شهد هذا الأسبوع الذي ودعناه، افتتاح الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الثالثة 2023-2024، وهو أسبوع يؤشر على “دخول برلماني” جديد مُحَمَّل بالعديد من الاستحقاقات والمعطيات والملفات.
وهي مناسبة لمقاربة بعض القضايا التي تعني من قريب الشأن البرلماني، وتعني بالتَّبَع مجمل المؤسسات والسياسات، وسنتوقف عند حدثين عرفهما مجلس النواب قبل ثلاثة أشهر، ما تزال لهما الراهنية والحاجة للتناول.
ويتعلق الحدث الأول بالجلسة السنوية المخصصة لتقييم السياسات العمومية التي عقدها مجلس النواب يوم الثلاثاء 18 يوليوز الماضي، وتناول خلالها تقرير” اللجنة الموضوعاتية المكلفة بتقييم الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021″. أما الحدث الثاني فيخص السؤال الشفوي الذي تضمنه جدول أعمال الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفوية ليوم الإثنين 24 يوليوز 2023، والمتعلق بتفاعل وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة مع تقارير هيئات الحكامة.
تقرير تقييم الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021″: جهد مقدر
تضمن تقرير” اللجنة الموضوعاتية المكلفة بتقييم الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021″، توصيفا دقيقا لهذه الخطة وجردا للخلاصات التي أثارها تفعيلها، وبيانا
للتوصيات القمينة بالتطويرات المستقبلية.
وقد خصَّ التقريرُ محورَ التحول الرقمي ب 17 توصية هامة تناولت مختلف جوانب نشاط الإدارة العمومية، ويمكن استعراض أبرزها في العناوين الآتية:
المستوى المؤسساتي: ضرورة منح وكالة التنمية الرقمية سلطات أكبر للاستشارة والإشراف الفعلي على جميع صفقات الرقمنة بجميع القطاعات الحكومية؛
المستوى القانوني: إصدار قانون مؤطر للتحول الرقمي بالمرافق العمومية، وإصدار النصوص التطبيقية للقانون رقم 43.20 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعلومات الإلكترونية؛
المستوى التنظيمي: تعزيز رقمنة الخدمات العمومية وتحيين منصاتها وتوحيدها، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتطوير جودة البنية التحتية للاتصالات، وتكوين الموارد البشرية في مجال الرقمنة؛
المستوى المجتمعي: العمل على التعريف بمختلف الخدمات الالكترونية في صفوف المواطنين من خلال اعتماد تدابير لمحاربة الأمية الرقمية، ونشر الثقافة المعلوماتية لدى المواطنين والتحسيس بأهميتها، وتقوية الأمن المعلوماتي لتعزيز ثقة المواطنين في الرقمنة، ومن جهة أخرى، العمل على إشراك المستفيدين من الخدمات الالكترونية في
مسلسل الرقمنة الإدارية بمن فيهم المرتفقين والموظفين والمقاولات.
تأكيد وإغناء:
يسجَّل للتقرير جهدُه المقدر في الإحاطة بالجوانب المتعلقة بالخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021، بلورةً وتنزيلا، وهو جدير بالتنويه بصفة خاصة بما رسمه من آفاق تطويرية لورش التحول الرقمي للمرافق العمومية.
وحسْبُنا أن نتوقف عند بعض جوانب الموضوع، تأكيدا وإغناءً، بقول ما يلي:
إن المؤكد تاريخيا أن بلورة الوزارة المكلفة بإصلاح الإدارة والوظيفية العمومية، للخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021، تزامن مع سريان مخطط المغرب الرقمي 2020 الذي أشرفت على بلورته وزارة الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، وعند استحضار المشترك بين الخطة والمخطط وهو التحول الرقمي، يتجلى تنافر المقاربات التخطيطية داخل الجهاز التنفيذي الواحد، مما يطرح سؤال الانسجام والالتقائية. وهو العطب الذي وضعت عليه اللجنة الموضوعاتية اليد بدعوتها إلى “الاهتمام بمسألة الالتقائية أثناء الإعداد أو التنفيذ مع ضرورة ضمان تكامل كافة أهداف ومشاريع أي استراتيجية مع الاستراتيجيات المتقاطعة لتحقيق الحكامة الجيدة وترشيد الموارد المستخدمة والرفع من نسبة الإنجاز”( ص 319)؛
لقد كان مثيرا للانتباه عدم تعرض تقرير اللجنة الموضوعاتية لمشروع الاستراتيجية الرقمية في أفق 2030، وهو معطى دال يعني سياقيا عمل اللجنة. لكن الأدل هو افتقار عملية بلورة هذا المشروع إلى منهجية تشاركية أوسع، وهو الأمر الذي أعطب بلورة مخططات المغرب الرقمي ل2005 و2013 و2020، ويتأكد ذات العطب فيما يخص بناء الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة: 2018-2021، حيث خلصت اللجنة الموضوعاتية إلى القول: ”يتأكد على أن الوزارة الوصية على إعداد الخطة لم تُوَفَق في اعتماد المنهجية التشاركية في مرحلة إعدادها”(ص 58)؛
إن إنجاح استحقاقات التحول الرقمي الوطني برهاناته الاستراتيجية، بنجاعة واقتدار، ينوء بحمله القطاع الوصي. وإذا كانت اللجنة البرلمانية قد خلصت إلى القول بضرورة ”توسيع صلاحيات قطاع إصلاح الإدارة لتمكينه من القيام بمهامه بشكل أفقي(…)، للإشراف وتتبع تنفيذ السياسات والبرامج الحكومية المتعلقة بالإدارة”( ص 316)، فقد لا يكون هذا المدخل جزء من الحل.
فهل سيساهم إحداث مديرية عامة للتحول الرقمي بذات الوزارة في علاج عطب ضعف قيادة ورش التحول الرقمي الوطني؟ أم لا سبيل إلى ذلك إلا بإحداث وزارةٍ لا وظيفة لها غير هذه الوظيفة؟
تثمين تقرير تنفيذ خطة 2018-2021 وباقي تقارير المؤسسات الدستورية: أين الخلل؟
أفادت الوزيرة المنتدبة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة في معرض جوابها، على السؤال الشفوي في جلسة الإثنين 24 يوليوز 2023، المتعلق بتفاعل الوزارة مع
تقارير هيئات الحكامة، أن التوصيات الواردة في هاته التقارير تعتبر ”إطارا مرجعيا لإعداد السياسات العمومية والاستراتيجيات والمخططات الحكومية”، وأضافت أن ” الحكومة تتفاعل بشكل إيجابي مع تقارير هذه الهيئات وتعتبر توصياتها مدخلا”، وأكدت أنه من منطلق مقتضيات المادة 15 من قانون ميثاق المرافق العمومية فإن الوزارة تقوم ” بتتبع جميع التقارير الصادرة عن هيئات الحكامة وتُدْرِجها في برنامج عملها، وتكون لتوصياتها الأولوية في مخططات عملها”.
وبالرجوع للمادة 15 من القانون 54.19 المتعلق بميثاق المرافق العمومية المشار إليها، يظهر فعلا تأكيدها على وجوب أن تعمل هذه الأخيرة على ” تفعيل وتتبع تنفيذ التوصيات الهادفة إلى تدعيم قواعد الحكامة الجيدة بها وتحسين علاقتها بالمرتفقين، الصادرة عن هيئات المراقبة والضبط والحكامة والمؤسسات الاستشارية، لا سيما تلك المنصوص عليها في الدستور”، وألزمت بأن “تعمل المرافق العمومية المعنية بالتوصيات أعلاه على نشر الإجراءات المتخذة لتفعيلها بجميع الوسائل المتاحة، وذلك خلال السنة الموالية لصدورها”.
فالظاهر أنه منذ نشر قانون ميثاق المرافق العمومية في 22/07/2021 (قبل سنتين ونيف)، صدرت تقارير لعدة مؤسسات دستورية للحكامة، ومن أبرزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الأعلى للحسابات، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ومؤسسة الوسيط، تضمنت العديد من التوصيات المتعلقة بنظام الحكامة، غير أن القطاعات العمومية المعنية لا تعمل على نشر إجراءات التفعيل وداخل أجل السنة الموالية لصدور تلك التوصيات كما هو محدد قانونا، ومن أهم هذه القطاعات وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة نفسها.
قد يسجل إيجابا لبعض تلك القطاعات اجتهادها في تفعيل التوصيات المعنية، وتثمينها من مدخل بناء المخططات والبرامج العمومية- كما قالت الوزيرة في جوابها- لكن لا يعلم الرأي العام ما هي المؤسسات التي قامت بواجب التفعيل وما هي حدود هذا التفعيل؟؟.
إن المؤسسات الوطنية ليست مكاتب دراسات، وهي عندما تُصْدِرُ تقارير عن أداء المرافق العمومية، فذلك ليس غاية مطلوبة لذاتها، بل هو تَمَثُّلٌ لصميم وظائفها القانونية، ويتعين أن يعتبر المدبرون العموميون تلك التقارير مرآة لأدائهم، وفرصة لتطوير مقارباتهم وسياساتهم، لذلك يلزمهم أن يحيطوها بما هي جديرة به من العناية، دراسةً وتفعيلاً ومتابعةً وتواصلاً وتقديمًا للحساب.
وإلى جانب مسؤولية القطاعات العمومية، التي رتبتها المادة 15، فإن رهان تثمين أداء مؤسسات الحكامة يقتضي من ثلاث جهات مؤسساتية ما يلي:
قيام مؤسسات الحكامة نفسها، بتثمين توصياتها المتعلقة بالأداء المرفقي العام، بإرساء أنظمة لتتبع مآل تلك التوصيات، على غرار المبادرة المحمودة للمجلس الأعلى للحسابات الذي أطلق في 29 يونيه 2022 منصة رقمية لتلك الغاية؛
عكوف المؤسسات الأكاديمية والبحثية، على رصد تفاعل القطاعات العامة مع تقارير مؤسسات الحكامة وعموم المؤسسات الوطنية، ودراسة آثار التقييمات والتوصيات الصادرة فيها على الاختيارات العمومية، ولا شك أن شيئا من ذلك يحصل يقينا، لكن الرهان التنموي يقتضي من البحث العلمي أن ينهض لهذه المهمة باستعجالية واقتدار؛
ليس البرلمان في حِلٍّ من إرساء نظام لتتبع مآل التوصيات الصادرة في تقارير مجموعاته الموضوعاتية ولجانه الاستطلاعية المؤقتة، فهي مسؤولية ذاتية أحْرَى أن يقوم بها ابتداء وأصالة، وفي المقام الثاني يلزمه أن يَدْعَم جهود المؤسسات المنتجة للتوصيات المرفقية من مدخل الوظيفة الرقابية على المؤسسة التنفيذية التي أناطها به الدستور؛
وتبقى المسؤولية الأولى على عاتق السلطة التنفيذية من أجل حسن تفعيل توصيات المؤسسات الدستورية، كما تبقى مسؤولية الوزارة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة قائمة ومعتبرة فيما يخص التوصيات المرفقية بصفة عامة والتوصيات ذات الصلة بالتحول الرقمي بصفة خاصة.