخلي لمجلس النواب مع أحكام الدستور يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور.
ومما جاء في هذا القرار: "وعن المادة 74: حيث إن ما تضمنته هذه المادة من طلب اللجنة المالية تمكينها من الاطلاع على المستندات مخالف لأحكام القانون التنظيمي..." وبالتالي فقد قضى في منطوق القرار، بأن المادة 74 غير مطابقة للدستور.
وقد أكد المجلس الدستوري في القرار 98-212 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب على أنظار هذا المجلس على نفس حيثية المبدأ.
ونفس الأمر بالنسبة للقرار 98-213 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس المستشارين للبت فيه من قبل م د ، حيث جاء في القرار على أن "تطابق النظام الداخلي لمجلس المستشارين مع احكام الدستور يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور".
وقد أشار إلى نفس الحيثية في القرار 04/561.
إن استخدام المجلس الدستوري لحيثية مبدأ في العديد من القرارات المتعلقة بالنظر في النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، والتأكيد على ضرورة مطابقته للقوانين التنظيمية، يؤكد بجلاء أن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية
.
وبالمجمل، فإن تدخل قاعدة قانونية عليا بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا يعد عملا دستوريا أما مخالفة قاعدة قانونية دنيا لقاعدة قانونية عليا فهو عمل مخالف للدستور، و تجد هذه القاعدة مرجعها في العديد من الاعتبارات منها ما هو مرتبط بالمسطرة التشريعية لإقرار هذه القوانين العليا (مسطرة معقدة نوعا ما) وما هو خاص بمضمون هذه القواعد القانونية(تنظيم السلطات العامة داخل الدولة)، والتي تعطي ضمانات أكيدة غير متوفرة في القاعدة القانونية الأدنى، ولأنها أيضا "أكثر استقرارا وأكثر احتراما " بتعبير Michel Debré .
المطلب الثاني: عدم إمكانية توغل قاعدة قانونية دنيا في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا - مخالفة دستورية
إذا كانت اجتهادات كل من المجلس الدستوري المغربي و المجلس الدستوري الفرنسي تعتبر أن تدخل قاعدة قانونية عليا بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا لا يشكل مخالفة دستورية، فإن الأمر يختلف إذا توغلت قاعدة قانونية دنيا بالتشريع في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا، فحسب اجتهادات القضاء الدستوري المغربي، فإن ذلك يعد عملا يفتقد للشرعية الدستورية...
الفرع الأول: توغل النظام الداخلي في مجال محفوظ للقانون
في القرار 95-52 قضى المجلس الدستوري أن توغل النظام الداخلي لمجلس النواب في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا هي القوانين العادية يعتبر أمرا مخالفا للدستور... وقد جاء في هذا القرار: "وعن المادة 151: حيث إن ما تضمنته هذه المادة من اتصال رئيس مجلس النواب بالوكيل العام لدى المجلس الأعلى في حالة ارتكاب أحد النواب تهجمات خطيرة أو مخالفة لضوابط الاقتراع خلال جلسة برلمانية يقتضي أن الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى له صلاحيات النظر في شؤون لم يسندها إليه القانون، ويكون ذلك غير مطابق للدستور الذي يصنف الفصل 45 منه قواعد الإجراءات الجنائية، ومن بينها اختصاصات النيابة العامة ضمن المواد التي يختص بها ميدان التشريع".
وقد ذهبت اجتهادات المجلس الدستوري المغربي في نفس السياق في القرار 2004/586 المتعلق بإحالة القانون رقم 01-17 المتعلق بالحصانة البرلمانية، حيث جاء في القرار: "ومن جهة ثانية لئن تعرضت إلى تحديد الآجال التي يتعين مراعاتها في المداولة والبت في شأن طلب الإذن، فذلك لأن تحديد الآجال... ليس من الأمور التي يمكن اعتبارها من السير الداخلي المحض لمجلسي البرلمان والتي تختص بها أنظمتها الداخلية، وإذ سبق للمجلس الدستوري في قرارات سابقة أن قضى بعدم دستورية أنظمة داخلية تضمنت تحديد الآجال، فذلك لعدم وجود قانون يتعرض لهذا الموضوع في ذلك الوقت، الأمر الذي يستنتج منه أن نشر القانون المعروض على نظر المجلس الدستوري سيؤدي إلى تعويض الآجال المحددة في النظامين الداخليين لكل من مجلسي البرلمان بالآجال الواردة في هذا القانون
يستشف من هذا القرار أن النظام الداخلي كان يحدد آجالا معينة يجب مراعاتها أثناء تحريك مسطرة متابعة برلماني ما (على الرغم من أنه اعتبر ذلك عملا مخالفا للدستور في قرارات سابقة)، وذلك لعدم وجود قانون يحدد الأجل، لكن مع مجيء القانون 01-17 المتعلق بالحصانة البرلمانية، أتى بآجال جديدة، وبالتالي فإن الأولوية لما جاء في القانون الجديد وليس للنظام الداخلي...
الفرع الثاني: توغل قانون عادي في مجال خاص بالقوانين التنظيمية
إذا كان بإمكان القوانين التنظيمية أن تتوغل بالتشريع في مجال القوانين العادية، ولا يعد ذلك مخالفة دستورية، فإن تدخل القوانين العادية بالتشريع في مجال محفوظ للقوانين التنظيمية، يعد من منظور اجتهادات القضاء الدستوري عملا مخالفا للدستور
ففي القرار 2000-382 المتعلق بإحالة القانون رقم 15-97 بمثابة تحصيل الديون العمومية على أنظار المجلس الدستوري، وذلك من أجل فحص المادة 142 .
أكد المجلس الدستوري في حيثيات القرار وقال: "حيث إن أحكام المادة 142 السالفة تكون بورودها في قانون عادي مخالفة للدستور" وقد جاء في منطوق هذا القرار بأن "أحكام المادة 142 من القانون رقم 97-15 بمثابة مدونة تحصيل الدون العمومية غير مطابقة للدستور
إن اعتبار المجلس الدستوري أن المادة 142 غير مطابقة للدستور، يجد سنده في أن حالات التنافي جعلها الدستور من اختصاص القوانين التنظيمية في الفصلين 37 و 38 وليس من اختصاص القوانين العادية
.
وحيث إن القانون 97-15 أورد في المادة 142 اختصاصات تدخل في مجال القوانين التنظيمية، و بذلك فإنه يكون قد توغل في مجال خاص بقاعدة قانونية عليا الأمر الذي يعد مخالفة للدستور...
ختم
و في الأخير يمكننا القول، أن تدرج مكونات الكتلة الدستورية في المنظومة القانونية بالمغرب، يسير وفق التسلسل الآتي : الدستور و المبادئ ذات القيمة الدستورية في مرتبة أولى (يوجد إقرار دستوري على سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية في الدستور الجديد، لكن ليس هناك أي اجتهادات دستورية في هذا الاطار) ، ثم تليه القوانين التنظيمية ، و بعد تأتي القوانين العادية، أما في الأخير فنجد النظام الداخلي لكل من مجلس البرلمان... و بذلك، فإن احترام الشرعية القانونية و الدستورية داخل الدولة يستلزم احترام مبدأ تدرج القوانين داخل التنظيم، و بالتالي، فإن مخالفة القاعدة القانونية الدنيا للقانونية للقاعدة القانونية العليا يعد مخالفة دستورية، و في هذا الاتجاه سارت اجتهادات القضاء الدستوري ، ففي العديد من القرارات أكد المجلس الدستوري بشكل لا يدع مجالا للشك على المبدأ. و بالمقابل من ذلك، فإنه يمكن لقاعدة قانونية أعلى أن تتدخل بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية أدنى و لا يعد ذلك في اجتهادات القضاء الدستوري بالمخالفة الدستورية، لكن توغل القاعدة الأدنى بالتشريع في مجال محفوظ للقاعدة الأعلى يعد مخالفة دستورية و ذلك راجع بشكل أساس للاعتبارات السالفة الذكر...
و مع دخول التعديل الدستوري لسنة 2011 حيز التنفيذ، فإن العديد من المستجدات على مستوى تدرج القواعد القانونية ستطرح مع التنصيص دستوريا على إلزامية تراتبية القوانين (الفصل 6)، و جعل ديباجة الدستور جزءا لا يتجزأ من الدستور و ما سيطرح ذلك من آراء فقهية و ربما اجتهادات قضائية حول تحديد موقع الديباجة ضمن تدرج القوانين على غرار باقي الآراء الفقهية السائدة في الفقه المقارن و الاجتهادات القضائية الدستورية التي تناولت المسألة (قرار 16 يناير 1982 الذي أصدره المجلس الدستوري الفرنسي و حدد بموجبه موقع ديباجة دستو 1946)، و أيضا الإقرار الدستوري بسمو المعاهدات الدولية و منح المحكمة الدستورية المنتظرة صلاحية النظر دستورية في المعاهدات الدولية (الفقرة الأخيرة من الفصل 55)، و ما سينتج عن ذلك من اجتهادات قضائية... و بذلك، فإلى أي حد ستستطيع المحكمة الدستورية المنتظرة إنتاج قرارات دستورية متميزة في هذا الإطار، تعطي للقضاء الدستوري المغربي إشعاعا على المستوى الإفريقي و العربي؟
وتماشيا مع مبدأي تدرج القواعد القانونية وسمو الدستور، ظهرت آراء فقهية واجتهادات قضائية ارتبطت فيما أطلق عليه باسم "المجال الدستوري" أو"الكتلة الدستورية" Bloc de Constitutionnalité من طرف بعض الفقهاء الدستوريين، و قد عرف الفقيه الفرنسي Louis FAVOREU المجال الدستوري بكونه"مجموع القواعد القوانين التي تشير إليها العدالة الدستورية لممارسة رقابتها على الدستورية"
وبالمجمل فإن "المجال الدستوري" يأخذ معنيين، معنى واسع يدل على مجموع القواعد القانونية، ذات القيمة العليا والتي يعمل المجلس الدستوري على ضمان احترامها. أما المعنى الضيق stricto sensus فهو مجموع المبادئ والقواعد ذات القيمة الدستورية، التي يجب أن تحترمها السلطة التشريعية .
ارتبط ظهور ما أطلق على تسميته ب"الكتلة الدستورية" باجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي، ففي خضم النقاش الفقهي الحاد الذي عرفته فرنسا حول تدرج بعض القواعد الدستورية، أتى قرار المجلس الدستوري ل 16 يوليوز 1971، والذي ظهرت من خلاله فكرة المجال الدستوري، للتدليل على مجموعة من النصوص المتباينة التي يشير إليها المجلس الدستوري لتبرير قراراته، أثناء خضوع النصوص القانونية لمراقبته(المعاهدات، القوانين التنظيمية، النظام الداخلي للجمعية الوطنية والقوانين العادية). ويضم هذا المجال-حسب اجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي- ثلاثة أنواع من النصوص: الفصول المرقمة في دستور 4 أكتوبر 1958، ديباجة دستور 1946، وأصناف أخرى أنتجت من قبل المجلس الدستوري
شكل الخلاف الفقهي الحاد حول مكونات المجال الدستوري العلوية، ومدى تدرج هذه المكونات سمة أساسية في هذا الإطار، فإذا كانت فرنسا-مهد الاجتهادات في هذا الصدد- قد عرفت مثل هذه النقاش، توج بوضع كل من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ديباجة دستور 1946 ودستور 1958 في مرتبة متساوية في البناء الفوقي للنصوص القانونية(القرار 16 يناير 1982) فإن الجدل والاجتهادات مازالت قائمة حول "الكتلة الدستورية" في المغرب...
إن الحديث عن المجال الدستوري داخل التنظيم القانوني المغربي، يقتضي منا ذكر مكونات هذا المجال و مدى تدرجها (الدستور، المبادئ، ذات القيمة الدستورية، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، والأنظمة الداخلية للبرلمان) (المبحث الأول) . ثم الحديث عن معيارية احترام هذا التدرج من خلال اجتهادات المجلس الدستوري المغربي، أو بتعبير آخر، مدى احترام الشرعية القانونية والدستورية لهذا التدرج (المبحث الثاني). وبالتالي، ما هي مكونات "الكتلة الدستورية" بالمغرب؟ و ما هو طبيعة التدرج الذي تتخذه؟ و هل استطاع القضاء الدستوري المغربي أن يضمن احترام تدرج القواعد القانونية من خلال اجتهاداته، ؟
وسيتم مقاربة هذه الأسئلة من خلال مبحثين:
المبحث الأول: تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" داخل المنظومة القانونية المغربية
المبحث الثاني: احترام تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" من خلال اجتهادات القضاء الدستوري المغربي
المبحث الأول: تدرج مكونات المجال الدستوري داخل المنظومة القانونية المغربية
يتخذ تدرج القواعد القانونية شكلين أساسيين، فهو إما تدرج شكلي أو تدرج يقوم على القوة الإلزامية للقاعدة القانونية.لأجل ذلك، سنقوم بإيراد لمحة عامة حول هذين الشكلين
- التدرج الشكلي للقواعد القانونية: يرتكز التدرج الشكلي للقواعد القانونية على مرتبة السلطة التي أصدرت القواعد القانونية و الإجراءات المتبعة في ذلك، فإذا صدرت القاعدتان عن نفس السلطة كانت الإجراءات المتبعة في إصدارها هي المرجح بينهما، فتعتبر القاعدة التي تصدر وفقا لإجراءات أشد، أعلى مرتبة من تلك التي لا تتطلب لإصدارها سوى إجراءات عادية، أو لا تتطلب بشأنها أية إجراءات.
- تدرج المرتبة الإلزامية للقواعد القانونية: يرتبط هذا التدرج أساسا بالقوة القانونية للقاعدة أو قوتها الإلزامية أو مرتبتها الإلزامية.
لذلك، فما سنروم تحقيقه في هذا المبحث، هو محاولة مناقشة تدرج القواعد القانونية، انطلاقا من الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية (المطلب الأول)، وكل من النصوص التشريعية والنظام الداخلي (المطلب الثاني
المطلب الأول: الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية
إذا كانت الاجتهادات القضائية الفرنسية قد أقحمت مجموعة من النصوص القانونية منها ما هو مرتبط بالمعاهدات الدولية وما هو خاص بكل من إعلان حقوق الإنسان والمواطن وديباجة دستور 1946 ضمن مكونات مجالها الدستوري العلوي، فإن الأمر في المغرب مازال مختلفا نوعا أو ما زال يشوبه بعض الغموض، فاجتهادات المجلس الدستوري المغربي لم توضح الأمر بعد(موقع المعاهدات الدولية و ديباجة الدستور ، و التي تم إبراز مكانتها بموجب التعديل الدستوري لسنة 2011)، فمكونات المجال الدستوري العلوية في المغرب تنحصر في كل من الدستور باعتباره أسمى القواعد القانونية(الفرع الأول)، والمبادئ ذات القيمة الدستورية التي توجد في قيمة متساوية مع الدستور(الفرع الثاني
الفرع الأول: مبدأ سمو الدستور
يعد الدستور بمثابة مجموعة من القواعد التي تتناول تنظيم الحكم، إذ تشكل هذه القواعد النواة الصلبة للدستور... إنه تعبير عن الإيديولوجية السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي تعطي لتنظيم الحكم في الدولة بعده ومدلوله الحقيقيين
و بذلك، فإن سمو الدستور داخل التنظيم القانوني يجد اعتباره في مجموعة من العوامل منها ما هو مرتبط بالشكل(بطريقة وضع وتعديل الدستور...) ومنها ما هو موضوعي يخص المواضيع العامة والحيوية التي يقرها الدستور
بالنسبة للاعتبارات الشكلية لسمو الدستور، فتتجسد في المكانة المهمة التي يكتسيها الدستور بالمقارنة مع باقي القواعد الأخرى سواء بالنسبة لطريقة وضعه لأول مرة أو ما يخص تعديله...
- وضع الدستور من قبل سلطة تأسيسية أصلية غير مشروطة
إن السلطة التأسيسية الأصلية التي تباشرعملها بوضع الدستور، هي سلطة لا تتقيد بأية اعتبارات قانونية، فهي إذن"لا تندرج ضمن السلطات العامة التي تخضع للقانون، ومن ثم لا تخضع لرقابة القضاء، بينما تخضع السلطات الأخرى لهذه الرقابة لوجود القواعد الدستورية التي يتعين عليها التزامها عند مباشرة اختصاصاتها .
- جمود الدستور: يجد هذا الاعتبار مسكنه في كون أن الدستور يخضع لمسطرة خاصة عند تعديله ينص عليها الدستور نفسه، فإذا كانت القوانين تعدل وفق مسطرة تتسع بالسهولة والمرونة، فإن الدستور يخضع لمسطرة فريدة تتميز بالجمود والصلابة
أما من حيث المواضيع والمحاور المهمة التي يحددها الدستور في مضامينه، فهي تتمحور في:
- تحديد طبيعة السلطة والحكم في الدولة و العلاقات بين هذه السلط ...
- الدستور هو الضامن لحقوق وحريات الأفراد، و المحدد الرئيسي لهذه الحقوق والواجبات..
لهذه الاعتبارات وغيرها، يتبوأ الدستور مكانة متميزة في قمة التنظيم القانوني للدولة، إذ لا يمكن أن تتحقق العدالة وتتجسد دولة القانون بدون هذا السمو، لهذا فقد اعتبر كيلسن
KELSEN
أن 'الدستور هو أساس
"fondement"
الدولة، وقاعدة
"la base"
النظام القانوني'
. وبالتالي، فإن الرقابة على الدستورية وخضوع القواعد القانونية الأخرى للدستور، ما هو إلا تجسيد لهذا السمو.
الفرع الثاني: المبادئ ذات القيمة الدستورية
نشأت المبادئ ذات القيمة الدستورية من خلال اجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي. "فبجانب المبادئ الموجودة في المصادر المكتوبة في دستور 1958، إعلان 1789 وديباجة دستور 1946، استعمل المجلس الدستوري أيضا صكوكا و قواعدا لمراقبة دستورية القوانين، تجسدت فيما سمي بـ"المبادئ ذات القيمة الدستورية" .
إن المبادئ ذات القيمة الدستورية هي مبادئ غير شرعية، يستنبطها القضاء الدستوري من روح الدستور و أهدافه العامة، ويعتبرها في قراراته بأنها مبادئ دستورية، توازي الدستور وبالتالي فإن مخالفتها تعد مخالفة دستورية .
ففي قرار المجلس الدستوري الفرنسي ل 27 ديسمبر 1973، اعتبر هذا المجلس لأول مرة المساواة كمبدأ أو كقاعدة ذات قيمة دستورية.
ولم تختلف اجتهادات المجلس الدستوري المغربي عن غيره الفرنسي، فقد اعتبر هذا المجلس في العديد قراراته مبدأ المساواة قاعدة ذات قيمة دستورية...
ففي القرار 95-52 (11) أشار المجلس الدستوري:
" وعن المادة 125 (الفقرة الأولى )... ويخل لذلك بمبدأ المساواة الذي يقره الدستور بين النواب، سواء كانوا منتميين إلى فرق نيابية أو غير منتميين إليها"
لأجل ذلك، فإن المبادئ ذات القيمة الدستورية تأتي في مرتبة متساوية مع الدستور، وبالتالي وجب الخضوع لهذه المبادئ( المساواة، الحرية...) واحترامها، فمخالفتها من منظور القضاء الدستوري يعد في الأصل مخالفة دستورية...
المطلب الثاني: القوانين والنظام الداخلي
سنحاول في هذا المطلب تحديد موقع كل من القوانين التنظيمية والقوانين العادية
والنظام الداخلي لمجلسي البرلمان ضمن هرمية التشريع، من خلال مقارنة القوانين التنظيمية بالنظام الداخلي(الفرع الأول)، وأيضا تحديد موقع كل من القوانين العادية والنظام الداخلي ضمن تدرج القواعد القانونية(الفرع الثاني)، وذلك بالاستناد إلى مقتضيات دستورية آراء فقهية ...
الفرع الأول: القانون التنظيمي والنظام الداخلي:
قد يبدو للوهلة الأولى، أو من الحكم المسبق المتسرع أن كل من النظام الداخلي والقوانين التنظيمية يأتيان في مرتبة متساوية بعد الدستور. لذلك، سنحاول اختبار صحة هذا الرأي و معرفة موقع كل منها ضمن تدرج القواعد القانونية...
- القوانين التنظيمية:
تعرف القوانين التنظيمية بكونها تلك:" القوانين الصادرة عن المشرع العادي، والمرتبطة بموضوع من الموضوعات المتصلة بالنظام الأساسي للدولة، سواء من حيث شكلها أو نظام الحكم فيها وبتنظيم سلطاتها العليا في الدولة وتحديد اختصاصاتها وكيفية ممارستها لوظيفتها. ومن هنا فإن الصيغة الغالبة لهذه النوعية من القوانين هي أنها قوانين مكملة لأحكام الدستور
تتميز القوانين التنظيمية عن غيرها من القوانين بمجموعة من الخصائص أهمها:
- محددة على سبيل الحصر في الدستور.
- لا يمكن للبرلمان أن يتداول فيها أو يصوت عليها إلا بعد مرور عشرة أيام من تاريخ إيداع اقتراح القانون التنظيمي( الفصل 58 من دستور 1996 ، الفصل 85 من دستور 2011 )...
- تحال بصفة إلزامية على أنظار المجلس الدستوري ليبث في مطابقتها للدستور، تطبيقا لأحكام الفصل 58 والفقرة الثانية من ف 81. (الفصلين 85 و 132من دستور 2011 )
- النظام الداخلي للبرلمان:
يعد بمثابة نظام خاص بمجلسي البرلمان، إذ يعمل هذا" القانون الداخلي" على تنظيم السير الداخلي للبرلمان، وهو بذلك يعد مصدرا من مصادر القانون البرلماني. بل يشكل في نظر بعض الفقه الفرنسي "مصدرا متميزا للقانون البرلماني طالما أن موضوعها محدد في تنظيم السير الداخلي للمجالس، والإجراءات المتبعة في مداولاتها وانضباط أعضائها. ومهمتها حسب تعبير المجلس الدستوري المغربي" تنحصر أساسا في السير الداخلي لمؤسسة البرلمانية وطرق التداول داخلها(القرار 405/2000).
تتميز الأنظمة الداخلية لمجلس البرلمان بمجموعة من الخصائص أهمها:
- تحال بصفة إلزامية على أنظار المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور (ف 44 و81 من دستور 1996 ، الفصلين 69 و 132 من دستور 2011 ).
- وضع النظام الداخلي هو عمل خاص بكل مجلس وأن إقراره يتم بالتصويت عليه من طرف المجلس الذي وضعه فقط (الفصل 44، الفصل 69 من دستور 2011).
- النظام الداخلي لا يحتاج إلى إصدار الأمر بتنفيذه، وإنما يشرع في تطبيقه مباشرة بعد بت المجلس الدستوري فيه...
لأجل ذلك، فقد يبدو أن النظام الداخلي يأتي في مرتبة متساوية مع القوانين التنظيمية، أخذا بعين الاعتبار مبدأ الإلزام الذي يجد سنده في الإحالة الإلزامية على أنظار المجلس الدستوري، والذي لا تقبل قراراته أي شكل من أشكال الطعن، وتلزم كافة السلطات العمومية (فق الأخيرة من ف 81 من دستور 1996 ، 134 دستور 2011)، مما سيجعله يستمد قوته الإلزامية من قرارات المجلس الدستوري.
إلا أن اجتهادات القضاء الدستوري المغربي أثبتت أن النظام الداخلي يأتي في مرتبة أدنى من القوانين التنظيمية، ففي كل من القرار 98-212 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب والقرار 98-213 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس المستشارين أكد المجلس الدستوري على أن "تطابق النظام الداخلي... مع أحكام الدستور، يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور".
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأساس القانوني الذي يتخذه المجلس الدستوري في قراراته (البناءات)، يسرد بشكل ترتيبي، ودائما يتم وضع القوانين التنظيمية في المرتبة التي تلي الدستور.
هذا من جهة اجتهادات القضاء الدستوري المغربي، أما من حيث المسطرة التشريعية، (كما سلف الذكر) فإن القوانين التنظيمية تتفرد بمسطرة تشريعية خاصة، تجعلها متميزة عن النظام الداخلي وتموقعها في مرتبة أعلى منه...
الفرع الثاني: القوانين العادية والنظام الداخلي
القوانين العادية: يتحدد مجال القانون في الدستور المغربي على سبيل الحصر من خلال الفصل 46 دستور 1996، (تم توسيع مجاله في الفصل 71 من دستور 2011 ) ومحتويات بعض الفصول الأخرى من الدستور، يتم التصويت على القوانين العادية وفق الإجراءات التشريعية العادية، ما يميز هذه القوانين أنها لا تخضع بصفة إلزامية للرقابة على دستورية القوانين، فالفقرة الثالثة من الفصل 81 (ما يقابلها الفصل 132 من التعديل الدستوري ل2011) ، أعطت الاختيار لأصحاب الصفة في إحالة القوانين على أنظار المجلس الدستوري، وبذلك فإن إحالة القوانين هي إحالة اختيارية وقبلية (قبل إصدار الأمر بتنفيذ القانون
إذا كانت القوانين التنظيمية-كما سلف الذكر- تأتي في مرتبة أعلى من النظام الداخلي، فإن الإشكال الذي يثار بخصوص القانون العادي والنظام الداخلي يتمحور حول من يحتل الأولوية ضمن هرمية تدرج القوانين.
إن المسطرة التشريعية لكل من القوانين العادية والنظام الداخلي، ربما قد تجعل من البداية القول بأن النظام الداخلي يأتي في مرتبة أعلى من القوانين العادية، على اعتبار أن النظام الداخلي-كما سبق- يحال بصفة إلزامية إلى المجلس الدستوري، في حين أن القانون العادي قد يحال على أنظار المجلس الدستوري وقد لا يحال بسبب الإحالة الاختيارية.
وقد يزيد من هذا الغموض أيضا أن ديباجة قرارات المجلس الدستوري تضع النظام الداخلي لمجلس النواب ضمن هرمية القواعد القانونية -في مرتبة أدنى من الدستور والقوانين التنظيمية-، وبالتالي تراقب مدى مطابقتها لهما، ولكن هذه الديباجة لا توضح مكانة النظام الداخلي للبرلمان بالنسبة للقوانين العادية، وهذا بخلاف الاجتهاد القضائي للمجلس الدستوري الذي يدخل ضمن نطاق قواعد القانون العادي كذلك .
لكن بالرجوع إلى بعض المقتضيات الدستورية الواردة في الدستور المراجع لسنة 1996، قد توضح الصورة وتزيل بعض اللبس حول تدرج القانون العادي والنظام الداخلي ضمن هرمية التشريع.
فالفصل الرابع من الدستور يؤكد على أن القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له.
-جميع المغاربة سواء أمام القانون (ف 5 ، يقابله الفصل 6 من د 2011
-لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون (ف 9 دستور 1996 ، انظر الباب الثاني من دستور 2011).
-يصدر القانون عن البرلمان بالتصويت (ف 45 من دستور 1996، ف 70 من د 2011) في حين يضع كل من مجلسي البرلمان نظامه الداخلي ويقره لوحده بالتصويت (ف 44 من دستور 1996، ف 69 من د 2011
-يصدر الملك الأمر بتنفيذ القانون..." (ف 26 من دستور 1996، ف 50 من د 2011). أما النظام الداخلي لمجلس البرلمان، فيتم الشروع في تطبيقه مباشرة بعد بت المجلس الدستوري (ف81 من دستور 1996، ف 132 من د 2011) ولا يحتاج إلى إصدار الأمر بتنفيذه
إذا كانت المقتضيات الدستورية في هذا المجال تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القانون هو في مرتبة أسمى من النظام الداخلي، فإن اجتهادات المجلس الدستوري أكدت بدورها على هذا العلو، ففي القرار 2004-586 جاء في حيثيات المجلس الدستوري: "... الأمر الذي يستنتج منه أن القانون المعروض على نظر المجلس الدستوري سيؤدي إلى تعويض الآجال المحددة في النظامين الداخليين لكل من مجلسي البرلمان بالآجال الواردة في القانون العادي..."
يستشف من هذا القرار أن القوانين العادية توجد في مرتبة أعلى من النظام الداخلي، فالقاضي الدستوري أعطى للأولوية للأخذ بما ورد في القانون العادي بدل ما جاءت به الأنظمة الداخلية...
المبحث الثاني: احترام تدرج مكونات "الكتلة الدستورية" من خلال اجتهادات القضاء الدستوري المغربي.
بعد التطرق إلى مبدأ تدرج القواعد القانونية في المبحث الأول، والذي تبين من خلاله أن الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية تتربع على قمة الهرم، ثم تأتي بعدها القوانين التنظيمية، وتليها القوانين العادية، أما النظام الداخلي لمجلس البرلمان فيأتي في قاع الهرم.
و إذا كان المجال الدستوري كما عرفه Dominique ROUSSEAu
يقصد به "مجموع القواعد القانونية التي تدخل في هرمية التشريع، بحيث يسموها الدستور، والتي تشكل مخالفتها مخالفة للدستور" ، فإن معرفة المجال الدستوري الخاص بكل قاعدة قانونية يستشف من خلال حصر تدرج القواعد القانونية وتحديد مكونات هذا المجال الدستوري (كما تم التوضيح في المبحث الأول
لأجل ذلك سنقوم بتوضيح التسلسل الهرمي للقواعد القانونية (انظر الرسم البياني)، وانطلاقا من هذا الرسم سيتم تحديد المجال الدستوري الخاص بكل قاعدة قانونية.
رسم يوضح تدرج القواعد القانونية داخل التنظيم القانوني للدولة
-المجال الدستوري للنظام الداخلي:
يتجسد المجال الدستوري له في كل من القوانين العادية، القوانين التنظيمية، الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية، فإذا خالف النظام هذه القواعد القانونية فإن ذلك يعتبر مخالفة دستورية لأنه بذلك يخالف قواعد قانونية عليا...
-المجال الدستوري للقوانين العادية:
يتمثل في القوانين التنظيمية، الدستور والمبادئ ذات القيمة الدستورية، فمخالفة القوانين العادية للقوانين التنظيمية والدستور، يعد عملا مخالفا للشرعية الدستورية
.
-المجال الدستوري للقوانين التنظيمية:
يدخل في مجالها الدستوري كل من الدستور والمبادئ ذات القيمة، فمخالفة القوانين التنظيمية للدستور يعد عملا غير شرعي.
بعد تحديد المجال الدستوري لكل قاعدة قانونية التي تدخل ضمن هرمية التشريع، سنحاول معرفة إمكانية تدخل قاعدة قانونية عليا التدخل بالتشريع في مجال قاعدة قانونية دنيا (المطلب الأول)، وعدم إمكانية قاعدة قانونية دنيا التوغل بالتشريع في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا (المطلب الثاني) انطلاقا من اجتهادات القضاء الدستوري المغربي
.
المطلب الأول: إمكانية تدخل قاعدة قانونية عليا في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا
إن تكريس مبدأ تدرج القواعد القانونية داخل التنظيم القانوني للدولة، ما هو إلا تجسيد حقيقي لمبدأ المشروعية واحتراما لسيادة القانون بين مختلف السلطات العامة، وكل إخلال بهذا المبدأ ما هو في حقيقة الأمر إلا تجاوز للقانون، وانطلاقا من كل ذلك فإن مخالفة قاعدة قانونية دنيا لقاعدة قانونية عليا يعد من منظور القضاء الدستوري مخالفة دستورية، في حين إن تدخل قاعدة قانونية عليا في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا لا يعتبر مخالفة دستورية، وهذا ما سنحاول التطرق إليه بالاستناد إلى قرارات المجلس الدستوري الواردة في هذا الصدد.
الفرع الأول: تدخل القوانين التنظيمية في مجال خاص بالقوانين العادية
إذا كانت القوانين التنظيمية تدخل ضمن المجال الدستوري للقوانين العادية، فإن هذه الأخيرة ملزمة بعدم مخالفة القوانين التنظيمية لأنها توجد في مرتبة أعلى منها، ويمكن لهذه القاعدة العليا أن تتدخل بالتشريع في مجال القوانين العادية ولا يعد ذلك مخالفة دستورية وسندنا في القرارات الآتية: 2007-659، 2007-660 و 2007-661.
ففي القرار 2007-659 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 49.06 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 29.93 المتعلق بالمجلس الدستوري على م د
.
والقرار 2007-660 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 06.50 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97.31 المتعلق بمجلس النواب
.
والقرار 2007-661 المتعلق بإحالة القانون التنظيمي رقم 06.51 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97.32 المتعلق بمجلس المستشارين على أنظار م د
.
هذه القرارات الثلاث جاءت بعد إضافة مواد جديدة إلى هذه القوانين التنظيمية تخص التصريح الإجباري بالممتلكات لكل من أعضاء المجلس الدستوري وأعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين
.
وحيث إن الدستور المراجع سنة 1996 في المقتضيات الدستورية التالية
:
الفصل 37 (فق 2): ويبين قانون تنظيمي عدد أعضاء مجلس النواب ونظام انتخابهم وشروط القابلية للانتخاب وأحوال التنافي ونظام المنازعات الانتخابية" وبذلك فإن هذا الفصل لم يورد عبارة "التصريح الإجباري بالممتلكات" ضمن المجالات التي يحددها هذا القانون التنظيمي
...
ونفس الشيء عن الفصل 38 المتعلق بمجلس المستشارين
...
وما قيل عن الفصل 37و 38، يقال أيضا عن الفصل 80، الذي لم يحدد "التصريح الإجباري بالممتلكات" ضمن اختصاص القانون التنظيمي 29.93 المتعلق بالمجلس الدستوري
.
وانطلاقا من كل ذلك قد يفهم أن إدراج مواد جديدة "التصريح الإجباري بالممتلكات) ضمن قانون تنظيمي لم يتم تحديدها في الدستور بأنها مخالفة دستورية...
لكن اجتهادات القضاء الدستوري المغربي سارت في منحى مغاير... فطالما تدخلت قاعدة قانونية عليا (القوانين التنظيمية) في مجال خاص بالقوانين الدنيا (القوانين العادية)، فإن ذلك عمل دستوري وليس فيه ما يخالف الدستور
.
وقد قضى المجلس الدستوري في هذه القرارات، بأن هذه القوانين "ليس فيها ما يخالف الدستور"، ما دام أن القوانين التنظيمية توغلت بالتشريع في مجال القوانين العادية...
الفرع الثاني: تدخل القوانين التنظيمية في مجال النظام الداخلي ومخالفة هذا الأخيرة للقوانين التنظيمية
كما سبقت الإشارة، فإن القوانين التنظيمية تأتي في مرتبة أعلى من النظام الدخلي للاعتبارات المذكورة آنفا. بتعبير آخر، فإن القوانين التنظيمية تدخل في المجال الدستوري للنظام الداخلي، وبذلك أمكن لهذه القوانين أن تتدخل بالتشريع في مجال محفوظ لهذه القاعدة الدنيا دون أن يعد ذلك مخالفة دستورية... وبالمقابل من ذلك، فإن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية...
ففي القرار 95-52 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب على أنظار المجلس ليبت في مطابقته للدستور أكد المجلس الدستوري بشكل صريح أن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية لأنه بذلك يخالف الدستور ..."حيث ان تطابق النظام الداخلي لمجلس النواب مع أحكام الدستور يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور.
ومما جاء في هذا القرار: "وعن المادة 74: حيث إن ما تضمنته هذه المادة من طلب اللجنة المالية تمكينها من الاطلاع على المستندات مخالف لأحكام القانون التنظيمي..." وبالتالي فقد قضى في منطوق القرار، بأن المادة 74 غير مطابقة للدستور.
وقد أكد المجلس الدستوري في القرار 98-212 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس النواب على أنظار هذا المجلس على نفس حيثية المبدأ.
ونفس الأمر بالنسبة للقرار 98-213 المتعلق بإحالة النظام الداخلي لمجلس المستشارين للبت فيه من قبل م د ، حيث جاء في القرار على أن "تطابق النظام الداخلي لمجلس المستشارين مع احكام الدستور يستوجب مطابقته أيضا للقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور".
وقد أشار إلى نفس الحيثية في القرار 04/561.
إن استخدام المجلس الدستوري لحيثية مبدأ في العديد من القرارات المتعلقة بالنظر في النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، والتأكيد على ضرورة مطابقته للقوانين التنظيمية، يؤكد بجلاء أن مخالفة النظام الداخلي للقوانين التنظيمية يعد مخالفة دستورية
.
وبالمجمل، فإن تدخل قاعدة قانونية عليا بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا يعد عملا دستوريا أما مخالفة قاعدة قانونية دنيا لقاعدة قانونية عليا فهو عمل مخالف للدستور، و تجد هذه القاعدة مرجعها في العديد من الاعتبارات منها ما هو مرتبط بالمسطرة التشريعية لإقرار هذه القوانين العليا (مسطرة معقدة نوعا ما) وما هو خاص بمضمون هذه القواعد القانونية(تنظيم السلطات العامة داخل الدولة)، والتي تعطي ضمانات أكيدة غير متوفرة في القاعدة القانونية الأدنى، ولأنها أيضا "أكثر استقرارا وأكثر احتراما " بتعبير Michel Debré .
المطلب الثاني: عدم إمكانية توغل قاعدة قانونية دنيا في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا - مخالفة دستورية
إذا كانت اجتهادات كل من المجلس الدستوري المغربي و المجلس الدستوري الفرنسي تعتبر أن تدخل قاعدة قانونية عليا بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية دنيا لا يشكل مخالفة دستورية، فإن الأمر يختلف إذا توغلت قاعدة قانونية دنيا بالتشريع في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا، فحسب اجتهادات القضاء الدستوري المغربي، فإن ذلك يعد عملا يفتقد للشرعية الدستورية...
الفرع الأول: توغل النظام الداخلي في مجال محفوظ للقانون
في القرار 95-52 قضى المجلس الدستوري أن توغل النظام الداخلي لمجلس النواب في مجال محفوظ لقاعدة قانونية عليا هي القوانين العادية يعتبر أمرا مخالفا للدستور... وقد جاء في هذا القرار: "وعن المادة 151: حيث إن ما تضمنته هذه المادة من اتصال رئيس مجلس النواب بالوكيل العام لدى المجلس الأعلى في حالة ارتكاب أحد النواب تهجمات خطيرة أو مخالفة لضوابط الاقتراع خلال جلسة برلمانية يقتضي أن الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى له صلاحيات النظر في شؤون لم يسندها إليه القانون، ويكون ذلك غير مطابق للدستور الذي يصنف الفصل 45 منه قواعد الإجراءات الجنائية، ومن بينها اختصاصات النيابة العامة ضمن المواد التي يختص بها ميدان التشريع".
وقد ذهبت اجتهادات المجلس الدستوري المغربي في نفس السياق في القرار 2004/586 المتعلق بإحالة القانون رقم 01-17 المتعلق بالحصانة البرلمانية، حيث جاء في القرار: "ومن جهة ثانية لئن تعرضت إلى تحديد الآجال التي يتعين مراعاتها في المداولة والبت في شأن طلب الإذن، فذلك لأن تحديد الآجال... ليس من الأمور التي يمكن اعتبارها من السير الداخلي المحض لمجلسي البرلمان والتي تختص بها أنظمتها الداخلية، وإذ سبق للمجلس الدستوري في قرارات سابقة أن قضى بعدم دستورية أنظمة داخلية تضمنت تحديد الآجال، فذلك لعدم وجود قانون يتعرض لهذا الموضوع في ذلك الوقت، الأمر الذي يستنتج منه أن نشر القانون المعروض على نظر المجلس الدستوري سيؤدي إلى تعويض الآجال المحددة في النظامين الداخليين لكل من مجلسي البرلمان بالآجال الواردة في هذا القانون
يستشف من هذا القرار أن النظام الداخلي كان يحدد آجالا معينة يجب مراعاتها أثناء تحريك مسطرة متابعة برلماني ما (على الرغم من أنه اعتبر ذلك عملا مخالفا للدستور في قرارات سابقة)، وذلك لعدم وجود قانون يحدد الأجل، لكن مع مجيء القانون 01-17 المتعلق بالحصانة البرلمانية، أتى بآجال جديدة، وبالتالي فإن الأولوية لما جاء في القانون الجديد وليس للنظام الداخلي...
الفرع الثاني: توغل قانون عادي في مجال خاص بالقوانين التنظيمية
إذا كان بإمكان القوانين التنظيمية أن تتوغل بالتشريع في مجال القوانين العادية، ولا يعد ذلك مخالفة دستورية، فإن تدخل القوانين العادية بالتشريع في مجال محفوظ للقوانين التنظيمية، يعد من منظور اجتهادات القضاء الدستوري عملا مخالفا للدستور
ففي القرار 2000-382 المتعلق بإحالة القانون رقم 15-97 بمثابة تحصيل الديون العمومية على أنظار المجلس الدستوري، وذلك من أجل فحص المادة 142 .
أكد المجلس الدستوري في حيثيات القرار وقال: "حيث إن أحكام المادة 142 السالفة تكون بورودها في قانون عادي مخالفة للدستور" وقد جاء في منطوق هذا القرار بأن "أحكام المادة 142 من القانون رقم 97-15 بمثابة مدونة تحصيل الدون العمومية غير مطابقة للدستور
إن اعتبار المجلس الدستوري أن المادة 142 غير مطابقة للدستور، يجد سنده في أن حالات التنافي جعلها الدستور من اختصاص القوانين التنظيمية في الفصلين 37 و 38 وليس من اختصاص القوانين العادية
.
وحيث إن القانون 97-15 أورد في المادة 142 اختصاصات تدخل في مجال القوانين التنظيمية، و بذلك فإنه يكون قد توغل في مجال خاص بقاعدة قانونية عليا الأمر الذي يعد مخالفة للدستور...
ختم
و في الأخير يمكننا القول، أن تدرج مكونات الكتلة الدستورية في المنظومة القانونية بالمغرب، يسير وفق التسلسل الآتي : الدستور و المبادئ ذات القيمة الدستورية في مرتبة أولى (يوجد إقرار دستوري على سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية في الدستور الجديد، لكن ليس هناك أي اجتهادات دستورية في هذا الاطار) ، ثم تليه القوانين التنظيمية ، و بعد تأتي القوانين العادية، أما في الأخير فنجد النظام الداخلي لكل من مجلس البرلمان... و بذلك، فإن احترام الشرعية القانونية و الدستورية داخل الدولة يستلزم احترام مبدأ تدرج القوانين داخل التنظيم، و بالتالي، فإن مخالفة القاعدة القانونية الدنيا للقانونية للقاعدة القانونية العليا يعد مخالفة دستورية، و في هذا الاتجاه سارت اجتهادات القضاء الدستوري ، ففي العديد من القرارات أكد المجلس الدستوري بشكل لا يدع مجالا للشك على المبدأ. و بالمقابل من ذلك، فإنه يمكن لقاعدة قانونية أعلى أن تتدخل بالتشريع في مجال خاص بقاعدة قانونية أدنى و لا يعد ذلك في اجتهادات القضاء الدستوري بالمخالفة الدستورية، لكن توغل القاعدة الأدنى بالتشريع في مجال محفوظ للقاعدة الأعلى يعد مخالفة دستورية و ذلك راجع بشكل أساس للاعتبارات السالفة الذكر...
و مع دخول التعديل الدستوري لسنة 2011 حيز التنفيذ، فإن العديد من المستجدات على مستوى تدرج القواعد القانونية ستطرح مع التنصيص دستوريا على إلزامية تراتبية القوانين (الفصل 6)، و جعل ديباجة الدستور جزءا لا يتجزأ من الدستور و ما سيطرح ذلك من آراء فقهية و ربما اجتهادات قضائية حول تحديد موقع الديباجة ضمن تدرج القوانين على غرار باقي الآراء الفقهية السائدة في الفقه المقارن و الاجتهادات القضائية الدستورية التي تناولت المسألة (قرار 16 يناير 1982 الذي أصدره المجلس الدستوري الفرنسي و حدد بموجبه موقع ديباجة دستو 1946)، و أيضا الإقرار الدستوري بسمو المعاهدات الدولية و منح المحكمة الدستورية المنتظرة صلاحية النظر دستورية في المعاهدات الدولية (الفقرة الأخيرة من الفصل 55)، و ما سينتج عن ذلك من اجتهادات قضائية... و بذلك، فإلى أي حد ستستطيع المحكمة الدستورية المنتظرة إنتاج قرارات دستورية متميزة في هذا الإطار، تعطي للقضاء الدستوري المغربي إشعاعا على المستوى الإفريقي و العربي؟