تُعد الفترات الانتقالية من أصعب المراحل التي تمر بها الشعوب التي عانت من الظلم والصراعات المسلحة، والتي خلفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، لذلك تبنى المجتمع الدولي العدالة الانتقالية كآلية لمعالجة إرث الانتهاكات، وتعزيز الديمقراطية وسيادة القانون، وتشمل هذه الجهود إنشاء لجان تحقيق ومحاكم دولية، مثل محكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا، ودعم لجان تقصي الحقائق ومحاكم مختلطة كما في سيراليون وتيمور الشرقية، بهدف تعزيز المصالحة والوفاق الوطني في إطار العدالة من خلال إنشاء مجلس الأمن الدولي للجنة التحقيق في جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، ومبادرات أخرى ذات صلة بالأمم المتحدة، شملت تقديم الدعم للجان تقصي الحقائق والتحري الدقيق، وإنشاء محاكم مختلطة (محلية ودولية) في سيراليون، وكوسوفو، وتيمور الشرقية، وكمبوديا.
المفهـــــــوم
حاز مفهوم العدالة الانتقالية أهمية كبيرة ومتزايدة، من خلال استخدام الوكالات والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان له للتعبير عن واحدة من آليات بناء السلام، حيث عرفها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع بانها كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة الوطنية، فيما عرفها مشروع قانون العدالة الانتقالية اليمني رقم (بدون) لسنة 2014: بانها مجموعة الآليات والوسائل والتدابير المقررة بموجب هذا القانون لفهم ومعالجة آثار ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها والمسئولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية الشاملة ويحفظ الذاكرة الوطنية الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات مستقبلاً.
آليات العدالة الانتقالية
آليات العدالة الانتقالية تشمل وسائل قضائية وغير قضائية تهدف إلى معالجة إرث الانتهاكات وتحقيق العدالة والمصالحة، وتتضمن تقصي الحقائق، والملاحقات القضائية، وجبر الضرر، إضافة إلى إصلاحات دستورية وقانونية ومؤسسية لمنع تكرار الانتهاكات، كما تركز على تقوية المجتمع المدني، وتخليد الذكرى من خلال المبادرات الثقافية وصون المحفوظات، وإصلاح التعليم التاريخي، تسعى هذه الآليات لتوفير إطار شامل يضمن المساءلة، واستعادة الحقوق، وبناء سلام مستدام في المجتمعات التي عانت من انتهاكات جسيمة.
أهداف العدالة الانتقالية
تهدف العدالة الانتقالية إلى كشف الحقيقة بشأن انتهاكات الماضي، وجبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا أو ذويهم، وضمان تعويضهم، كما تسعى إلى بناء نظام يلتزم بالمعايير الدولية للعدالة، سواء من خلال إصلاح المؤسسات القائمة أو تأسيس أنظمة قانونية وقضائية وأمنية وإدارية جديدة، بهدف منع تكرار الانتهاكات مستقبلاً وتحقيق السلام والاستقرار المستدام.
العدالة والعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية ليست نوعاً مستقلاً من العدالة، بل هي تكييف لمفهوم العدالة ليناسب مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان، خلال فترة زمنية مؤقتة، تهدف إلى تعزيز الأمن وبناء الثقة واستعادة دولة القانون والديمقراطية، في بعض الحالات قد تُفضَّل خيارات كالصفح والعفو لإنهاء الصراعات وضمان الاستقرار، وذلك ضمن إطار زمني مؤقت يركز على التوازن بين المحاسبة والمصالحة.
التأسيس القانوني للعدالة الانتقالية
إن معالجة مشاكل المرحلة الانتقالية تُعد عملية سياسية، لكنها تحمل في طياتها طابعاً قانونياً، حيث يُترجم العمل السياسي من خلال نصوص وإجراءات قانونية، وعند النظر في مفهوم العدالة الانتقالية، يظهر جلياً أن هناك حاجة ماسة إلى مجموعة من الإجراءات والآليات القانونية لمعالجة الانتهاكات وضمان عدم تكرارها مستقبلاً.
يرى بعض الفقهاء أن الأساس القانوني للعدالة الانتقالية على المستوى الدولي يرتبط بنظريات كلاسيكية، مثل نظرية الظروف الطارئة التي تعتمد على مبادئ عامة لتغطية الأزمات، إضافة إلى مبدأ إغاثة المجتمعات في خطر وفكرة الاهتمام الدولي. ومن هذا المنطلق، يمكن الاستفادة من بعض وسائل الأمم المتحدة لحل النزاعات بطرق سلمية، كما ورد في المادة 33 من الميثاق، كما أن مجلس الأمن قد طور هذا المفهوم من خلال إصدار قرارات بموجب الفصل السابع في حالات الخروقات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقواعد حماية حقوق الإنسان، مثل القرارات المتعلقة يوغسلافيا وليبيا، أما على المستوى الوطني، فيستند الأساس القانوني إلى اتفاقات السلام التي تُعاد عليها بناء الدولة أو الاتفاقات السياسية التي تنظم المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى النصوص الدستورية، كما في مسودة دستور اليمن الجديد أو أي وثيقة أو ميثاق وطني خاص.
يعد قانون العدالة الانتقالية المرجعية القانونية التي تحدد معايير تشكيل هيئة العدالة الانتقالية ولجانها المتخصصة، بما في ذلك اختصاصاتها النوعية والزمنية، وظائفها، وآليات عملها، مع مراعاة الاعتبارات السياسية والثقافية، والتاريخية، والقانونية، والحقوقية، كما يأخذ القانون بعين الاعتبار قيم الديمقراطية وتطلعات الضحايا، وينبثق من مبادئ ومضامين فروع القانونين العام والخاص، مع مراعاة الاعتبارات الخاصة بالهيكلة والصياغة.
تعثر العدالة الانتقالية في اليمن
إن المتتبع لتاريخ اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي قبل قيام الوحدة وعقبها وانطلاق ثورة 11فبراير 2011 وانقلاب جماعة الحوثي في 21 سبتمبر 2014 الذي شهد العديد من الصراعات السياسية والعسكرية والتي
أسفر عنها العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
انطلقت العدالة الانتقالية في اليمن في نوفمبر 2011 بعد توقيع المبادرة الخليجية التي تضمنت وقف جميع أشكال الانتقام والملاحقة لرئيس الجمهورية وأركان نظامه من خلال إقرار قانون حصانة لهم، بالإضافة إلى تدابير لتحقيق المصالحة الوطنية وضمان عدم تكرار الانتهاكات المستقبلية. عقب صدور قانون الحصانة، أعدّت وزارة الشؤون القانونية المسودة الأولى لمشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في فبراير 2012، ولكنها لاقت معارضة من طرفي العملية السياسية، تركزت حول آليات تطبيق العدالة الانتقالية والفترة الزمنية التي يغطيها القانون، على إثر ذلك تم إحالة المشروع إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في يونيو 2012، وتم تعديل المسودة وتقديمها إلى مجلس النواب في 2013، ومع ذلك لم يتم التوافق عليه وسُحب في سبتمبر 2013 تنفيذاً للنقطة (17) من النقاط العشرين، التي نصت على ضرورة التسريع في إصدار قانون العدالة الانتقالية بالتوافق بين مكونات العملية السياسية، وما تضمنته مصفوفة الإجراءات التنفيذية المقدمة من اللجنة الفنية للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني.
ومع انطلاق مؤتمر الحوار الوطني في 18 مارس 2013، تم تقسيم قضايا الحوار الوطني على تسعة فرق، من بينها فريق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، والذي خرج بعدد من القرارات والنتائج والتوصيات التي استوعبتها لجنة صياغة الدستور في مسودة دستور اليمن الجديد وعملت وزارة الشؤون القانونية على بلورتها وإخراجها في مشروع قانون العدالة الانتقالية رقم () لسنة 2014، وان كان مشروع القانون لم يرى النور بعد حتى يومنا هذا، بسبب الأوضاع التي عاشتها وتعيشها اليمن، بيد انه تم إنشاء وتشكيل عدد من اللجان المتخصصة.
وبعد انقلاب جماعة أنصار الله على السلطة في سبتمبر 2014 وما ترتب عن ذلك من استمرار الصراع واحتدامه، وتعثر العدالة الانتقالية وما خلفه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وخطيرة للقانون الدولي الإنساني؛ يؤكد الحاجة الى الملحة الى إرساء قواعد العدالة الانتقالية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الجديد في اليمن الذي تجاوز ما كان مطروحاً من قبل وبرزت متطلبات جديدة ومختلفة عما كان في السابق.
تحديات العدالة الانتقالية في اليمن
تواجه عملية العدالة الانتقالية في اليمن التي أنهكتها ومزقتها الحروب في تعزيز سيادة القانون وتجاوز آثار الماضي واسعة النطاق، في ظل مؤسسات مدمرة وشحة الموارد وأمن منقوص وانقسام الشعب تحديات كبيرة من بينها: انعدام الإرادة السياسية للإصلاح، وانعدام الاستقلال المؤسسي داخل قطاع العدالة، وانقسام القوات والمسلحة والأمن واستحداث عناصر وتشكيلات مسلحة غير نظامية، وانعدام القدرة الفنية المحلية، والافتقار الى الموارد المادية والمالية، وانعدام ثقة الجمهور في الحكومة، وانعدام الاحترام الرسمي لحقوق الإنسان، وأخيرا انعدام السلام والأمن الإنساني.
العدالة الجنائية والعدالة التصالحية
العدالة الانتقالية تتخذ شكلين رئيسيين: الجنائية والتصالحيّة، في النموذج الجنائي، تُعتبر المساءلة والمحاسبة الجنائية آلية أساسية، تقتضي الالتزام بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، أما النموذج التصالحي، فيسعى إلى تعزيز التوافق الاجتماعي والسياسي، مما يسهم في تحقيق السلام واستقرار المجتمع، وبالتالي تتوازى الحاجة إلى المساءلة مع ضرورة بناء توافق مجتمعي لتحقيق السلام الدائم.
وبالعودة الى السياق التاريخي لليمن بشطريه الشمالي والجنوبي منذ عام 1962 وحتى يومنا فإنه قد تخلله العديد من الصراعات السياسية والعسكرية والتي أسفر عنها العديد من الانتهاكات، سعت الى معالجتها من خلال تغليب قيم التسامح والتصالح والسلم الاجتماعي وذلك بإصدار قوانين عفو شامل وقرارات عفو خاصة عن العقوبات الصادرة بحق المحكوم عليهم ومنح الحصانة التامة من الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس الأسبق علي عبد الله صالح ومن عمل معه خلال فترة حكمه، ووفقا للويس جواني، فإن منح العفو بعد إدانة شخص ما، إما لتخفيف الحكم، وإما لتمكين الشخص المدان من تفادي تنفيذ مدة العقوبة كاملة، لا يمكن أن يكون مقبولا فحسب، بل محبذا أيضا في عملية الانتقال كون الحكم القضائي يلبي المطالب ذات الصلة من أجل الحقيقة وإعادة التأهيل وإنصاف الضحايا.
وعلى النقيض من ذلك نهجت مسلك العدالة الجنائية في الانتهاكات المرتكبة منذ العام 2011 ويتضح ذلك جلياً من خلال قرار إنشاء اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان الذي اوجب عليها إحالة الملفات التي اكتمل التحقيق فيها الى النيابة العامة لاتخاذ اللازم، وما اوجبته مسودة دستور اليمن الجديد على الدولة باتخاذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وفق سياسة وطنية تتضمن عدم التنصل من المسؤولية عن الانتهاكات ووضع الية لمساءلة ومحاسبة الافراد والجماعات والمؤسسات المسؤولة عن هذه الانتهاكات، وما طرأ على الساحة من مستجدات عقب انقلاب جماعة أنصار الله على السطلة، وما ترتب على ذلك من انقسام السلطة القضائية وصدور أحكام قضائية ضد قيادات طرفي الصراع.
إن الأخذ بالمساءلة والمحاسبة الجنائية بشكل مفرط قد يهدد إمكانية إقامة السلام المستدام، وهو ما تحتاجه اليمن أكثر من حاجتها للعدالة الجنائية، وفي الوقت ذاته يحتاج المجتمع اليمني إلى الوقوف على حقيقة الانتهاكات التي وقعت في الماضي، والاعتراف بها وتوثيقها رسمياً، حتى يتمكن من استعادة كرامة الضحايا، وجبر الضرر، والمضي قدماً في عملية المصالحة الوطنية، وتحقيق السلام المنشود.
دور الأمم المتحدة في مجال العدالة الانتقالية
تلعب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان دوراً بارزاً في مجال العدالة الانتقالية من خلال تحديد المعايير وأفضل الممارسات، والمساعدة في تصميم وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية، كما تقدم الدعم الفني والمادي والمالي، وتعزز إدماج حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في اتفاقات السلام لضمان تنفيذها بفعالية ونجاح.
الطريق نحو السلام المنشود في اليمن
من خلال دراسة تجارب العدالة الانتقالية، وخصوصاً التجربة المغربية التي حققت نجاحاً ملموساً وأصبحت نموذجاً يُحتذى به بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، يتضح أن العدالة الانتقالية تساهم بشكل فعال في معالجة ماضي الانتهاكات والانقسامات، إذا تم تصميمها لتكون محددة السياق ومرتكزة على احتياجات الضحايا، فإنها تعزز التواصل بين المجتمعات وتحقق تحولاً إيجابياً في تصورات الأفراد حول وضعهم وأدوارهم كمستفيدين من العملية، مما يحقق تطوراً جوهرياً في بناء السلام والمصالحة المستدامة.
ختاماً، ينبغي أن تولي أي تسوية سياسية قادمة في اليمن أهمية كبيرة لتضمين أحكام العدالة الانتقالية بشكل جوهري، لضمان معالجة آثار الصراعات السياسية والعسكرية التي عانت منها البلاد. من خلال هذا النهج، يمكن تقليل احتمالات تكرار هذه الصراعات وتعزيز المصالحة الوطنية، مما يسهم في بناء سلام شامل، عادل، ومستدام، يعيد بناء الثقة ويعزز الاستقرار في المجتمع اليمني.
المفهـــــــوم
حاز مفهوم العدالة الانتقالية أهمية كبيرة ومتزايدة، من خلال استخدام الوكالات والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان له للتعبير عن واحدة من آليات بناء السلام، حيث عرفها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع بانها كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة الوطنية، فيما عرفها مشروع قانون العدالة الانتقالية اليمني رقم (بدون) لسنة 2014: بانها مجموعة الآليات والوسائل والتدابير المقررة بموجب هذا القانون لفهم ومعالجة آثار ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها والمسئولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية الشاملة ويحفظ الذاكرة الوطنية الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات مستقبلاً.
آليات العدالة الانتقالية
آليات العدالة الانتقالية تشمل وسائل قضائية وغير قضائية تهدف إلى معالجة إرث الانتهاكات وتحقيق العدالة والمصالحة، وتتضمن تقصي الحقائق، والملاحقات القضائية، وجبر الضرر، إضافة إلى إصلاحات دستورية وقانونية ومؤسسية لمنع تكرار الانتهاكات، كما تركز على تقوية المجتمع المدني، وتخليد الذكرى من خلال المبادرات الثقافية وصون المحفوظات، وإصلاح التعليم التاريخي، تسعى هذه الآليات لتوفير إطار شامل يضمن المساءلة، واستعادة الحقوق، وبناء سلام مستدام في المجتمعات التي عانت من انتهاكات جسيمة.
أهداف العدالة الانتقالية
تهدف العدالة الانتقالية إلى كشف الحقيقة بشأن انتهاكات الماضي، وجبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا أو ذويهم، وضمان تعويضهم، كما تسعى إلى بناء نظام يلتزم بالمعايير الدولية للعدالة، سواء من خلال إصلاح المؤسسات القائمة أو تأسيس أنظمة قانونية وقضائية وأمنية وإدارية جديدة، بهدف منع تكرار الانتهاكات مستقبلاً وتحقيق السلام والاستقرار المستدام.
العدالة والعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية ليست نوعاً مستقلاً من العدالة، بل هي تكييف لمفهوم العدالة ليناسب مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان، خلال فترة زمنية مؤقتة، تهدف إلى تعزيز الأمن وبناء الثقة واستعادة دولة القانون والديمقراطية، في بعض الحالات قد تُفضَّل خيارات كالصفح والعفو لإنهاء الصراعات وضمان الاستقرار، وذلك ضمن إطار زمني مؤقت يركز على التوازن بين المحاسبة والمصالحة.
التأسيس القانوني للعدالة الانتقالية
إن معالجة مشاكل المرحلة الانتقالية تُعد عملية سياسية، لكنها تحمل في طياتها طابعاً قانونياً، حيث يُترجم العمل السياسي من خلال نصوص وإجراءات قانونية، وعند النظر في مفهوم العدالة الانتقالية، يظهر جلياً أن هناك حاجة ماسة إلى مجموعة من الإجراءات والآليات القانونية لمعالجة الانتهاكات وضمان عدم تكرارها مستقبلاً.
يرى بعض الفقهاء أن الأساس القانوني للعدالة الانتقالية على المستوى الدولي يرتبط بنظريات كلاسيكية، مثل نظرية الظروف الطارئة التي تعتمد على مبادئ عامة لتغطية الأزمات، إضافة إلى مبدأ إغاثة المجتمعات في خطر وفكرة الاهتمام الدولي. ومن هذا المنطلق، يمكن الاستفادة من بعض وسائل الأمم المتحدة لحل النزاعات بطرق سلمية، كما ورد في المادة 33 من الميثاق، كما أن مجلس الأمن قد طور هذا المفهوم من خلال إصدار قرارات بموجب الفصل السابع في حالات الخروقات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقواعد حماية حقوق الإنسان، مثل القرارات المتعلقة يوغسلافيا وليبيا، أما على المستوى الوطني، فيستند الأساس القانوني إلى اتفاقات السلام التي تُعاد عليها بناء الدولة أو الاتفاقات السياسية التي تنظم المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى النصوص الدستورية، كما في مسودة دستور اليمن الجديد أو أي وثيقة أو ميثاق وطني خاص.
يعد قانون العدالة الانتقالية المرجعية القانونية التي تحدد معايير تشكيل هيئة العدالة الانتقالية ولجانها المتخصصة، بما في ذلك اختصاصاتها النوعية والزمنية، وظائفها، وآليات عملها، مع مراعاة الاعتبارات السياسية والثقافية، والتاريخية، والقانونية، والحقوقية، كما يأخذ القانون بعين الاعتبار قيم الديمقراطية وتطلعات الضحايا، وينبثق من مبادئ ومضامين فروع القانونين العام والخاص، مع مراعاة الاعتبارات الخاصة بالهيكلة والصياغة.
تعثر العدالة الانتقالية في اليمن
إن المتتبع لتاريخ اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي قبل قيام الوحدة وعقبها وانطلاق ثورة 11فبراير 2011 وانقلاب جماعة الحوثي في 21 سبتمبر 2014 الذي شهد العديد من الصراعات السياسية والعسكرية والتي
أسفر عنها العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
انطلقت العدالة الانتقالية في اليمن في نوفمبر 2011 بعد توقيع المبادرة الخليجية التي تضمنت وقف جميع أشكال الانتقام والملاحقة لرئيس الجمهورية وأركان نظامه من خلال إقرار قانون حصانة لهم، بالإضافة إلى تدابير لتحقيق المصالحة الوطنية وضمان عدم تكرار الانتهاكات المستقبلية. عقب صدور قانون الحصانة، أعدّت وزارة الشؤون القانونية المسودة الأولى لمشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في فبراير 2012، ولكنها لاقت معارضة من طرفي العملية السياسية، تركزت حول آليات تطبيق العدالة الانتقالية والفترة الزمنية التي يغطيها القانون، على إثر ذلك تم إحالة المشروع إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في يونيو 2012، وتم تعديل المسودة وتقديمها إلى مجلس النواب في 2013، ومع ذلك لم يتم التوافق عليه وسُحب في سبتمبر 2013 تنفيذاً للنقطة (17) من النقاط العشرين، التي نصت على ضرورة التسريع في إصدار قانون العدالة الانتقالية بالتوافق بين مكونات العملية السياسية، وما تضمنته مصفوفة الإجراءات التنفيذية المقدمة من اللجنة الفنية للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني.
ومع انطلاق مؤتمر الحوار الوطني في 18 مارس 2013، تم تقسيم قضايا الحوار الوطني على تسعة فرق، من بينها فريق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، والذي خرج بعدد من القرارات والنتائج والتوصيات التي استوعبتها لجنة صياغة الدستور في مسودة دستور اليمن الجديد وعملت وزارة الشؤون القانونية على بلورتها وإخراجها في مشروع قانون العدالة الانتقالية رقم () لسنة 2014، وان كان مشروع القانون لم يرى النور بعد حتى يومنا هذا، بسبب الأوضاع التي عاشتها وتعيشها اليمن، بيد انه تم إنشاء وتشكيل عدد من اللجان المتخصصة.
وبعد انقلاب جماعة أنصار الله على السلطة في سبتمبر 2014 وما ترتب عن ذلك من استمرار الصراع واحتدامه، وتعثر العدالة الانتقالية وما خلفه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وخطيرة للقانون الدولي الإنساني؛ يؤكد الحاجة الى الملحة الى إرساء قواعد العدالة الانتقالية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الجديد في اليمن الذي تجاوز ما كان مطروحاً من قبل وبرزت متطلبات جديدة ومختلفة عما كان في السابق.
تحديات العدالة الانتقالية في اليمن
تواجه عملية العدالة الانتقالية في اليمن التي أنهكتها ومزقتها الحروب في تعزيز سيادة القانون وتجاوز آثار الماضي واسعة النطاق، في ظل مؤسسات مدمرة وشحة الموارد وأمن منقوص وانقسام الشعب تحديات كبيرة من بينها: انعدام الإرادة السياسية للإصلاح، وانعدام الاستقلال المؤسسي داخل قطاع العدالة، وانقسام القوات والمسلحة والأمن واستحداث عناصر وتشكيلات مسلحة غير نظامية، وانعدام القدرة الفنية المحلية، والافتقار الى الموارد المادية والمالية، وانعدام ثقة الجمهور في الحكومة، وانعدام الاحترام الرسمي لحقوق الإنسان، وأخيرا انعدام السلام والأمن الإنساني.
العدالة الجنائية والعدالة التصالحية
العدالة الانتقالية تتخذ شكلين رئيسيين: الجنائية والتصالحيّة، في النموذج الجنائي، تُعتبر المساءلة والمحاسبة الجنائية آلية أساسية، تقتضي الالتزام بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، أما النموذج التصالحي، فيسعى إلى تعزيز التوافق الاجتماعي والسياسي، مما يسهم في تحقيق السلام واستقرار المجتمع، وبالتالي تتوازى الحاجة إلى المساءلة مع ضرورة بناء توافق مجتمعي لتحقيق السلام الدائم.
وبالعودة الى السياق التاريخي لليمن بشطريه الشمالي والجنوبي منذ عام 1962 وحتى يومنا فإنه قد تخلله العديد من الصراعات السياسية والعسكرية والتي أسفر عنها العديد من الانتهاكات، سعت الى معالجتها من خلال تغليب قيم التسامح والتصالح والسلم الاجتماعي وذلك بإصدار قوانين عفو شامل وقرارات عفو خاصة عن العقوبات الصادرة بحق المحكوم عليهم ومنح الحصانة التامة من الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس الأسبق علي عبد الله صالح ومن عمل معه خلال فترة حكمه، ووفقا للويس جواني، فإن منح العفو بعد إدانة شخص ما، إما لتخفيف الحكم، وإما لتمكين الشخص المدان من تفادي تنفيذ مدة العقوبة كاملة، لا يمكن أن يكون مقبولا فحسب، بل محبذا أيضا في عملية الانتقال كون الحكم القضائي يلبي المطالب ذات الصلة من أجل الحقيقة وإعادة التأهيل وإنصاف الضحايا.
وعلى النقيض من ذلك نهجت مسلك العدالة الجنائية في الانتهاكات المرتكبة منذ العام 2011 ويتضح ذلك جلياً من خلال قرار إنشاء اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان الذي اوجب عليها إحالة الملفات التي اكتمل التحقيق فيها الى النيابة العامة لاتخاذ اللازم، وما اوجبته مسودة دستور اليمن الجديد على الدولة باتخاذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وفق سياسة وطنية تتضمن عدم التنصل من المسؤولية عن الانتهاكات ووضع الية لمساءلة ومحاسبة الافراد والجماعات والمؤسسات المسؤولة عن هذه الانتهاكات، وما طرأ على الساحة من مستجدات عقب انقلاب جماعة أنصار الله على السطلة، وما ترتب على ذلك من انقسام السلطة القضائية وصدور أحكام قضائية ضد قيادات طرفي الصراع.
إن الأخذ بالمساءلة والمحاسبة الجنائية بشكل مفرط قد يهدد إمكانية إقامة السلام المستدام، وهو ما تحتاجه اليمن أكثر من حاجتها للعدالة الجنائية، وفي الوقت ذاته يحتاج المجتمع اليمني إلى الوقوف على حقيقة الانتهاكات التي وقعت في الماضي، والاعتراف بها وتوثيقها رسمياً، حتى يتمكن من استعادة كرامة الضحايا، وجبر الضرر، والمضي قدماً في عملية المصالحة الوطنية، وتحقيق السلام المنشود.
دور الأمم المتحدة في مجال العدالة الانتقالية
تلعب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان دوراً بارزاً في مجال العدالة الانتقالية من خلال تحديد المعايير وأفضل الممارسات، والمساعدة في تصميم وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية، كما تقدم الدعم الفني والمادي والمالي، وتعزز إدماج حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في اتفاقات السلام لضمان تنفيذها بفعالية ونجاح.
الطريق نحو السلام المنشود في اليمن
من خلال دراسة تجارب العدالة الانتقالية، وخصوصاً التجربة المغربية التي حققت نجاحاً ملموساً وأصبحت نموذجاً يُحتذى به بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، يتضح أن العدالة الانتقالية تساهم بشكل فعال في معالجة ماضي الانتهاكات والانقسامات، إذا تم تصميمها لتكون محددة السياق ومرتكزة على احتياجات الضحايا، فإنها تعزز التواصل بين المجتمعات وتحقق تحولاً إيجابياً في تصورات الأفراد حول وضعهم وأدوارهم كمستفيدين من العملية، مما يحقق تطوراً جوهرياً في بناء السلام والمصالحة المستدامة.
ختاماً، ينبغي أن تولي أي تسوية سياسية قادمة في اليمن أهمية كبيرة لتضمين أحكام العدالة الانتقالية بشكل جوهري، لضمان معالجة آثار الصراعات السياسية والعسكرية التي عانت منها البلاد. من خلال هذا النهج، يمكن تقليل احتمالات تكرار هذه الصراعات وتعزيز المصالحة الوطنية، مما يسهم في بناء سلام شامل، عادل، ومستدام، يعيد بناء الثقة ويعزز الاستقرار في المجتمع اليمني.