مدخـل:
إن الهدف الأساسي الذي صدر القانون 14.07 المغير والمتمم لظهير التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 12 غشت 1913 من أجل تحقيقه، هو ضمان سرعة مسطرة التحفيظ وتفادي الصعوبات التي تعرفها والتي كان واقع إدارات المحافظة العقارية والعمل القضائي وكذا الانتقادات الفقهية المثارة بشأنها شاهد عليها[1] طيلة العقود الماضية. ولتحقيق هذا الهدف أدخل المشرع مجموعة من التعديلات المتعلقة بمختلف جوانب مسطرة التحفيظ. ولأن التعرض يعد من أكثر الإجراءات التي يترتب عنها تعطيل المسطرة العادية للتحفيظ وتمديد إجراءاتها من زاوية ما ينجر عنه من انتقال النزاع إلى نظر القضاء، وبالتالي تأخير تأسيس الرسم العقاري واختتام المسطرة، فقد خص المشرع المقتضيات المتعلقة به بمجموعة من التعديلات التي تجلت غايتها بوضوح في التضييق من إمكانات قبول التعرض بتشديد وطـأة الإجراءات على مقدمه وفرض صرامتها. ويتأكد هذا الأمر أكثر عند توجيه النظر إلى أحكام البت في التعرضات من قبل المحافظ على الأملاك العقارية والجزاءات التي يواجَـه بها المتعرضين تأسيسا على عدم جدية الطلبات المقدمة من قِبـَلِهِم، خاصة ما يرتبط بإلغاء التعرض أو رفضه، حيث أدخل القانون 14.07 على المقتضيات المتعلقة بأحكام ترتيب هذين الجزائين تغييرات تمحورت حول فرض صرامة الإجراءات المتعلقة باستخلاص مؤشرات تقدير جدية التعرض بهدف تفادي تأخر المحافظ في حسم قراره بشأنه وتقليص إمكانات قبوله، تجنبا لإطالة النزاع.
وإذا كان الهدف من تسريع وتبسيط المسطرة هو حماية مصالح طالبي التحفيظ من خلال التعجيل بتأسيس الرسم العقاري الخاص بالحقوق المعينة في مطلب التحفيظ، فإن المداخل التي اعتمدها المشرع لتحقيق هذا الهدف، ترتد في كثير من الأحيان إلى فرض إجراءت قد تضر بمصالح المتعرضين وتقلل من الضمانات التي كانت ممنوحة لهم في ظل المقتضيات الملغاة.
لذلك فإن تقييم المقتضيات المتعلقة بإلغاء أو رفض التعرض التي نص عليها القانون 14.07 ينبغي أن يُـنْجَزَ في ضوء الإجابة عن الإشكالية التالية : ما مدى نجاعة هذه المقتضيات في تسريع وتبسيط مسطرة التحفيظ؟ وما مدى نجاحها في تحقيق التوازن المطلوب بين المصالح المتعارضة لكل من طالب التحفيظ والمتعرض؟
إن الإحاطة الموسعة بهذا الموضوع تقتضي دراسة أحكام إلغاء ورفض التعرض بشكل عام، واستخلاص العناصر التي تساعد على محاولة الإجابة عن الإشكالية المطروحة بالتوازي مع تـوالي بسط كل جزئية ترتد في تكاملها مع باقي الأجزاء إلى تشكيل المادة العلمية التي تنصب عليها عمليات المقارنة والاستنتاج والنقد. لذلك نقترح بسط الرأي حول جزاء إلغاء التعرض (المطلب الأول)، ثم رفض التعرض (المطلب الثاني).
المطلب الأول : إلغـاء التعـرض
إن إلغاء التعرض من لدن المحافظ يرفع حالة النزاع المثارة بشأن العقار موضوع التحفيظ أو يحول دون قيامها أصلا، مما يفرض الاستمرار في إجراءات تأسيس الرسم العقاري متى توفرت كل الشروط الأخرى.
وإذا كان المحافظ ملزما بقبول التعرض متى كان مستوفيا للشروط القانونية وتم تقديمه خلال الأجل المحدد، فإن المشرع حتم عليه إلغاءه متى تأكد له عدم.
وهكذا رتب المشرع جزاء الإلغاء صراحة في حالة عدم تقديم المتعرض للوثائق والمستندات المدعمة لتعرضه وعدم أدائه للواجبات القضائية خلال الأجل القانوني (الفقرة الأولى)، كما يمكن توقع إلغاء التعرض استنادا لحكم قضائي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إلغاء التعرض لعدم تقديم الوثائق المؤيدة له وأداء الواجبات القضائية
اعتبر الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تعديله بالقانون 14.07 أن التعرض يكون لاغيا وكأن لم يكن إذا لم يقدم المتعرض السندات والوثائق المؤيدة لتعرضه ولم يؤد الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو يثبت حصوله على المساعدة القضائية خلال أجل شهر يحتسب من تاريخ انتهاء أجل التعرض.
من خلال هذا النص يتضح أن ق 14.07 عمل، من جهة، على تسريع إجراءات البت في التعرض من قبل المحافظ على العقارية كنتيجة لحصر العناصر الموجهة لتقرير جزاء الإلغاء (أولا)، وكذا تقييد السلطة التقديرية للمحافظ في تقرير الإلغاء، من جهة أخرى (ثانيا).
أولا: حصر العناصـر التي ينبني عليها تقرير جزاء الإلغـاء في ظل (ق. 14.07)
في ظل ظهير التحفيظ العقاري قبل صدور تعديله بالقانون رقم 14.07 كان للمحافظ العقاري أن يقبل التعرض المقدم دون إيداع ما يؤيده من وثائق ويعمل على تقييده في سجل خاص، ثم له أن يوجه إنذارا للمتعرض بأن يقدم ما بيده من حجج مدعمة لتعرضه خلال أجل ثلاثة أشهر، بعدها يمكنه القيام بالتحري حول جدية التعرض وإجراء بحث بشأنه، وتبقى له الصلاحية حينها في إلغاء التعرض أو قبوله رغم غياب مؤيداته. أما بالنسبة للرسوم القضائية فقد كان للمحافظ على الأملاك العقارية أن يعمل على تخفيض قيمتها بناءً على طلب المتعرض، بعد إنذاره بضرورة تقديمها خلال نفس الأجل السابق تحت طائلة اعتبار التعرض ملغى.
أما في ضوء النص الجديد بعد التعديل، فليس هناك ما يدل على إمكانية توجيه إنذار إلى المتعرض الذي لم يدلِ بحجج تعضد تعرضه، كما أن المشرع لم يوجه المحافظ إلى إجراء بحث حول التعرض ولا التحري بشأنه ولا النظر في إمكانية تخفيض الرسوم القضائية، بل إن جزاء الإلغاء يترتب تلقائيا تجاه التعرض الذي لم يؤيده صاحبه بالوثائق اللازمة ولم يؤد بشأنه الرسوم بمجرد انصرام أجل الشهر المحدد في الفصل 32 من ظ. ت. ع. كما تم تعديله. ولا يبقى للمحافظ إلا التشطيب عليه. مما يعني أن جزاء الإلغاء أصبح يتحدد في ضوء عنصر أساسي متمحور حول وجود أو عدم وجود الوثائق وأداء الرسوم خلال أجل محدد، دون توجيه النظر لعناصر أخرى يُـرجى تحصيلها من خلال إجراء بحث أو تحرٍ من قبل المحافظ، أو فتح الباب من جديد لاتخاذ إجراءت أخرى كتوجيه إنذار لحث المتعرض على تدعيم تعرضه، تلمسا لتوسيع فرص قبوله. وإذا كان من شأن هذه التعديلات أن تسرع مسطرة التحفيظ من خلال حذف بعض الإجراءات وتقليص إمكانات قبول التعرضات خاصة الكيدية منها تجنبا لإطالة أمد النزاع، فإنها تعبر عن تبني المشرع لمقاربة تكرس النظر للتعرض كإجراء استثنائي عارض ينبغي عدم التوسع في فتح المجال أمامه، في مقابل تشديد الإجراءات على مقدمه. وهذا يزكي المقاربة التي اعتمدها القضاء منذ عقود باعتبار المتعرض في موقع المدعي في مواجهة طالب التحفيظ من زاوية عبء الإثبات.
إن الرؤية المعتمدة من المشرع من شأنها أن تقلص الضمانات الممنوحة للمتعرضين، وتمنح مطلب التحفيظ حصانة أكبر ضد كل من يدعي عكس ما هو مضمن فيه من ادعاءات، بما قد يؤدي إلى ضياع الحقوق على أصحابها بعد أن يُـوَاجَهُـوا بالحجية المطلقة لرسم التحفيظ بشأن الحقوق المضمنة فيه. وهذا الاستنتاج يأخذ مشروعية أكثر، بالنظر لتقييد صلاحيات المحافظ في تقرير الإلغاء كما سنتطرق له فيما سيأتي.
ثانيا: تقييد السلطة التقديرية للمحافظ على الأملاك العقارية عند البت في التعرض
إن حصر العناصر الموجهة لتقرير حكم الإلغاء في ظل ضوء القانون رقم 14.07 كما بسطنا موقفنا حوله من خلال الفقرة الأولى يترتب عنه بشكل مباشر تقييد سلطة المحافظ عند البت في التعرضات، لذلك جاءت الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ. ت. ع بصيغة حاسمة حول تقرير جزاء الإلغاء بالنسبة للتعرض الذي لم يُـؤَيد بما يثبت جديته خلال أجل شهر، حيث اعتبرته "لاغيا وكأن لم يكن"، وهذه الصيغة تناقض تماما ما كان منصوصا عليه بالفصل 32 قبل تعديله حيث كان يعطي صراحة للمحافظ على الأملاك العقارية السلطة التقديرية في إلغاء التعرض أو قبوله بالرغم من عدم تقديم الوثائق المطلوبة بشأنه. إضافة إلى أن صيغة "يعتبر لاغيا وكأن لم يكن" توحي بأن الإلغاء هنا مقرر بقوة القانون دون الحاجة لصدور قرار بذلك من المحافظ الذي لا يبقى له الخيار في قبول التعرض، مما يوحي بعدم قابلية الإلغاء المقرر هنا لأي طعن.
إن فهم هذه الصيغة بمعنى عدم قابلية هذا الإلغاء لأي طعن، من شأنه أن يسرع المسطرة أكثر، حيث يمضي المحافظ في هذه الحالة إلى تأسيس الرسم العقاري بمجرد انصرام أجل الشهر المحدد لتقديم والوثائق وأداء الرسوم، أما في ظل المقتضيات الملغاة، فإن الطعن في قرار الإلغاء كان يحتم على المحافظ انتظار صدور الحكم البات في دعوى الطعن قبل مواصلة إجراءات التحفيظ.
لكن مسايرة هذا الفهم القائل بحصانة الإلغاء المقرر في هذه الحالة من الطعن القضائي قد يؤدي إلى نتائج خطيرة بما أنه يرفع عن تشطيب التعرض، الذي يقوم به المحافظ ترتيبا على إلغائه، كل رقابة من زاوية تقدير ما إذا كان صادرا عن تعسف أو شطط. لذلك فالأولى أن نقول بقابلية قرار التشطيب على التعرض لعدم تقديم مؤيداته، للطعن باعتباره قرارا إداريا، لأن هذا مما يحصن مصالح المتعرض ويضمن له الحق في رفع كل تعسف أو تجاوز للنصوص القانونية صادر عن المحافظ.
ونعتقد أن المتعرض الذي لم يتمكن من الإدلاء بالوثائق المؤيدة لتعرضه لأسباب مانعة ولم يؤد الرسوم القضائية خلال الأجل المحدد، يستطيع أن يتقدم إلى المحافظة العقارية بعد انصرام هذا الأجل وقبل توجيه الملف إلى المحكمة ويدلي بما توفر عنده من مستندات ووثائق ويؤدي الرسوم القضائية وحقوق المرافعة، حيث يمكن للمحافظ أن يقبل تعرضه هذا في إطار الاستثناء المقرر بالفصل 29 (من ظ. ت. ع)، إذا أدلى بما يبرر تخلفه عن تقديم الوثائق المؤيدة لتعرضه خلال الأجل المقرر لذلك، لأن هذا مما تقتضيه مصلحة المتعرض، ويقره المنطق من حيث أن اعتبار التعرض الخالي مما يؤيده "كأن لم يكن" يوجب تنزيله منزلة العدم، وهذا يقتضي أن تُماثِـلَ الآثار التي يُواجَه بها المتخلف عن تقديم تعرضه خلال الأجل تلك التي يُواجَـه بها مقدم التعرض الملغى لخُـلُوًّه مما يؤيده رغم وقوعه داخل الأجل، وذلك بإتاحة الفرصة أمام كُـلٍّ منهما لقبول التعرضات المقدمة من قِـبَلِهما في إطار وضمن الشروط المقررة بالفصل 29 السالف ذكره.
الفقرة الثانية: إلغاء التعرض بناءً على منطوق حكم قضائي قصى بعدم صحته.
قد يقبل المحافظ على الأملاك العقارية تعرضا ما نظرا لاستيفائه كل الشروط القانونية المطلوبة، وبعد إحالته ترتيبا على ذلك إلى نظر القضاء يصدر حكم نهائي يقضي بعدم صحته، وهذا يعني أن المحكمة المعروض عليها النزاع قد فحصت من الزاوية الموضوعية الادعاءات المضمنة بالتعرض والوثائق المقدمة لإثباتها ونظرت في وجود الحقوق المدعى بها ونطاقها ومشتملاتها فتأكد لها عدم صحتها، فلا يبقى للتعرض وجود بعد ذلك. مما يحتم على المحافظ على الأملاك العقارية، وبعد أن يحال عليه الأطراف للعمل بقرار المحكمة المكتسب لقوة الشيء المقضي به، أن يقوم بالتشطيب على التعرض المحكوم بعدم صحته ويسقطه من نظره ويعتبره ملغى، ثم يمضي في ضوء هذه النتيجة إلى دراسة مطلب التحفيظ الذي يبقى له وحده النظر في قبوله أو رفضه كلا أو بعضا[2].
وعلى المحافظ قبل مواصلة المسطرة أن يتأكد من اكتساب الحكم المقرر لعدم صحة التعرض لقوة الشيء المقضي به، لذلك يجب أن يتوصل بنسخة تنفيذية من الحكم الصادر مصحوبة بشهادة بعدم الاستئناف أو بعدم الطعن بالنقض واستنادا إلى هذه الوثائق يتخذ قرارا بالتشطيب على التعرض[3].
أما في حالة الحكم بصحة التعرض على مطلب التحفيط، فإذا كان جزئيا أسقط المحافظ من نظره الأجزاء المحكوم بصحة التعرض بشأنها، واقتصر على النظر في الأجزاء غير المتعرض عليها، حيث له أن يقوم بتحفيظها في حالة عدم وجود تعرضات أخرى وبعد التأكد من توافر الشروط القانونية المطلوبة لتأسيس الرسم العقاري. أما إذا كان التعرض المقضي بصحته كليا شاملا لكل العقار، فلا يبقى أمام المحافظ في هذه الحالة إلا اتخاذ قرار بإلغاء مطلب التحفيظ.
لكن السؤال المطروح هنا هل يكتسب صاحب التعرض المحكوم بصحته صفة طالب التحفيظ بالنسبة للحقوق المعترف له بها ؟ أم إن الخيار يُـتْرك له من أجل تقديم مطلب تحفيظ بهذا الخصوص؟
إن مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 37 الملغاة بالقانون 14.07 لم تكن تعتبر الحكم الصادر بصحة التعرض بمثابة مطلب ضمني بتحفيظ العقار باسم المتعرض، بل تلزم المتعرض الراغب في ذلك بتقديم مطلب تحفيظ جديد، حيث يمكن أن يتأتى له ذلك بعد القيام بكل الإجراءات العادية و"بعد النشر لمدة أربعة أشهر بالجريدة الرسمية والتعليق والقيام بالاستدعاءات القانونية ومراجعة التحديد أثناء آجال النشر".
أما الفقرة الأخيرة من الفصل 37 حسب صياغته الجديدة، فاكتفت بتوجيه المحافظ إلى القيام بإعلان الحقوق المحكوم بها وفق الشروط والشكليات المنصوص عليها في الفصل 83 الذي ينص أن كل حق وقع إنشاؤه أو تغييره أو الإقرار به أثناء مسطرة التحفيظ يمكن نشره بالجريدة الرسمية بناء على طلب صاحبه بعد أن يودع بالمحافظة العقارية الوثائق التي تثبت هذا الحق، ويترتب عن هذا الإجراء اكتسابه لصفة طالب التحفيظ في حدود الحق المعترف له به، وتتابع المسطرة بصفة قانونية مع أخذ هذا الحق بعين الاعتبار.
إن التفسير الواسع لمستجدات الفصل 37 المعدل يدفع للنظر إلى حذف الفقرة الأخيرة من هذا الفصل كما منصوص عليها في ظهير التحفيظ والتي لم تكن تقر للمتعرض المحكوم له بصحة تعرضه صفة طالب التحفيظ تلقائيا، من جهة، وتعويضها بإحالة الفصل 37 المعدل بالقانون 14.07 على مقتضيات الفصل 83 (من ظ.ت.ع) الذي أوردنا مقتضياته أعلاه، من جهة أخرى، قد يدل على اتجاه نية المشرع إلى إكساب المتعرض المحكوم له بصحة تعرضه لصفة طالب التحفيظ تلقائيا بعد قيام المحافظ على الأملاك العقارية بنشر الحقوق المعترف بها بالجريدة الرسمية، حيث تتابع مسطرة التحفيظ وفق الإجراءات العادية. وهذا الفهم، مما يساير أهداف المشرع بتسريع وتبسيط إجراءات التحفيظ، ومما يستلـزمه مسايرة حرص السلطات على تشجيع أصحاب العقارات على تحفيظها بغاية ضمان استقرار المعاملات، لأن ترك المتعرض حرا في تقديم مطلب بالتحفيظ من عدمه قد يدفعه للتقاعس عن هذا الأمر، وبالتالي تضييع فرصة تحصين حقه بآثار الحجية المطلقة للرسم العقاري بعد تأسيسه.
لكن هذا الفهم الواسع قد يحمل النص القانوني في هذه الحالة ما لا يحتمل، لأن الاعتراف بصفة طالب التحفيظ لصاحب التعرض المقضي بصحته قد تطرح العديد من الإشكالات العملية التي لا يجيب عليها الفصلين المذكورين، وعموما فالأمر متروك لاجتهاد القضاء ونظر الفقهاء من أجل استجلاء النية المفترضة للمشرع بخصوص هذه النقطة.
الـمطلب الثانـي: اتخـاذ الـمحافظ لقـرار رفـض التعـرض.
ينص الفصل 27 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تتميمه وتغييره بالقانون 14.07 على أن التعرض لا يُـقبل بعد انصرام أجل الشهرين المحدد لتقديم التعرضات وفق الفصل 23 من نفس الظـهير، باستثناء ما هو منصوص عليه في الفصل 29. وبالاطلاع على هذا الفصل نستنتج أن المشرع من خلال القانون رقم 14.07 قد حدد مجموعة من العناصـر التي ينبغي أن يأخذها المحافظ بعين الاعتبار عند اتخاذه لقرار رفض التعرض المقدم خـارج الأجل (الفقرة الأولى)، مما يدفعنا للتساؤل في ضوء هذا الاستنتاج عن حدود الرقابة القضائية على القرارات التي يتخذها المحافظ بهذا الشأن(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: العناصر التي ينبنـي عليها قرار المحافظ بشأن التعرض المقدم خارج الأجل
إذا كـان الفصل 27 من ظ. ت. ع. قد منع المحافظ على الأملاك العقارية من قبول التعرض المقدم خارج الأجل، فإن الفصل 29 من نفس القانون قد أتاح هذا القبول على سبيل الاستثناء محددا مجموعة من العناصر الموجهة لقرار المحافظ بهذا الخصوص. ينص الفصل 29 على أنه "بعد انصرام الأجل المحدد في الفصل 27 أعلاه يمكن أن يقبل التعرض بصفة استثنائية من طرف المحافظ على الأملاك العقارية، ولو لم يرد على مطلب التحفيظ أي تعرض سابق شريطة ألا يكون الملف قد وجه إلى المحكمة الابتدائية.
يتعين على المتعرض أن يدلي للمحافظ على الأملاك العقارية بالوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم تعرضه داخل الأجل، وبالعقود والوثائق المدعمة لتعرضه كما يتعين عليه أن يؤدي الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو يثبت حصوله على المساعدة القضائية..." .
بقراءة هذا الفصل يتضح أن للمحافظ السلطة التقديرية في اتخاذ قراره بقبول التعرض المقدم خارج الأجل أو رفضه، لكن هذه السلطة ليست مطلقة، بل مقيدة بمجموعة من الضوابط التي إذا ما عملنا على محاولة فهمها في ضوء الفصل 27 الذي يجعل قبول التعرض في الحالة السابقة استثناءً، تصير باعتماد مفهوم المخالفة للفصل 29، مؤشرات يتخذ المحافظ على الأملاك العقارية قراره بالرفض في ضوئها، وعليـه فقرار رفض التعرض يمكن أن يتحقق في حالة توجيه الملف إلى المحكمة (أولا)، كما يمكن أن ينبني على عدم إدلاء المتعرض بالوثائق التي تبرر تخلفه عن تقديم تعرضه داخل الأجل (ثانيا)، أو عدم الإدلاء بالوثائق والواجبات القضائية عند التقدم بالتعرض (ثالثا).
أولا: توجيه الملف إلى المحكمة
جعل المشرع المغربي من خلال التعديلات التي أتى بها القانون 14.07 المحافظ على الأملاك العقارية الجهة الوحيدة التي تختص بالنظر في التعرض الاستثنائي بعد أن اعتبر قبوله لا يتم إلا بتوفر شرط عدم توجيه الملف إلى المحكمة، مما يعني سحب الاختصاص الذي كان قائما للنيابة العامة، في ظل ظهير التحفيظ العقاري قبل نشر تعديله، في إصدار قرار بقبول التعرض كما كان منصوصا عليه في النص الملغى. فقد نص الفصل 29 أن التعرض يمكن أن يقبل استثناءً خارج الأجل شريطة ألا يكون الملف قد وُجِّـه إلى المحكمة، فباعتماد المفهوم المخالف لهذا النص يتضح أن المحافظ على الأملاك العقارية لا يبقى له خيارا بشأن التعرض إلا اتخاذ قرار برفضه دون انتظار إذن النيابة العامة الذي كان يسمح استثناءً بقبوله، وذلك في الحالة التي يكون قد قام مسبقا ببعث ملف التحفيظ إلى المحكمة. وفي هذه الحالة يتقرر الرفض بغض النظر عن توفر المتعرض على العقود المؤيدة لادعائه أو إدلائه بالوثائق الدالة على الأسباب التي منعته من تقديم التعرض خلال الأجل، فلا يقوم المحافظ على الأملاك العقارية تبعا لذلك بتسلم هذه الوثائق ولا فحصها أو استخلاص الرسوم القضائية وحقوق المرافعة، لأن المشرع كان حاسما بهذا الخصوص وجعل توجيه الملف إلى المحكمة مسقطا لحق الراغب في التعرض من أجل التدخل في مسطرة التحفيظ.
وإذا كان الهدف من التعديل المذكور يهدف إلى تسريع مسطرة التحفيظ من خلال التضييق من نطاق قبول التعرضات الاستثنائية، والمساعدة على البت بشكل أفضل في نزاعات التحفيظ أمام المحاكم[4]. فإنه يقلص من الضمانات الممنوحة للأفراد من أجل الدفاع عن حقوقهم التي قد تضيع بسبب تأسيس الرسم العقاري ذي القوة التطهيرية المطلقة، بعد تفويت إمكانية التعرض عليهم عند توجيه الملف إلى المحكمة، وقد تكون للمتخلف عن تقديم التعرض خلال الأجل القانوني مبرراته وأعذاره المقبولة التي منعته من ذلك، مع توفره على كل العقود والوثائق المؤيدة لادعائه، فكان من الأولى أن يتاح التعرض حتى في هذه الحالة، خاصة وأن هذا بعث الملف إلى المحكمة يفيد أن تعرضات سابقة قد تمت على مطلب التحفيظ، وبالتالي لا غضاضة في قبول تعرضات جديدة على نفس المطلب، ما دام أن انتقال المسطرة إلى المرحلة القضائية قد أصبح واقعا بعد عرض الملف أمام المحكمة.
ثانيا: عدم إدلاء المتعرض بالوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم التعرض داخل الأجل
من التعديلات التي أدخلها القانون 14.07 على الفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري تنصيصه على إلزام المتعرض خارج الأجل ببيان الأسباب التي منعته من تقديمه لتعرضه داخل الأجل القانوني، ولا يكفي أن يتم ذكر هذه الأسباب مشافهة بل ينبغي الإدلاء بالوثائق المبينة لهـا، وهو أمر صعب التحقق من الناحية العملية، إذ غالبا ما لن يتيسر للمتعرض الحصول على وثائق مكتوبة أو محمولة على دعامة أخرى تشهد على الأسباب المبررة لتخلفه عن القيام بهذا الإجراء داخل الأجل. إن اعتبار قبول التعرض خارج الأجل لا يتم إلا على وجه الاستثناء يقتضي من المحافظ أن يرفض التعرض في كل الأحوال التي لا يبرر فيها المتعرض تخلفه بالوثائق المذكورة، دون النظر في العقود والسندات التي يقدمها المتعرض تأييدا للطلب. لكن فهم هذا المقتضى في ضوء مراعاة مصلحة المتعرضين وحماية الحقوق لفائدة أصحابها، يستتبع التأكيد على ضرورة توخي المحافظ على الأملاك العقارية للمرونة اللازمة عند تقديره لكفاية الوثائق المدلى بها والأسباب المتذرع بها من قِـبل صاحب التعرض الاستثنائي، بل حَرِيُّ به أن يوجه تركيز نظره على ما بيد هذا الأخير من سندات وعقود مدعمة للادعاءات المضمنة بالتعرض، فهي الجديرة بالاعتبار عند اتخاذه لقراره بالقبول أو الرفض، لأن الأخذ بالحكم السابق قد يجعل المحافظ يقبل تعرضا لا تضاهي الحجج والبراهين المقدمة فيه تلك التي تقدم بها متعرض آخر رفض طلبه[5]. و لا يعقل أن يحرم صاحب الحق من إمكانية الدفاع عن مصالحه أمام القضاء في مواجهة طالب التحفيظ، لمجرد أن أسبابـا حالت دون تقديمه لتعرضه داخل الأجل من غير أن يتمكن من الحصول على وثائق تثبت هذا الأسباب، فهذا مما يتنافى مع قواعد العدالة. أما تحقيق السرعة والفعالية التي اتخذها المشرع شعارا لسن هذه المقتضيات، فلا ينبغي أن يتم على حساب مصالح الأشخاص وحقوقهم.
ثالثا : عدم تقديم الوثائق المدعمة للتعرض وأداء الواجبات القضائية
ألزمت الفقرة الثانية من الفصل 29 من (ظ. ت. ع.) المتعرض خارج الأجل بتقديم العقود والسندات المؤيدة لتعرضه وأداء الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو الإدلاء بما يثبت حصوله على المساعدة القضائية، وهذه من الأمور البديهية المتطلبة في كل التعرضات ولو كانت داخل الأجل تحت طائلة اعتبارها لاغية[6]. إلا أن استثنائية المقتضيات الواردة في الفصل السابق والصيغة التي جاءت بها توجب القول بأن المتعرض يلزم بتقديم السندات المذكورة في الحال مرفقة بطلب التعرض دون أن يستفيد من أي أجل إضافي أو تأخير، على عكس المتعرض داخل الأجل الذي يستفيد من كامل المدة التي تسبق انتهاء أجل الشهر الموالي لانصرام أجل التعرض، من أجل تقديم مؤيداته.
لذلك فللمحافظ على الأملاك العقارية أن يرفض دون تساهل، كل التعرضات التي لم يرفقها صاحبها بما يؤيدها من سندات وواجبات قضائية، وعلى المتعرض أن يتحمل نتائج إهماله.
ونعتقد أن إمكانية التعرض خارج الأجل تُـفْتَح في وجه المتعرض الذي تقرر إلغاء تعرضه المقدم داخل الأجل لعدم تقديم الوثائق المؤيدة لتعرضه وعدم أدائه الواجبات القضائية خلال المهلة المحددة قانونا، وذلك إذا استدرك هذا النقص وأدلى بما توفر لديه من سندات وعقود، مع تقديمه الوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم هذه السندات خلال أجل التعرض، ويمكن للمحافظ أن يقبل تعرضه ما دام الملف لم يوجه إلى المحكمة، إذا تحققت كل الشروط الأخرى[7].
الفقرة الثانية: محدودية الرقابة القضائية على قرارات المحافظ بشأن البت في التعرض المقـدم خارج الأجـل.
تتضح هذه المحدودية بالنظر لعدم قابلية قرار المحافظ برفض التعرض للطعن القضائي (أولا)، ثم لعدم صلاحية المحكمة المحال عليها الملف بالبت في ملاءمة قرار المحافظ بشأن التعرض خارج الأجل (ثانيا).
أولا: عدم قابلية قرار الرفض للطعن.
تنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري أن قرار المحافظ برفض التعرض لا يقبل الطعن القضائي، وهذه من المستجدات التي نص عليها القانون 17.04 والتي أثارت انتقادات فقهية مبالغ فيها استنادا لكونها تشجع بعض المحافظين على الشطط في استعمال السلطة ما دام المحافظ على الأملاك العقارية، في نظر البعض، تبقى له السلطة التقديرية المطلقة ليقرر مدى أحقية المتعرض في قبول تعرضه من عدمه[8]، لكن وإن كنا نتفق بخصوص النتيجة التي استخلصها هذا الرأي، فإننا لا نعتقد بالأسس التي قامت عليها، لأن المحافظ ليست له سلطة تقديرية مطلقة عند البت برفض التعرض الاستثنائي، إذ هو مقيد بالعناصر التي استخلصناها في الفرع السابق تأسيسا على المفهوم المخالف لمقتضيات الفصل 29 (ظ. ت.ع.) والتي تشكل ضوابط ترشد المحافظ إلى اتخاذ قراره في ضوئها. أما التعسف في استعمال السلطة الذي قد يرتكبه المحافظ فإن تحققه يتأسس على عدم احترام هذه الضوابط ومخالفة القواعد القانونية بشأنها، لا على ما أعطاه المشرع من سلطة تقديرية مطلقة، كما يعتقد البعض.
وبغض النظر عن الانتقادات السالفة، يمكن أن نستخلص بعض الأسس التي تبرر النص على حصانة قرار الرفض من لدن المحافظ من الطعن القضائي من خلال ما يلي:
- محاولة المشرع الانضباط لمتطلبات الانسجام مع مقتضيات الفصل 27 (ظ. ت. ع) التي تقرر للتعرض المقدم خارج الأجل طابعا استثنائيـا، مع ما يعنيه هذا من ضرورة التقييد من حالات قبوله، وتوخي الصرامة ضد مقدمه الذي أهمل القيام بما يلزم لحفظ حقه خلال الآجال القانونية المحددة لذلك.
- إنه ليس من المستساغ أن يتم عرقلة مسطرة التحفيظ لمجرد رفض تعرض استثنائي تشير القرائن إلى عدم جديته تأسيسا على إهمال صاحبه تقديمه خلال الأجل، خاصة وأن اتباع إجراءات الطعن قد يؤدي إلى تمديد المسطرة زمنيا، ما دام المحافظ سيؤجل البت في مطلب التحفيظ إلى حين صدور الحكم القضائي بشأن دعوى الطعن.
- إن التعرض في إطار الفصل 29 من ظ. ت.ع ، يبقى استثناءً مقررا في حقيقته لمصلحة المتعرض تلمسا لإتاحة الفرصة من جديد لقبول تعرضه حفاظا على حقوقه، وعليه ليس مقبولا أن تتحول هذه الضمانة الاستثنائية، في مقابل ذلك، إلى سبب في تضرر طالب التحفيظ بعد إتباع إجراءات الطعن، فهدف القانون هو تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة في إطار تحقيق الاستقرار وإشاعة الثقة في سلطة القانون التي تحفظ لكل حقه.
- إن فتح إمكانية الطعن في قرار المحافظ في الحالة السابقة قد يؤدي إلى نتائج خطيرة إذا تم استغلاله من طرف سيئي النية ومنعدمي الضمير، بأن يُـقْدِمُوا على تقديم تعرضات واهية الحجج خارج الأجل رغم تأكدهم من رفضها من طرف المحافظ، ثم يعمدون إلى الطعن في هذا الرفض، وهذا ينتج عنه تعطيل مسطرة التحفيظ، ليكون الهدف الأساسي من سلوكهم هذا هو زيادة أعباء طالب التحفيظ وعرقلة مسطرة تحفيظه لعقاره. وتفاديا للغرامات التي قد تُـفرض ضدهم إذا تم تكييف تعرضاتهم بأنها تعسفية أمام المحكمة،فإنهم قد يلجأون إلى التعرض على أجزاء تافهة من العقار أو على حقوق هزيلة القيمة للإنقاص من قيمة الغرامة في حالة فرضها. ثم إن الحكم بالغرامة ليس محققا في كل الأحوال، فقد لا تستخلص المحكمة العناصر التي تمكنها من تكييف التعرض بأنه كيدي أو تعسفي.
لقد كان هدف المشرع من خلال هذا النص هو تحقيق السرعة في إتمام مسطرة التحفيظ بالتقليل من فرص التعرض على مطالب التحفيظ لتفادي الانتقال إلى المرحلة القضائية مع ما يستتبع ذلك من عرقلة للمسطرة العادية وتأخير في تأسيس الرسم العقاري. لكنه أغفل المبادئ العامة التي تجيز الطعن في كل القرارت التي يصدرها المحافظ، باعتباره جهة إدارية، وهذه الصفة الإدارية تُعَزِّز أكثر الطرح القائل بأهمية هذا الطعن، خاصة وأن المجلس الأعلى في قرارات سابقة أيد هذا الاتجاه : "وحيث من المعلوم أن المحافظ باعتباره سلطة إدارية تكون قراراته قابلة للطعن مبدئيا بالإلغاء، إلا في الحالة التي توجد فيها دعوى موازية أمام القضاء العادي وهي حالات محددة على سبيل الحصر"[9]. بل إن البعض[10] يعتبر الفقرة الأخيرة من الفصل 29 المذكور تتضمن خرقا للمبادئ المسطرة بالدستور، وخاصة الفصل 118 منه الذي ينص أن حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون. لهذا كان من الأفضل ترك باب الطعن مفتوحـا أمام المتعرض الذي رُفِض تعرضه، من خلال مسطرة مبسطة وسريعة مقرونة بآجال قصيرة ومحددة، نقترح أن يكون فيها لرئيس المحكمة الابتدائية اختصاص البت في هذه الطعون في إطار القضاء الاستعجالي، ويكون قرار رئيس المحكمة في هذه الحالة غير قابل لأي طعن. وبهذا تصان حقوق المتعرضين وتتحقق السرعة والفعـالية المطلوبة.
لكن السؤال يبقى مطروحـا حول ما إذا كان قرار المحافظ بقبول التعرض المقدم خارج الأجل يقبل الطعن فيه من لدن طالب التحفيظ ؟
إن اعتماد المفهوم المخالف للصيغة الحرفية لنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 التي تنص "أن قرار المحافظ برفض التعرض لا يقبل الطعن القضائي"، يفضي للاستنتاج أن هذا الطعن يكون ممكنا ضد قرار قبول التعرض خارج الأجل من لدن صاحب المصلحة. لأن المشرع لو أراد منع هذا الطعن لنص على ذلك صراحة أو على الأقل استعمل صيغة عامة كتلك التي كان منصوصا عليها في مشروع القانون 14.07 عند عرضه أول مرة على اللجنة البرلمانية المكلفة: " يكون قرار المحافظ في هذه الحالة غير قابل للطعن القضائي"، دون تخصيص هذا الحكم بقرار القبول فقط.
وهذا الفهم مما ينسجم مع ما يترتب عن الطابع الاستثنائي لقبول التعرض المقدم خارج الأجل، خصوصا أن التوسع في هذا القبول قد يؤدي إلى المساس بحقوق طالب التحفيظ ويؤجل إجراءات تأسيس الرسم العقاري. إلا أن هذا المقتضى يكشف بوضوح الإخلال بالتوازن المطلوب بين الحقوق والضمانات الممنوحة لكل من طالبي التحفيظ والمتعرضين، بما أنه يتيح الطعن للبعض دون الآخر بالنسبة لقرارات المحافظ بشأن التعرض خارج الأجل.
وتجاوزا لهذا الاختلال، رأى البعض في ظل النص الملغى أن هذا القبول، على العكس من ذلك، لا يكون موضوعا لأي طعن لأنه مخول للمحافظ في كل الحالات التي لا يكون الملف قد وجه إلى المحكمة[11].
ثانيا: عدم اختصاص المحكمة المقامة أمامها دعوى التعرض بالنظر في ملاءمة قرار الرفض.
قد يقبل المحافظ على الأملاك العقاري تعرضا تم تقديمه خارج الأجل في إطار الاستثناء المقرر بالفصل 29 (ظ. ت. ع)، وترتيبا على ذلك يحيل ملف التحفيظ على المحكمة الابتدائية، فهل يحق لطالبي التحفيظ في هذه الحالة الدفع في مواجهة المتعرضين بكون التعرض موضوع الدعوى تم قبوله من لدن المحافظ خارج الأجل دون مراعاة الضوابط القانونية المنصوص عليها ؟
يجيب القضاء المغربي على هذا السؤال من خلال عدة قرارات : "لكن حيث إنـه في نطاق مسطرة التحفيظ العقاري يحال الملف من طرف محافظ الملكية العقارية على المحكمة الابتدائية لتبت في التعرضات المقدمة ضد مطلب التحفيظ من الناحية الموضوعية، ذلك أن قبول التعرضات أو عدم قبولها حسب تقديمها داخل الآجال القانونية أو خارجها يدخل في اختصاص المحافظ على الأملاك العقارية الذي يتولى تلقي التعرضات وتهييئها قبل إحالـة الملف على المحكمة المطعون في قرارها، فإنه لا يحق لها قانونا أن تفحص الآجال المتعلقة بتقديم التعرضات ضد مطلب التحفيظ وأنها تقتصر فقط على دراسة هذه التعرضات للتصريح بصحتها أو عدم صحتها موضوعيا" (المجلس الأعلى، قرار رقم 30، بتاريخ 14 أبريل 1981 / ملف إداري 36.907)[12].
وفي قرار آخر قضى بأن "قبول التعرض أو عدم قبولـه من اختصاص المحافظ وأن المحكمة تقضي في التعرضات المقدمة إليها من المحافظ عملا بالفصل 27 من ظهير التحفيظ العقاري"[13].
إن تبني القضاء المغربي لهذا الاتجاه من شأنه أن يحد أكثر من الرقابة القضائية المفروضة على المحافظ على الأملاك العقارية عند نظره في التعرض المقدم خارج الأجل، لكنه اتجاه سليم من زاوية انسجامه مع المبادئ العامة والنصوص القانونية المبلورة لخصوصية دعوى التعرض التي تهدف أساسا إلى فحص الادعاءات المضمنة فيه من الناحية الموضوعية بغاية تقرير صحته أو رفضه، دون النظر في شرعية قرار قبول التعرض الذي يبقى مجالا خاصا للمحافظ على الأملاك العقارية لا يخضع لرقابة المحاكم العادية.
إلا أن طالب التحفيظ في حال قبول التعرض خارج الأجل يستطيع أن يتقدم بالطعن ضد هذا القرار أمام المحكمة الإدارية إذا ما تبين له صدوره عن تعسف أو سوء تقدير من المحافظ، وهذا الرأي أقمناه على مفهوم المخالفة للفقرة لنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 (ظ. ت. ع) كما هو موضح سابقا من خلال العنوان السابق (أولا).
خاتمـة:
يتضح مما سبق أن المشرع اعتمد مقاربة غريبة في سعيه إلى تحقيق تبسيط وتسريع مسطرة التحفيظ، نظرا لأنها لا ترى مدخلا لتحقيق هذا الهدف إلا على حساب الإضرار بمصالح أحد الأطراف الأساسية المتدخلة في المسطرة وهو المتعرض. لذلك نقول إن القانون رقم 14.07 وإن كان من شأنه أن يحقق نسبيا تجاوز العديد من الإشكالات التي كانت قائمة في ظل تطبيق المقتضيات المنسوخة، فإنه سيكون سببا لإثارة مشاكل أخرى مرتبطة بما قد يمس أصحاب الحقوق من حيف بسبب صرامة الإجراءات المتعلقة بالتعرض. ولأن تحقيق العدالة المطلقة ليس مما يمكن أن يحققه أي قانون رغم سعيه إليه، فإن مستجدات القانون 14.07 تبقى خطوة إلى الأمام في مسار تطوير النصوص المطبقة على العقار، شريطة مواكبتها بالتعديلات المطلوبة مسايرةً لتغير الواقع الذي فرض صدورها، ومجاراةً لمتطلبات تجاوز الإشكالات العملية التي تثور أثناء تطبيقها، وهذا ما حتم صياغة المشرع لمشروع تعديل سريع على ظهير التحفيظ العقاري من أجل نسخ مقتضيات القانون 14.07 بشأن الشروط المطلوبة في المهندس المساح الطبوغرافي المختص بمباشرة عمليات التحديد والعمليات الهندسية اللاحقة، بمقتضى مشروع قانون رقم 57.12. إلا أن هذا التعديل السريع يكشف عن نوع من الارتجالية والارتباك وغياب الرؤية المؤسسة على معطيات مدققة عند صياغة النصوص القانونية .
إن الهدف الأساسي الذي صدر القانون 14.07 المغير والمتمم لظهير التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 12 غشت 1913 من أجل تحقيقه، هو ضمان سرعة مسطرة التحفيظ وتفادي الصعوبات التي تعرفها والتي كان واقع إدارات المحافظة العقارية والعمل القضائي وكذا الانتقادات الفقهية المثارة بشأنها شاهد عليها[1] طيلة العقود الماضية. ولتحقيق هذا الهدف أدخل المشرع مجموعة من التعديلات المتعلقة بمختلف جوانب مسطرة التحفيظ. ولأن التعرض يعد من أكثر الإجراءات التي يترتب عنها تعطيل المسطرة العادية للتحفيظ وتمديد إجراءاتها من زاوية ما ينجر عنه من انتقال النزاع إلى نظر القضاء، وبالتالي تأخير تأسيس الرسم العقاري واختتام المسطرة، فقد خص المشرع المقتضيات المتعلقة به بمجموعة من التعديلات التي تجلت غايتها بوضوح في التضييق من إمكانات قبول التعرض بتشديد وطـأة الإجراءات على مقدمه وفرض صرامتها. ويتأكد هذا الأمر أكثر عند توجيه النظر إلى أحكام البت في التعرضات من قبل المحافظ على الأملاك العقارية والجزاءات التي يواجَـه بها المتعرضين تأسيسا على عدم جدية الطلبات المقدمة من قِبـَلِهِم، خاصة ما يرتبط بإلغاء التعرض أو رفضه، حيث أدخل القانون 14.07 على المقتضيات المتعلقة بأحكام ترتيب هذين الجزائين تغييرات تمحورت حول فرض صرامة الإجراءات المتعلقة باستخلاص مؤشرات تقدير جدية التعرض بهدف تفادي تأخر المحافظ في حسم قراره بشأنه وتقليص إمكانات قبوله، تجنبا لإطالة النزاع.
وإذا كان الهدف من تسريع وتبسيط المسطرة هو حماية مصالح طالبي التحفيظ من خلال التعجيل بتأسيس الرسم العقاري الخاص بالحقوق المعينة في مطلب التحفيظ، فإن المداخل التي اعتمدها المشرع لتحقيق هذا الهدف، ترتد في كثير من الأحيان إلى فرض إجراءت قد تضر بمصالح المتعرضين وتقلل من الضمانات التي كانت ممنوحة لهم في ظل المقتضيات الملغاة.
لذلك فإن تقييم المقتضيات المتعلقة بإلغاء أو رفض التعرض التي نص عليها القانون 14.07 ينبغي أن يُـنْجَزَ في ضوء الإجابة عن الإشكالية التالية : ما مدى نجاعة هذه المقتضيات في تسريع وتبسيط مسطرة التحفيظ؟ وما مدى نجاحها في تحقيق التوازن المطلوب بين المصالح المتعارضة لكل من طالب التحفيظ والمتعرض؟
إن الإحاطة الموسعة بهذا الموضوع تقتضي دراسة أحكام إلغاء ورفض التعرض بشكل عام، واستخلاص العناصر التي تساعد على محاولة الإجابة عن الإشكالية المطروحة بالتوازي مع تـوالي بسط كل جزئية ترتد في تكاملها مع باقي الأجزاء إلى تشكيل المادة العلمية التي تنصب عليها عمليات المقارنة والاستنتاج والنقد. لذلك نقترح بسط الرأي حول جزاء إلغاء التعرض (المطلب الأول)، ثم رفض التعرض (المطلب الثاني).
المطلب الأول : إلغـاء التعـرض
إن إلغاء التعرض من لدن المحافظ يرفع حالة النزاع المثارة بشأن العقار موضوع التحفيظ أو يحول دون قيامها أصلا، مما يفرض الاستمرار في إجراءات تأسيس الرسم العقاري متى توفرت كل الشروط الأخرى.
وإذا كان المحافظ ملزما بقبول التعرض متى كان مستوفيا للشروط القانونية وتم تقديمه خلال الأجل المحدد، فإن المشرع حتم عليه إلغاءه متى تأكد له عدم.
وهكذا رتب المشرع جزاء الإلغاء صراحة في حالة عدم تقديم المتعرض للوثائق والمستندات المدعمة لتعرضه وعدم أدائه للواجبات القضائية خلال الأجل القانوني (الفقرة الأولى)، كما يمكن توقع إلغاء التعرض استنادا لحكم قضائي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إلغاء التعرض لعدم تقديم الوثائق المؤيدة له وأداء الواجبات القضائية
اعتبر الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تعديله بالقانون 14.07 أن التعرض يكون لاغيا وكأن لم يكن إذا لم يقدم المتعرض السندات والوثائق المؤيدة لتعرضه ولم يؤد الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو يثبت حصوله على المساعدة القضائية خلال أجل شهر يحتسب من تاريخ انتهاء أجل التعرض.
من خلال هذا النص يتضح أن ق 14.07 عمل، من جهة، على تسريع إجراءات البت في التعرض من قبل المحافظ على العقارية كنتيجة لحصر العناصر الموجهة لتقرير جزاء الإلغاء (أولا)، وكذا تقييد السلطة التقديرية للمحافظ في تقرير الإلغاء، من جهة أخرى (ثانيا).
أولا: حصر العناصـر التي ينبني عليها تقرير جزاء الإلغـاء في ظل (ق. 14.07)
في ظل ظهير التحفيظ العقاري قبل صدور تعديله بالقانون رقم 14.07 كان للمحافظ العقاري أن يقبل التعرض المقدم دون إيداع ما يؤيده من وثائق ويعمل على تقييده في سجل خاص، ثم له أن يوجه إنذارا للمتعرض بأن يقدم ما بيده من حجج مدعمة لتعرضه خلال أجل ثلاثة أشهر، بعدها يمكنه القيام بالتحري حول جدية التعرض وإجراء بحث بشأنه، وتبقى له الصلاحية حينها في إلغاء التعرض أو قبوله رغم غياب مؤيداته. أما بالنسبة للرسوم القضائية فقد كان للمحافظ على الأملاك العقارية أن يعمل على تخفيض قيمتها بناءً على طلب المتعرض، بعد إنذاره بضرورة تقديمها خلال نفس الأجل السابق تحت طائلة اعتبار التعرض ملغى.
أما في ضوء النص الجديد بعد التعديل، فليس هناك ما يدل على إمكانية توجيه إنذار إلى المتعرض الذي لم يدلِ بحجج تعضد تعرضه، كما أن المشرع لم يوجه المحافظ إلى إجراء بحث حول التعرض ولا التحري بشأنه ولا النظر في إمكانية تخفيض الرسوم القضائية، بل إن جزاء الإلغاء يترتب تلقائيا تجاه التعرض الذي لم يؤيده صاحبه بالوثائق اللازمة ولم يؤد بشأنه الرسوم بمجرد انصرام أجل الشهر المحدد في الفصل 32 من ظ. ت. ع. كما تم تعديله. ولا يبقى للمحافظ إلا التشطيب عليه. مما يعني أن جزاء الإلغاء أصبح يتحدد في ضوء عنصر أساسي متمحور حول وجود أو عدم وجود الوثائق وأداء الرسوم خلال أجل محدد، دون توجيه النظر لعناصر أخرى يُـرجى تحصيلها من خلال إجراء بحث أو تحرٍ من قبل المحافظ، أو فتح الباب من جديد لاتخاذ إجراءت أخرى كتوجيه إنذار لحث المتعرض على تدعيم تعرضه، تلمسا لتوسيع فرص قبوله. وإذا كان من شأن هذه التعديلات أن تسرع مسطرة التحفيظ من خلال حذف بعض الإجراءات وتقليص إمكانات قبول التعرضات خاصة الكيدية منها تجنبا لإطالة أمد النزاع، فإنها تعبر عن تبني المشرع لمقاربة تكرس النظر للتعرض كإجراء استثنائي عارض ينبغي عدم التوسع في فتح المجال أمامه، في مقابل تشديد الإجراءات على مقدمه. وهذا يزكي المقاربة التي اعتمدها القضاء منذ عقود باعتبار المتعرض في موقع المدعي في مواجهة طالب التحفيظ من زاوية عبء الإثبات.
إن الرؤية المعتمدة من المشرع من شأنها أن تقلص الضمانات الممنوحة للمتعرضين، وتمنح مطلب التحفيظ حصانة أكبر ضد كل من يدعي عكس ما هو مضمن فيه من ادعاءات، بما قد يؤدي إلى ضياع الحقوق على أصحابها بعد أن يُـوَاجَهُـوا بالحجية المطلقة لرسم التحفيظ بشأن الحقوق المضمنة فيه. وهذا الاستنتاج يأخذ مشروعية أكثر، بالنظر لتقييد صلاحيات المحافظ في تقرير الإلغاء كما سنتطرق له فيما سيأتي.
ثانيا: تقييد السلطة التقديرية للمحافظ على الأملاك العقارية عند البت في التعرض
إن حصر العناصر الموجهة لتقرير حكم الإلغاء في ظل ضوء القانون رقم 14.07 كما بسطنا موقفنا حوله من خلال الفقرة الأولى يترتب عنه بشكل مباشر تقييد سلطة المحافظ عند البت في التعرضات، لذلك جاءت الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ. ت. ع بصيغة حاسمة حول تقرير جزاء الإلغاء بالنسبة للتعرض الذي لم يُـؤَيد بما يثبت جديته خلال أجل شهر، حيث اعتبرته "لاغيا وكأن لم يكن"، وهذه الصيغة تناقض تماما ما كان منصوصا عليه بالفصل 32 قبل تعديله حيث كان يعطي صراحة للمحافظ على الأملاك العقارية السلطة التقديرية في إلغاء التعرض أو قبوله بالرغم من عدم تقديم الوثائق المطلوبة بشأنه. إضافة إلى أن صيغة "يعتبر لاغيا وكأن لم يكن" توحي بأن الإلغاء هنا مقرر بقوة القانون دون الحاجة لصدور قرار بذلك من المحافظ الذي لا يبقى له الخيار في قبول التعرض، مما يوحي بعدم قابلية الإلغاء المقرر هنا لأي طعن.
إن فهم هذه الصيغة بمعنى عدم قابلية هذا الإلغاء لأي طعن، من شأنه أن يسرع المسطرة أكثر، حيث يمضي المحافظ في هذه الحالة إلى تأسيس الرسم العقاري بمجرد انصرام أجل الشهر المحدد لتقديم والوثائق وأداء الرسوم، أما في ظل المقتضيات الملغاة، فإن الطعن في قرار الإلغاء كان يحتم على المحافظ انتظار صدور الحكم البات في دعوى الطعن قبل مواصلة إجراءات التحفيظ.
لكن مسايرة هذا الفهم القائل بحصانة الإلغاء المقرر في هذه الحالة من الطعن القضائي قد يؤدي إلى نتائج خطيرة بما أنه يرفع عن تشطيب التعرض، الذي يقوم به المحافظ ترتيبا على إلغائه، كل رقابة من زاوية تقدير ما إذا كان صادرا عن تعسف أو شطط. لذلك فالأولى أن نقول بقابلية قرار التشطيب على التعرض لعدم تقديم مؤيداته، للطعن باعتباره قرارا إداريا، لأن هذا مما يحصن مصالح المتعرض ويضمن له الحق في رفع كل تعسف أو تجاوز للنصوص القانونية صادر عن المحافظ.
ونعتقد أن المتعرض الذي لم يتمكن من الإدلاء بالوثائق المؤيدة لتعرضه لأسباب مانعة ولم يؤد الرسوم القضائية خلال الأجل المحدد، يستطيع أن يتقدم إلى المحافظة العقارية بعد انصرام هذا الأجل وقبل توجيه الملف إلى المحكمة ويدلي بما توفر عنده من مستندات ووثائق ويؤدي الرسوم القضائية وحقوق المرافعة، حيث يمكن للمحافظ أن يقبل تعرضه هذا في إطار الاستثناء المقرر بالفصل 29 (من ظ. ت. ع)، إذا أدلى بما يبرر تخلفه عن تقديم الوثائق المؤيدة لتعرضه خلال الأجل المقرر لذلك، لأن هذا مما تقتضيه مصلحة المتعرض، ويقره المنطق من حيث أن اعتبار التعرض الخالي مما يؤيده "كأن لم يكن" يوجب تنزيله منزلة العدم، وهذا يقتضي أن تُماثِـلَ الآثار التي يُواجَه بها المتخلف عن تقديم تعرضه خلال الأجل تلك التي يُواجَـه بها مقدم التعرض الملغى لخُـلُوًّه مما يؤيده رغم وقوعه داخل الأجل، وذلك بإتاحة الفرصة أمام كُـلٍّ منهما لقبول التعرضات المقدمة من قِـبَلِهما في إطار وضمن الشروط المقررة بالفصل 29 السالف ذكره.
الفقرة الثانية: إلغاء التعرض بناءً على منطوق حكم قضائي قصى بعدم صحته.
قد يقبل المحافظ على الأملاك العقارية تعرضا ما نظرا لاستيفائه كل الشروط القانونية المطلوبة، وبعد إحالته ترتيبا على ذلك إلى نظر القضاء يصدر حكم نهائي يقضي بعدم صحته، وهذا يعني أن المحكمة المعروض عليها النزاع قد فحصت من الزاوية الموضوعية الادعاءات المضمنة بالتعرض والوثائق المقدمة لإثباتها ونظرت في وجود الحقوق المدعى بها ونطاقها ومشتملاتها فتأكد لها عدم صحتها، فلا يبقى للتعرض وجود بعد ذلك. مما يحتم على المحافظ على الأملاك العقارية، وبعد أن يحال عليه الأطراف للعمل بقرار المحكمة المكتسب لقوة الشيء المقضي به، أن يقوم بالتشطيب على التعرض المحكوم بعدم صحته ويسقطه من نظره ويعتبره ملغى، ثم يمضي في ضوء هذه النتيجة إلى دراسة مطلب التحفيظ الذي يبقى له وحده النظر في قبوله أو رفضه كلا أو بعضا[2].
وعلى المحافظ قبل مواصلة المسطرة أن يتأكد من اكتساب الحكم المقرر لعدم صحة التعرض لقوة الشيء المقضي به، لذلك يجب أن يتوصل بنسخة تنفيذية من الحكم الصادر مصحوبة بشهادة بعدم الاستئناف أو بعدم الطعن بالنقض واستنادا إلى هذه الوثائق يتخذ قرارا بالتشطيب على التعرض[3].
أما في حالة الحكم بصحة التعرض على مطلب التحفيط، فإذا كان جزئيا أسقط المحافظ من نظره الأجزاء المحكوم بصحة التعرض بشأنها، واقتصر على النظر في الأجزاء غير المتعرض عليها، حيث له أن يقوم بتحفيظها في حالة عدم وجود تعرضات أخرى وبعد التأكد من توافر الشروط القانونية المطلوبة لتأسيس الرسم العقاري. أما إذا كان التعرض المقضي بصحته كليا شاملا لكل العقار، فلا يبقى أمام المحافظ في هذه الحالة إلا اتخاذ قرار بإلغاء مطلب التحفيظ.
لكن السؤال المطروح هنا هل يكتسب صاحب التعرض المحكوم بصحته صفة طالب التحفيظ بالنسبة للحقوق المعترف له بها ؟ أم إن الخيار يُـتْرك له من أجل تقديم مطلب تحفيظ بهذا الخصوص؟
إن مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 37 الملغاة بالقانون 14.07 لم تكن تعتبر الحكم الصادر بصحة التعرض بمثابة مطلب ضمني بتحفيظ العقار باسم المتعرض، بل تلزم المتعرض الراغب في ذلك بتقديم مطلب تحفيظ جديد، حيث يمكن أن يتأتى له ذلك بعد القيام بكل الإجراءات العادية و"بعد النشر لمدة أربعة أشهر بالجريدة الرسمية والتعليق والقيام بالاستدعاءات القانونية ومراجعة التحديد أثناء آجال النشر".
أما الفقرة الأخيرة من الفصل 37 حسب صياغته الجديدة، فاكتفت بتوجيه المحافظ إلى القيام بإعلان الحقوق المحكوم بها وفق الشروط والشكليات المنصوص عليها في الفصل 83 الذي ينص أن كل حق وقع إنشاؤه أو تغييره أو الإقرار به أثناء مسطرة التحفيظ يمكن نشره بالجريدة الرسمية بناء على طلب صاحبه بعد أن يودع بالمحافظة العقارية الوثائق التي تثبت هذا الحق، ويترتب عن هذا الإجراء اكتسابه لصفة طالب التحفيظ في حدود الحق المعترف له به، وتتابع المسطرة بصفة قانونية مع أخذ هذا الحق بعين الاعتبار.
إن التفسير الواسع لمستجدات الفصل 37 المعدل يدفع للنظر إلى حذف الفقرة الأخيرة من هذا الفصل كما منصوص عليها في ظهير التحفيظ والتي لم تكن تقر للمتعرض المحكوم له بصحة تعرضه صفة طالب التحفيظ تلقائيا، من جهة، وتعويضها بإحالة الفصل 37 المعدل بالقانون 14.07 على مقتضيات الفصل 83 (من ظ.ت.ع) الذي أوردنا مقتضياته أعلاه، من جهة أخرى، قد يدل على اتجاه نية المشرع إلى إكساب المتعرض المحكوم له بصحة تعرضه لصفة طالب التحفيظ تلقائيا بعد قيام المحافظ على الأملاك العقارية بنشر الحقوق المعترف بها بالجريدة الرسمية، حيث تتابع مسطرة التحفيظ وفق الإجراءات العادية. وهذا الفهم، مما يساير أهداف المشرع بتسريع وتبسيط إجراءات التحفيظ، ومما يستلـزمه مسايرة حرص السلطات على تشجيع أصحاب العقارات على تحفيظها بغاية ضمان استقرار المعاملات، لأن ترك المتعرض حرا في تقديم مطلب بالتحفيظ من عدمه قد يدفعه للتقاعس عن هذا الأمر، وبالتالي تضييع فرصة تحصين حقه بآثار الحجية المطلقة للرسم العقاري بعد تأسيسه.
لكن هذا الفهم الواسع قد يحمل النص القانوني في هذه الحالة ما لا يحتمل، لأن الاعتراف بصفة طالب التحفيظ لصاحب التعرض المقضي بصحته قد تطرح العديد من الإشكالات العملية التي لا يجيب عليها الفصلين المذكورين، وعموما فالأمر متروك لاجتهاد القضاء ونظر الفقهاء من أجل استجلاء النية المفترضة للمشرع بخصوص هذه النقطة.
الـمطلب الثانـي: اتخـاذ الـمحافظ لقـرار رفـض التعـرض.
ينص الفصل 27 من ظهير التحفيظ العقاري كما تم تتميمه وتغييره بالقانون 14.07 على أن التعرض لا يُـقبل بعد انصرام أجل الشهرين المحدد لتقديم التعرضات وفق الفصل 23 من نفس الظـهير، باستثناء ما هو منصوص عليه في الفصل 29. وبالاطلاع على هذا الفصل نستنتج أن المشرع من خلال القانون رقم 14.07 قد حدد مجموعة من العناصـر التي ينبغي أن يأخذها المحافظ بعين الاعتبار عند اتخاذه لقرار رفض التعرض المقدم خـارج الأجل (الفقرة الأولى)، مما يدفعنا للتساؤل في ضوء هذا الاستنتاج عن حدود الرقابة القضائية على القرارات التي يتخذها المحافظ بهذا الشأن(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: العناصر التي ينبنـي عليها قرار المحافظ بشأن التعرض المقدم خارج الأجل
إذا كـان الفصل 27 من ظ. ت. ع. قد منع المحافظ على الأملاك العقارية من قبول التعرض المقدم خارج الأجل، فإن الفصل 29 من نفس القانون قد أتاح هذا القبول على سبيل الاستثناء محددا مجموعة من العناصر الموجهة لقرار المحافظ بهذا الخصوص. ينص الفصل 29 على أنه "بعد انصرام الأجل المحدد في الفصل 27 أعلاه يمكن أن يقبل التعرض بصفة استثنائية من طرف المحافظ على الأملاك العقارية، ولو لم يرد على مطلب التحفيظ أي تعرض سابق شريطة ألا يكون الملف قد وجه إلى المحكمة الابتدائية.
يتعين على المتعرض أن يدلي للمحافظ على الأملاك العقارية بالوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم تعرضه داخل الأجل، وبالعقود والوثائق المدعمة لتعرضه كما يتعين عليه أن يؤدي الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو يثبت حصوله على المساعدة القضائية..." .
بقراءة هذا الفصل يتضح أن للمحافظ السلطة التقديرية في اتخاذ قراره بقبول التعرض المقدم خارج الأجل أو رفضه، لكن هذه السلطة ليست مطلقة، بل مقيدة بمجموعة من الضوابط التي إذا ما عملنا على محاولة فهمها في ضوء الفصل 27 الذي يجعل قبول التعرض في الحالة السابقة استثناءً، تصير باعتماد مفهوم المخالفة للفصل 29، مؤشرات يتخذ المحافظ على الأملاك العقارية قراره بالرفض في ضوئها، وعليـه فقرار رفض التعرض يمكن أن يتحقق في حالة توجيه الملف إلى المحكمة (أولا)، كما يمكن أن ينبني على عدم إدلاء المتعرض بالوثائق التي تبرر تخلفه عن تقديم تعرضه داخل الأجل (ثانيا)، أو عدم الإدلاء بالوثائق والواجبات القضائية عند التقدم بالتعرض (ثالثا).
أولا: توجيه الملف إلى المحكمة
جعل المشرع المغربي من خلال التعديلات التي أتى بها القانون 14.07 المحافظ على الأملاك العقارية الجهة الوحيدة التي تختص بالنظر في التعرض الاستثنائي بعد أن اعتبر قبوله لا يتم إلا بتوفر شرط عدم توجيه الملف إلى المحكمة، مما يعني سحب الاختصاص الذي كان قائما للنيابة العامة، في ظل ظهير التحفيظ العقاري قبل نشر تعديله، في إصدار قرار بقبول التعرض كما كان منصوصا عليه في النص الملغى. فقد نص الفصل 29 أن التعرض يمكن أن يقبل استثناءً خارج الأجل شريطة ألا يكون الملف قد وُجِّـه إلى المحكمة، فباعتماد المفهوم المخالف لهذا النص يتضح أن المحافظ على الأملاك العقارية لا يبقى له خيارا بشأن التعرض إلا اتخاذ قرار برفضه دون انتظار إذن النيابة العامة الذي كان يسمح استثناءً بقبوله، وذلك في الحالة التي يكون قد قام مسبقا ببعث ملف التحفيظ إلى المحكمة. وفي هذه الحالة يتقرر الرفض بغض النظر عن توفر المتعرض على العقود المؤيدة لادعائه أو إدلائه بالوثائق الدالة على الأسباب التي منعته من تقديم التعرض خلال الأجل، فلا يقوم المحافظ على الأملاك العقارية تبعا لذلك بتسلم هذه الوثائق ولا فحصها أو استخلاص الرسوم القضائية وحقوق المرافعة، لأن المشرع كان حاسما بهذا الخصوص وجعل توجيه الملف إلى المحكمة مسقطا لحق الراغب في التعرض من أجل التدخل في مسطرة التحفيظ.
وإذا كان الهدف من التعديل المذكور يهدف إلى تسريع مسطرة التحفيظ من خلال التضييق من نطاق قبول التعرضات الاستثنائية، والمساعدة على البت بشكل أفضل في نزاعات التحفيظ أمام المحاكم[4]. فإنه يقلص من الضمانات الممنوحة للأفراد من أجل الدفاع عن حقوقهم التي قد تضيع بسبب تأسيس الرسم العقاري ذي القوة التطهيرية المطلقة، بعد تفويت إمكانية التعرض عليهم عند توجيه الملف إلى المحكمة، وقد تكون للمتخلف عن تقديم التعرض خلال الأجل القانوني مبرراته وأعذاره المقبولة التي منعته من ذلك، مع توفره على كل العقود والوثائق المؤيدة لادعائه، فكان من الأولى أن يتاح التعرض حتى في هذه الحالة، خاصة وأن هذا بعث الملف إلى المحكمة يفيد أن تعرضات سابقة قد تمت على مطلب التحفيظ، وبالتالي لا غضاضة في قبول تعرضات جديدة على نفس المطلب، ما دام أن انتقال المسطرة إلى المرحلة القضائية قد أصبح واقعا بعد عرض الملف أمام المحكمة.
ثانيا: عدم إدلاء المتعرض بالوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم التعرض داخل الأجل
من التعديلات التي أدخلها القانون 14.07 على الفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري تنصيصه على إلزام المتعرض خارج الأجل ببيان الأسباب التي منعته من تقديمه لتعرضه داخل الأجل القانوني، ولا يكفي أن يتم ذكر هذه الأسباب مشافهة بل ينبغي الإدلاء بالوثائق المبينة لهـا، وهو أمر صعب التحقق من الناحية العملية، إذ غالبا ما لن يتيسر للمتعرض الحصول على وثائق مكتوبة أو محمولة على دعامة أخرى تشهد على الأسباب المبررة لتخلفه عن القيام بهذا الإجراء داخل الأجل. إن اعتبار قبول التعرض خارج الأجل لا يتم إلا على وجه الاستثناء يقتضي من المحافظ أن يرفض التعرض في كل الأحوال التي لا يبرر فيها المتعرض تخلفه بالوثائق المذكورة، دون النظر في العقود والسندات التي يقدمها المتعرض تأييدا للطلب. لكن فهم هذا المقتضى في ضوء مراعاة مصلحة المتعرضين وحماية الحقوق لفائدة أصحابها، يستتبع التأكيد على ضرورة توخي المحافظ على الأملاك العقارية للمرونة اللازمة عند تقديره لكفاية الوثائق المدلى بها والأسباب المتذرع بها من قِـبل صاحب التعرض الاستثنائي، بل حَرِيُّ به أن يوجه تركيز نظره على ما بيد هذا الأخير من سندات وعقود مدعمة للادعاءات المضمنة بالتعرض، فهي الجديرة بالاعتبار عند اتخاذه لقراره بالقبول أو الرفض، لأن الأخذ بالحكم السابق قد يجعل المحافظ يقبل تعرضا لا تضاهي الحجج والبراهين المقدمة فيه تلك التي تقدم بها متعرض آخر رفض طلبه[5]. و لا يعقل أن يحرم صاحب الحق من إمكانية الدفاع عن مصالحه أمام القضاء في مواجهة طالب التحفيظ، لمجرد أن أسبابـا حالت دون تقديمه لتعرضه داخل الأجل من غير أن يتمكن من الحصول على وثائق تثبت هذا الأسباب، فهذا مما يتنافى مع قواعد العدالة. أما تحقيق السرعة والفعالية التي اتخذها المشرع شعارا لسن هذه المقتضيات، فلا ينبغي أن يتم على حساب مصالح الأشخاص وحقوقهم.
ثالثا : عدم تقديم الوثائق المدعمة للتعرض وأداء الواجبات القضائية
ألزمت الفقرة الثانية من الفصل 29 من (ظ. ت. ع.) المتعرض خارج الأجل بتقديم العقود والسندات المؤيدة لتعرضه وأداء الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو الإدلاء بما يثبت حصوله على المساعدة القضائية، وهذه من الأمور البديهية المتطلبة في كل التعرضات ولو كانت داخل الأجل تحت طائلة اعتبارها لاغية[6]. إلا أن استثنائية المقتضيات الواردة في الفصل السابق والصيغة التي جاءت بها توجب القول بأن المتعرض يلزم بتقديم السندات المذكورة في الحال مرفقة بطلب التعرض دون أن يستفيد من أي أجل إضافي أو تأخير، على عكس المتعرض داخل الأجل الذي يستفيد من كامل المدة التي تسبق انتهاء أجل الشهر الموالي لانصرام أجل التعرض، من أجل تقديم مؤيداته.
لذلك فللمحافظ على الأملاك العقارية أن يرفض دون تساهل، كل التعرضات التي لم يرفقها صاحبها بما يؤيدها من سندات وواجبات قضائية، وعلى المتعرض أن يتحمل نتائج إهماله.
ونعتقد أن إمكانية التعرض خارج الأجل تُـفْتَح في وجه المتعرض الذي تقرر إلغاء تعرضه المقدم داخل الأجل لعدم تقديم الوثائق المؤيدة لتعرضه وعدم أدائه الواجبات القضائية خلال المهلة المحددة قانونا، وذلك إذا استدرك هذا النقص وأدلى بما توفر لديه من سندات وعقود، مع تقديمه الوثائق المبينة للأسباب التي منعته من تقديم هذه السندات خلال أجل التعرض، ويمكن للمحافظ أن يقبل تعرضه ما دام الملف لم يوجه إلى المحكمة، إذا تحققت كل الشروط الأخرى[7].
الفقرة الثانية: محدودية الرقابة القضائية على قرارات المحافظ بشأن البت في التعرض المقـدم خارج الأجـل.
تتضح هذه المحدودية بالنظر لعدم قابلية قرار المحافظ برفض التعرض للطعن القضائي (أولا)، ثم لعدم صلاحية المحكمة المحال عليها الملف بالبت في ملاءمة قرار المحافظ بشأن التعرض خارج الأجل (ثانيا).
أولا: عدم قابلية قرار الرفض للطعن.
تنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري أن قرار المحافظ برفض التعرض لا يقبل الطعن القضائي، وهذه من المستجدات التي نص عليها القانون 17.04 والتي أثارت انتقادات فقهية مبالغ فيها استنادا لكونها تشجع بعض المحافظين على الشطط في استعمال السلطة ما دام المحافظ على الأملاك العقارية، في نظر البعض، تبقى له السلطة التقديرية المطلقة ليقرر مدى أحقية المتعرض في قبول تعرضه من عدمه[8]، لكن وإن كنا نتفق بخصوص النتيجة التي استخلصها هذا الرأي، فإننا لا نعتقد بالأسس التي قامت عليها، لأن المحافظ ليست له سلطة تقديرية مطلقة عند البت برفض التعرض الاستثنائي، إذ هو مقيد بالعناصر التي استخلصناها في الفرع السابق تأسيسا على المفهوم المخالف لمقتضيات الفصل 29 (ظ. ت.ع.) والتي تشكل ضوابط ترشد المحافظ إلى اتخاذ قراره في ضوئها. أما التعسف في استعمال السلطة الذي قد يرتكبه المحافظ فإن تحققه يتأسس على عدم احترام هذه الضوابط ومخالفة القواعد القانونية بشأنها، لا على ما أعطاه المشرع من سلطة تقديرية مطلقة، كما يعتقد البعض.
وبغض النظر عن الانتقادات السالفة، يمكن أن نستخلص بعض الأسس التي تبرر النص على حصانة قرار الرفض من لدن المحافظ من الطعن القضائي من خلال ما يلي:
- محاولة المشرع الانضباط لمتطلبات الانسجام مع مقتضيات الفصل 27 (ظ. ت. ع) التي تقرر للتعرض المقدم خارج الأجل طابعا استثنائيـا، مع ما يعنيه هذا من ضرورة التقييد من حالات قبوله، وتوخي الصرامة ضد مقدمه الذي أهمل القيام بما يلزم لحفظ حقه خلال الآجال القانونية المحددة لذلك.
- إنه ليس من المستساغ أن يتم عرقلة مسطرة التحفيظ لمجرد رفض تعرض استثنائي تشير القرائن إلى عدم جديته تأسيسا على إهمال صاحبه تقديمه خلال الأجل، خاصة وأن اتباع إجراءات الطعن قد يؤدي إلى تمديد المسطرة زمنيا، ما دام المحافظ سيؤجل البت في مطلب التحفيظ إلى حين صدور الحكم القضائي بشأن دعوى الطعن.
- إن التعرض في إطار الفصل 29 من ظ. ت.ع ، يبقى استثناءً مقررا في حقيقته لمصلحة المتعرض تلمسا لإتاحة الفرصة من جديد لقبول تعرضه حفاظا على حقوقه، وعليه ليس مقبولا أن تتحول هذه الضمانة الاستثنائية، في مقابل ذلك، إلى سبب في تضرر طالب التحفيظ بعد إتباع إجراءات الطعن، فهدف القانون هو تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة في إطار تحقيق الاستقرار وإشاعة الثقة في سلطة القانون التي تحفظ لكل حقه.
- إن فتح إمكانية الطعن في قرار المحافظ في الحالة السابقة قد يؤدي إلى نتائج خطيرة إذا تم استغلاله من طرف سيئي النية ومنعدمي الضمير، بأن يُـقْدِمُوا على تقديم تعرضات واهية الحجج خارج الأجل رغم تأكدهم من رفضها من طرف المحافظ، ثم يعمدون إلى الطعن في هذا الرفض، وهذا ينتج عنه تعطيل مسطرة التحفيظ، ليكون الهدف الأساسي من سلوكهم هذا هو زيادة أعباء طالب التحفيظ وعرقلة مسطرة تحفيظه لعقاره. وتفاديا للغرامات التي قد تُـفرض ضدهم إذا تم تكييف تعرضاتهم بأنها تعسفية أمام المحكمة،فإنهم قد يلجأون إلى التعرض على أجزاء تافهة من العقار أو على حقوق هزيلة القيمة للإنقاص من قيمة الغرامة في حالة فرضها. ثم إن الحكم بالغرامة ليس محققا في كل الأحوال، فقد لا تستخلص المحكمة العناصر التي تمكنها من تكييف التعرض بأنه كيدي أو تعسفي.
لقد كان هدف المشرع من خلال هذا النص هو تحقيق السرعة في إتمام مسطرة التحفيظ بالتقليل من فرص التعرض على مطالب التحفيظ لتفادي الانتقال إلى المرحلة القضائية مع ما يستتبع ذلك من عرقلة للمسطرة العادية وتأخير في تأسيس الرسم العقاري. لكنه أغفل المبادئ العامة التي تجيز الطعن في كل القرارت التي يصدرها المحافظ، باعتباره جهة إدارية، وهذه الصفة الإدارية تُعَزِّز أكثر الطرح القائل بأهمية هذا الطعن، خاصة وأن المجلس الأعلى في قرارات سابقة أيد هذا الاتجاه : "وحيث من المعلوم أن المحافظ باعتباره سلطة إدارية تكون قراراته قابلة للطعن مبدئيا بالإلغاء، إلا في الحالة التي توجد فيها دعوى موازية أمام القضاء العادي وهي حالات محددة على سبيل الحصر"[9]. بل إن البعض[10] يعتبر الفقرة الأخيرة من الفصل 29 المذكور تتضمن خرقا للمبادئ المسطرة بالدستور، وخاصة الفصل 118 منه الذي ينص أن حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون. لهذا كان من الأفضل ترك باب الطعن مفتوحـا أمام المتعرض الذي رُفِض تعرضه، من خلال مسطرة مبسطة وسريعة مقرونة بآجال قصيرة ومحددة، نقترح أن يكون فيها لرئيس المحكمة الابتدائية اختصاص البت في هذه الطعون في إطار القضاء الاستعجالي، ويكون قرار رئيس المحكمة في هذه الحالة غير قابل لأي طعن. وبهذا تصان حقوق المتعرضين وتتحقق السرعة والفعـالية المطلوبة.
لكن السؤال يبقى مطروحـا حول ما إذا كان قرار المحافظ بقبول التعرض المقدم خارج الأجل يقبل الطعن فيه من لدن طالب التحفيظ ؟
إن اعتماد المفهوم المخالف للصيغة الحرفية لنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 التي تنص "أن قرار المحافظ برفض التعرض لا يقبل الطعن القضائي"، يفضي للاستنتاج أن هذا الطعن يكون ممكنا ضد قرار قبول التعرض خارج الأجل من لدن صاحب المصلحة. لأن المشرع لو أراد منع هذا الطعن لنص على ذلك صراحة أو على الأقل استعمل صيغة عامة كتلك التي كان منصوصا عليها في مشروع القانون 14.07 عند عرضه أول مرة على اللجنة البرلمانية المكلفة: " يكون قرار المحافظ في هذه الحالة غير قابل للطعن القضائي"، دون تخصيص هذا الحكم بقرار القبول فقط.
وهذا الفهم مما ينسجم مع ما يترتب عن الطابع الاستثنائي لقبول التعرض المقدم خارج الأجل، خصوصا أن التوسع في هذا القبول قد يؤدي إلى المساس بحقوق طالب التحفيظ ويؤجل إجراءات تأسيس الرسم العقاري. إلا أن هذا المقتضى يكشف بوضوح الإخلال بالتوازن المطلوب بين الحقوق والضمانات الممنوحة لكل من طالبي التحفيظ والمتعرضين، بما أنه يتيح الطعن للبعض دون الآخر بالنسبة لقرارات المحافظ بشأن التعرض خارج الأجل.
وتجاوزا لهذا الاختلال، رأى البعض في ظل النص الملغى أن هذا القبول، على العكس من ذلك، لا يكون موضوعا لأي طعن لأنه مخول للمحافظ في كل الحالات التي لا يكون الملف قد وجه إلى المحكمة[11].
ثانيا: عدم اختصاص المحكمة المقامة أمامها دعوى التعرض بالنظر في ملاءمة قرار الرفض.
قد يقبل المحافظ على الأملاك العقاري تعرضا تم تقديمه خارج الأجل في إطار الاستثناء المقرر بالفصل 29 (ظ. ت. ع)، وترتيبا على ذلك يحيل ملف التحفيظ على المحكمة الابتدائية، فهل يحق لطالبي التحفيظ في هذه الحالة الدفع في مواجهة المتعرضين بكون التعرض موضوع الدعوى تم قبوله من لدن المحافظ خارج الأجل دون مراعاة الضوابط القانونية المنصوص عليها ؟
يجيب القضاء المغربي على هذا السؤال من خلال عدة قرارات : "لكن حيث إنـه في نطاق مسطرة التحفيظ العقاري يحال الملف من طرف محافظ الملكية العقارية على المحكمة الابتدائية لتبت في التعرضات المقدمة ضد مطلب التحفيظ من الناحية الموضوعية، ذلك أن قبول التعرضات أو عدم قبولها حسب تقديمها داخل الآجال القانونية أو خارجها يدخل في اختصاص المحافظ على الأملاك العقارية الذي يتولى تلقي التعرضات وتهييئها قبل إحالـة الملف على المحكمة المطعون في قرارها، فإنه لا يحق لها قانونا أن تفحص الآجال المتعلقة بتقديم التعرضات ضد مطلب التحفيظ وأنها تقتصر فقط على دراسة هذه التعرضات للتصريح بصحتها أو عدم صحتها موضوعيا" (المجلس الأعلى، قرار رقم 30، بتاريخ 14 أبريل 1981 / ملف إداري 36.907)[12].
وفي قرار آخر قضى بأن "قبول التعرض أو عدم قبولـه من اختصاص المحافظ وأن المحكمة تقضي في التعرضات المقدمة إليها من المحافظ عملا بالفصل 27 من ظهير التحفيظ العقاري"[13].
إن تبني القضاء المغربي لهذا الاتجاه من شأنه أن يحد أكثر من الرقابة القضائية المفروضة على المحافظ على الأملاك العقارية عند نظره في التعرض المقدم خارج الأجل، لكنه اتجاه سليم من زاوية انسجامه مع المبادئ العامة والنصوص القانونية المبلورة لخصوصية دعوى التعرض التي تهدف أساسا إلى فحص الادعاءات المضمنة فيه من الناحية الموضوعية بغاية تقرير صحته أو رفضه، دون النظر في شرعية قرار قبول التعرض الذي يبقى مجالا خاصا للمحافظ على الأملاك العقارية لا يخضع لرقابة المحاكم العادية.
إلا أن طالب التحفيظ في حال قبول التعرض خارج الأجل يستطيع أن يتقدم بالطعن ضد هذا القرار أمام المحكمة الإدارية إذا ما تبين له صدوره عن تعسف أو سوء تقدير من المحافظ، وهذا الرأي أقمناه على مفهوم المخالفة للفقرة لنص الفقرة الأخيرة من الفصل 29 (ظ. ت. ع) كما هو موضح سابقا من خلال العنوان السابق (أولا).
خاتمـة:
يتضح مما سبق أن المشرع اعتمد مقاربة غريبة في سعيه إلى تحقيق تبسيط وتسريع مسطرة التحفيظ، نظرا لأنها لا ترى مدخلا لتحقيق هذا الهدف إلا على حساب الإضرار بمصالح أحد الأطراف الأساسية المتدخلة في المسطرة وهو المتعرض. لذلك نقول إن القانون رقم 14.07 وإن كان من شأنه أن يحقق نسبيا تجاوز العديد من الإشكالات التي كانت قائمة في ظل تطبيق المقتضيات المنسوخة، فإنه سيكون سببا لإثارة مشاكل أخرى مرتبطة بما قد يمس أصحاب الحقوق من حيف بسبب صرامة الإجراءات المتعلقة بالتعرض. ولأن تحقيق العدالة المطلقة ليس مما يمكن أن يحققه أي قانون رغم سعيه إليه، فإن مستجدات القانون 14.07 تبقى خطوة إلى الأمام في مسار تطوير النصوص المطبقة على العقار، شريطة مواكبتها بالتعديلات المطلوبة مسايرةً لتغير الواقع الذي فرض صدورها، ومجاراةً لمتطلبات تجاوز الإشكالات العملية التي تثور أثناء تطبيقها، وهذا ما حتم صياغة المشرع لمشروع تعديل سريع على ظهير التحفيظ العقاري من أجل نسخ مقتضيات القانون 14.07 بشأن الشروط المطلوبة في المهندس المساح الطبوغرافي المختص بمباشرة عمليات التحديد والعمليات الهندسية اللاحقة، بمقتضى مشروع قانون رقم 57.12. إلا أن هذا التعديل السريع يكشف عن نوع من الارتجالية والارتباك وغياب الرؤية المؤسسة على معطيات مدققة عند صياغة النصوص القانونية .